أبو عياش | المغني الذي حبسته كل السلطات

مثّل المغنّي الشعبي الفلسطينيّ نايف أبو عيّاش، الذي توفيّ يوم الأمس ٢٩ كانون ثاني/ يناير. ٢٠١٤ حالة صاخبة تناقضت أحياناً مع تاريخها. فمن مغنّي أعراس إلى فدائي ثم معتقل في السجون الإسرائيليّة. ومن مطالب بترئيس محمّد دحلان إلى الاعتقال على أيدي فتح وغناء الأغاني العبريّة في الأعراس والغناء عن الأنفاق بين رفح وغزّة. أحمد اليازوري من غزّة يكتب حول هذه التجربة، راصداً تناقضاتها وتجليّاتها الاجتماعيّة والسياسيّة.

ما الذي يعنيه أن يموت نايف أبو عياش؟ إذ ربّما بتتبّع سيرة المطرب الشعبي الأبرز بلا منازع في قطاع غزة، والمعروف بصخبه الغنائي يمكن القبض على الحالة التي عكس بها صوت الفقراء والمهمشين في غزّة وخارجها بكل تعقيداتها السياسية والاجتماعية.

عاش أبو عيّاش في مخيم اللاجئين في مدينة رفح، وتربّى في كنف جدته بعد وفاة والده الذي كان يعمل في كتيبة مصريّة إبان حرب ١٩٦٧ بعد أن كان مطارداً من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. عرف أبو عيّاش طريقه إلى الغناء مبكّراً، وذلك بعد أن اكتشفه مدرّس للغة العربيّة في إحدى المناسبات التي كان الأوّل يقود فرقته الفنيّة فيها. وفي مطلع الثمانينيّات، التحق الفنّان بإحدى المجموعات الفدائيّة قبل أن يعتقل في سجون الاحتلال، ليمضي بعدها سنوات متتابعة من الاعتقال المتواصل، والتنقّل بين معتقل وآخر، ثم الإفراج عنه في العام ١٩٩٣ بعد توقيع اتفاقيّة أوسلو.

في ذلك الوقت، لم يكن أبو عيّاش يكتفي بالغناء في المناسبات الاجتماعية، بل انخرط بشكل مباشر في الغناء للعمل المقاوم، والدعوة لتخليد ذكرى الشهداء.

صوّب رصاصك يا أخي، صوّب الرؤوس الخائنة، هكذا أرّخ أبو عيّاش لمولد أغنيته السياسيّة الأولى: “سيري صقور الفتح، والتّي ألفها ولحنها خلال فترة اعتقاله. بعد هذه الأغنية، بدأ أبو عيّاش يعرف بالمغني الوطنيّ بعد غنائه لعدد كبير من الأغاني الوطنيّة التي انتشرت في تلك الفترة: من الغناء للقيادات، إلى الغناء لفدائيي العمل المقاوم. ساعده في الانتشار قدرته على تسخير كلمات وألحان الأغاني التراثيّة لتتماشى مع فترة الانتفاضة الفلسطينيّة، لتتحوّل بعد ذلك إلى أغانٍ عن الحصار ومعاناة سكان قطاع غزة، كما فعل مع أغنية الدلعونة التي ليس لها أثر، والتي بدأها بـهاتلك قزازة، وفيها بنزين، وشوية كلكل مع مسامير، حطلك فيها، نتفة فتيلة، ولّعها واضرب عالصهيونيّة“. إضافة إلى مشاركته للفعاليّات النضاليّة داخل السجون وخارجها، ليغنّي في الجامعات والمؤسسات بعد أن بدأت شعبيته بالصعود.

سياسيّاً، غنّى أبو عيّاش للجميع، وعوقب من الجميع. فرغم انتمائه العقائديّ إلى حركة فتح، كان الفنّان يردّد دائماً: “انحبست عند كل السلطات، ما ضل غير سلطة الطاقة تحبسني“. فقبل خروج الحركة من غزّة بأواخر عهد سلطة أوسلو هناك، شتم في أغانيه كوادر وقيادات الحركة، متّهماً إيّاهم بالسرقة حتّى اعتقل وأطلق الرصاص على ساقيهكما غنّى لمحمّد دحلان، هاتفاً في حفلاته الشعبيّة عليّ الطلاق أبو فادي هو الرئيس“.

لكن في مقدّمة لأغنيته عن صفقة شاليط اسم جندي اسرائيلي أسرته حماس في ٢٠٠٦ التي حرّرت ١٤٠٠ أسير من سجون الاحتلال (٢٠١١)، ظهر أبو عيّاش وهو يبرّر، بشكل نادر، تناقضاته السياسيّة قائلاً: “قولوا قلب أورانج شركة اتصالات تعمل في إسرائيل، كانت المقاومة تعتقل مستخدمي شرائح أورانج في غزة للاشتباه بالعمالة للاحتلال” ، “قلب جوّال مشغّل الاتصالات في الضفّة الغربيّة وغزة“، قلب راس، قلب جمباز، قولوا اللي تقولوه، إحنا عايزين نغنّي عن اللي إحنا عايزنه، أنا بدي أغني للأسرى: تحيا غزّة، يحيا الوفد المفاوض وعلى رأسهم القائد أحمد الجعبري قائد كتائب القسّام“. بينما في ذروة الحصار على غزّة، غنّى في العام ٢٠٠٧ للأنفاق، ممجّداً العاملين فيها وإنجازاتها.

رغم خروج أبو عيّاش على قوالب التنميط الغنائي بصوته الذي يوصف بالـ رديء والأجش، حظي بشعبيّة هائلة حتى لدى اختفائه عن الساحة السياسيّة في العامين الماضيين، حيث اكتشف الجميع أنّه كان خلالها يحيي حفلات الاعراس لأبناء القبائل البدويّة في سيناء. ومنذ يومين فقط، غنى موّاله الأخير لسائقي الاسعاف والممرضين في مستشفى أبو يوسف النجّار، حيث كان يمكث قبل أن يغيّبه الموت.

شخصيّاً، آخر مرة استمعت فيها لأبو عياش عندما كنت جالساً بجانب السائق الذي اصطحبني من القاهرة إلى المعبر في أواخر العام الماضيطيلة رحلة الـ ٣٥٠ كيلومتر من القاهرة إلى رفح، لم يستمع السائق إلّا إلى أبو عيّاش، خاصّة أغانيه ومواويله عن الأنفاق التي لا توجد إلّا على شريط كاسيت مهترئ. كان السائق البدوي لا يوقف الأغنية إلا عند عبورنا من كمين، عبرنا وقتها أكثر من ثلاثين كمين للجيش المصريّ. وكلّما تجاوزنا واحداً منها، كان ينهال بسيل من الشتائم على من أوصلهم إلى حالة بائسة في سيناء، ثم يرفع الصوت إلى درجة قياسية حتى يبقى مستيقظاً لانه لم ينم منذ أيام. أخبرني السائق أنّه ذهب مرّة عبر الأنفاق إلى غزة ليحضر حفلة لأبو عيّاش، وحضر آخر حفلة له في شمال سينا بعد أن ذاع صيته بين القبائل البدويّة وانخرط بينهم. بعد وصولنا إلى العريش، فتح السائق الراديو على إذاعة محليّة من قطاع غزة لأن تردداتها تصل إلى داخل الأراضي المصريّة القريبة. وبعد أن وصلنا المعبر وأنا أحضّر نفسي للنزول، قال لي: “جاي عندكم كمان يومين أحضر حفلة“. ذلك لن يحصل.


تم تحديث المقال في ٢ تشرين الأول، ٢٠١٦.