صار واضحًا اليوم أن الصوت المسموع هو صوت الأفراد. هذا ما نلمسه على وسائل التواصل الاجتماعي بانتزاع الأشخاص العاديين لمكبّرات صوت يصل صداها إلى العالم أجمع. منذ السابع من أكتوبر والحكومات ومؤسساتها تكذب صراحةً أمام العالم بأكمله، ما استدعى نقلةً جادة في إعطاء المايك لمن يستحقون أن تُسمع أصواتهم. تحققت اليوم هذه النقلة في تصدّر المشاهد الجادّة وتسليم الرايات في أغلب المجالات: في الأخبار، وفي التغطية الصحفية للحرب على غزة، وفي السرديات المختلفة التي نراها على تيك توك. غالبية متصدّري هذا المشهد هم مواليد الجيل زي، فلا أحد ينتظر اليوم أن يسمع الحقيقة من فم بايدن، أو يتطلع إلى نتائج اجتماعات مجالس الأمم المتحدة والقمم العربية، ولا أحد ينتظر رئيسًا واحدًا ليعبّر عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني ضد حربٍ يخوضها منذ ١٩٤٨.
يطرح الأفراد أصحاب ملايين المتابعين أفكارهم بوضوح لكن بطرق مبتدعة تناسب الحظر المفروض، سواء في اللغة المستخدمة على تطبيقات ميتا وتيك توك، أو في طريقة نقلهم الأخبار والأساليب غير المألوفة لإيصال الأفكار. نصّب هذا الجيل نفسه كناقل للصورة بشكلٍ مستقل، وهذا ما نشهده مع الصحفيين على الأرض في غزة. فتى مثل عبود نصّب نفسه وريثًا وحيدًا لشيرين أبو عاقلة، ينشر فيديوهات عفوية ويجدد فينا روحًا حسبناها ماتت، وصوت القصف مسموع في الخلفية؛ وفتاة كـ بيسان وثقّت بشكلٍ يومي منذ بداية الطوفان كيف يتعامل الغزيّون مع وحشية الاحتلال وأساليبه في الانتقام منهم. وجّه هؤلاء وغيرهم أنظار العالم نحو قضيتهم بكاميرا هاتف واتصال إنترنت إن وجد، مصوّرين من قلب الحدث، وهو ما تعجز عنه أغلب القنوات الإخبارية بالروايات الكاذبة والسرديات الملفّقة، وفي السي إن إن والبي بي سي خير دليل.
تكشّف منذ السابع من أكتوبر وإلى هذه اللحظة أننا متّجهون نحو ثورة جديدة عالمية، وأن العالم كما عهدناه منذ الحرب العالمية الثانية سيتبدّل شكله. ستطال هذه التغييرات ما يؤثر على حياتنا، وتفاعلاتنا ومن يشبهنا، مع الآخر الذي استعمرنا والذي أصبح واجبًا علينا أن نحجّمه في مكانٍ ضيق، ونقصي نظرياته وتعاليه الذي شبعنا منه. هذا الطرح متجلٍّ اليوم بوضوح لمن تابع منذ الطوفان كيف التزم حكّام العالم وقنواته الإعلامية ومؤسساته على تنوّعها الصمت أو الإدانة للفِعل المقاوم.
في زمن سطوة السوشال ميديا وابتداع صحافة ذاتية غير مشوّهة، ولّت أيام انخداع العالم بالكذب الأبيض الداعي لنشر السلام وإعطاء الحقوق وتصدّر أبواق الإعلام وتشكيله لرؤيتنا، نحن مواطنو الدول المنهوبة. لم يعد مقبولًا أن تستمر المؤسسات البيضاء بلعب دور الوصاية على أفكارنا، أصبح علينا الآن الانطلاق مما نملك، أن نبنيه من الصفر. يباغتنا هذا التغيير – الذي احتجناه بشدّة – اليوم كمن يُصفَع ليستيقظ من النوم، وعلينا أن نتدارك ألم الصفعة لأننا سنلمس أثرها في السنوات القادمة. سيطال التغيير القادم جمع المؤسسات الفنية والثقافية، التي واظبت منذ تأسيسها على التزام معايير الأبيض ولغته التي تراعي فقط ما يكسبون من وراءه التمويل والدعم العالمي، وأيضًا حيازة هذه المؤسسات لمصطلح الحريات وتشكيلها على هواهم، والتي تُفرَض علينا باعتبارنا أقلّ انفتاحًا. النهضة القادمة تعني أيضًا إعادة تشكيل مفهومنا في الثقافة والفنون، وكيف سننسلخ عمّا حاولت مؤسسات الغرب زرعه فينا.
على جبهة الإنتاجات الموسيقية، وللحديث عن شكل الفن أو دوره في وقت الحروب منبر آخر، جاء النصيب الأكبر في إظهار الدعم من الفنانين الصغار، الذين بدأوا مسيراتهم في السنوات القليلة الماضية. حاول مجموعة من نجوم البوب والراب في العالم العربي وضع جهودهم في راجعين؛ وباعتبار الفن مساحة ترفيه لا مواجهة وغضب، كيف يمكننا أن نجلس الآن لنقدٍ فنيّ في الوقت الذي نشهد فيه إبادة جماعية لأكثر من ٢ مليون إنسان في غزة؟ يأتي الجواب بأن هذه الأعمال توثّق لحظةً ما في التاريخ وتجمّدها في أغنية أو فيلم أو صورة، بالإضافة إلى أنها ليست قادمة من فراغ، إنما وُلِدت في وسط الحدث وتوثّق له.
في أغنية راجعين اجتمع خمسة وعشرون فنانًا من ١١ دولة عربية، أغلبهم في العشرينات من أعمارهم، ليقدّموا ما تملكه أصواتهم فقط دعمًا لفلسطين في حرب الطوفان. من المهم الحديث عن عمل بهذه الضخامة والسرعة في الإنتاج لمواكبة الحدث.
يجب لفت النظر أن منتجي راجعين هم من أخذوا المبادرة الوحيدة حتى الآن، جامعين هذا العدد الكبير من الأشخاص لإيصال صوت القضية الفلسطينية ونشرها على نطاق أوسع، ما يضع العمل اليوم ضمن واحدة من المبادرات المطلوبة. حتى الجهات الداعمة لهذا العمل اتضح أنها جهات فردية لا تخضع لشروط وقيود الأعمال الممولة حكوميًا، فالأعمال الفردية تعني أن العمل سيكون أكثر انفتاحًا وجرأة في الطرح، تمامًا كعمل الصحفيين المستقلين بعيدًا عن الإعلام المؤسساتي الممول حكوميًا.
التشكيلة المشاركة في العمل غير متوقعة وتسبّب ارتباكًا لمن يسمعها، لأنها تجمع فنانين بخبرات موسيقية متفاوتة، فيظهر عدم النضج في مقاطع الأصوات الأقل خبرة، ما صدّر العمل كاملًا كتجربة أولية غير مكتملة النضج. يقول منتجو الأغنية إنها إعادة إنتاج معاصر لأوبريت الحلم العربي وأغنية وي آر ذَ وورلد، ويوقفني الحديث عن الأخيرة في هذا السياق أنها إنتاج أمريكي لدعم أفريقيا، يعني بيقتل القتيل وبيمشي بجنازته. تأتي الهفوة في إعلان راجعين على أنها قادمة من هذا التصوّر، أي أن تكون نشيدًا للشباب العربي إلى العالم لإيصال صوت القضية الفلسطينية.
عام ١٩٩٨ اجتمع واحد وعشرين فنانًا من البلاد العربية لأداء أوبريت الحلم العربي، بكلمات مدحت العدل وتلحين صلاح الشرنوبي وتوزيع حميد الشاعري، وللمفارقة اليوم، الأوبريت إنتاج إماراتي. يبدأ الأوبريت بجملة “أجيال ورا أجيال / هتعيش على حلمنا”، ويمكن لأي شخص سمعها منذ طفولته أن يسرد باقي كلماتها عن غيب. منذ بدايتها، تُصدِّر كلمات الأوبريت الصورة الانهزامية للمواطن العربي الذي لا يملك سوى الأحلام والأمنيات والأمل بوحدة عربية شاملة. رغم أن العمل مدروس ومنظّم بشكلٍ واضح من نواحي الإنتاج الموسيقي والتوزيع ووقوف الفنانين والفنانات جميعًا على خط واحد في الأداء، إلا أن الأوبريت لا يمكن سماعه اليوم دون الضحك على طريقة تصديره للوطن العربي كشخصية متباكية مخذولة تبحث عن أمانٍ ما وحضن واسع، كأن ما يحتاجه العالم العربي طبطبة وليس أن يكون كيانًا فاعلًا رافضًا الاحتلال وقمع الحكومات.
تبدأ راجعين بصوت هادئ وصدى ولحن باعث على الحزن ذو نَفَس انهزامي، وأننا لا نملك سوى الدعاء والعون من الله. هذه السردية مطلوبة في سياقات أخرى مثل الكوارث الطبيعية. أفهم وجودها في راجعين لأن كل من هم خارج غزة يكررون أسطوانة ما باليد حيلة، لكنها اليوم، وتحديدًا بعد الطوفان غير ملائمة، إذ أرتنا المقاومة في غزة أنها قادرة على تدبّر أمورها بنفسها وأكثر. يتم تدارك هذه الوصلة البكائية مع دخول مقاطع الراب الغاضبة، والتي لو أُنتِجَت كلًّا على حدة بتراك منفصل ستكون أفضل بكثير من ناحية السرد الملائم لموقف اليوم. أُنتِجت راجعين في وقتٍ قصير لتظهر كقرارٍ متسرّع، وإن كان نابعًا بالأساس من نيّة صادقة لدعم القضية.
في راجعين نقطة جوهرية تٌحسب لصانعيها تتمثّل في الكورس وبعض مقاطعها التي تبيّن موقف المنتجين والفنانين من القضية، بالتأكيد على خارطة حدود فلسطين من النهر إلى البحر، وحق العودة، والنصر أو الشهادة، وهي مواقف قوية إذا ما قورنت بكلمات الحلم العربي، التي لا تملك في دقائقها الـ ١٨ سوى جملة واحدة مهمّة: “بيعيد تشكيل العالم / أطفال بإيدها حجارة”. لكن الأطفال كبروا وأصبحوا اليوم يخطفون الدبابات ويصنعون الصواريخ.
من الممكن أن نحسب لراجعين نجاحًا ما إذا نظرنا إلى أصحاب الأصوات المؤثرة فيها، فنسمع مروان موسى صارخًا: “فدائي فدائي فدائي”، وفؤاد القريتلي: “بطوفاني أجول وأحميها”، مؤكَِدًا على كلمة الطوفان كتعريف جديد للفِعل المقاوِم. بالإضافة إلى باقي مقاطع الراب في الأغنية التي ركّزت كلماتها على ثوابت القضية الفلسطينية كالصمود في الأرض ورفض التهجير مرة ثانية، وأن القدس ستتحرر وسنصلي هناك، مع الوقوف ضد التطبيع ورفض المجازر الإسرائيلية على قطاع غزة وباقي فلسطين. بذلك يستعيد الراب مكانته كمساحة تسمح لفنانيه أن يقولوا ما لم يمكن التعبير عنه في أغاني البوب وغيرها، فالرابر يتجه لهذا الجنرا حين لا تسعه القوافي والنغمات المملة لقول ما يبغيه دون قيود.
نلمس في راجعين غضبًا شبابيًا عارمًا؛ ولا نقول هنا أن أغنية واحدة تنقلنا من كل ما فُرِض علينا إلى المستقبل، لكنها خطوة أولى لمسيرة طويلة بدأت الآن لنفهم أن التغيير ينبش بدايةً في الأفكار، بدأت من حراك شبابي مستقل، وليس من جهة حكومية أو دولية. الغضب الموجود الآن في المظاهرات حول العالم دليل مهم على ذلك، وبالرغم من التقييد والمنع في الدول العربية، إلا أن صوت الشباب هو ما سيقود هذه النقلة في تشكيل وعي جديد، كما يفعل صوت الصحفيين المستقلين أثناء ملاحقتهم أكاذيب الإعلام.