كانت “موسيقى النهضة إحدى هذه الثقافات الموسيقية المغمورة التي تعيش تحت مصادرة فرق رسمية، أو عند قلة منكمشة من الهواة وجامعي اﻷسطوانات هم بمثابة كهنة معبد”، كتب فريدريك ﻻغرانج منذ قرابة ربع قرن. كان المرحوم عبد العزيز عناني أحد كبار كهنة هذا المعبد، صاحب واحدة من أكبر مجموعات التراث الغنائي النهضوي المصري. تعد مجموعته بمثابة خبيئة تاريخ مثل تلك التي في فيلم المومياء، بواسطتها يفك الباحثون رموز لغة موسيقية تقادم عليها العهد وأهيل عليها التراب.
صار هذا الكنز عرضة للضياع بعد وفاة كاهن معبده، وانتقل بعد تشتت بعضه إلى حيازة السيد كمال قصار، مؤسس ورئيس مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية (آمار)، حيث غدا الكنز مؤسسة مفتوحة للباحثين. في مقابلته مع معازف يحكي كمال قصار رحلة مجموعة عبد العزيز عناني من مصر إلى لبنان، وكيف صارت نواة أرشيف المؤسسة المتنامي، ومساهمة المؤسسة في إعادة اكتشاف تلك الموسيقى النهضوية، ومشاريعها السابقة واللاحقة.
بدايةً بيكون دايمًا فيه سؤال منين بييجي الشخص لهذه الموسيقى، يعني كانت إيه خلفية حضرتك ما قبل المؤسسة؟
أنا درست حقوق واشتغلت محامي، وأثناء دراستي للحقوق دخلت الكونسرڤاتوار وتعلمت الفلوت الغربية ٥ سنين، ﻷني بحب الموسيقى بشكل عام. بعدها رحت ع فرنسا وعشت فيها ١٥ سنة، وخلال هالإقامة بفرنسا تشوقت للموسيقى العربية وتعلقت فيها، وصرت إشتري كاسيت وسي دي وقصص من هالنوع لحتى أسمعها.
لما عدت للبنان بآخر الـ ٩٩ تشوقت أكتشف أصوات وأكتشف موسيقات غير اللي بتبثها الإذاعات، فصرت سافر على الشام وحلب وبغداد والقاهرة وتونس والجزائر، إبحث بمحلات اللي بيبيعوا كاسيتات وإشتري كمية كبيرة وجيبها على لبنان وأقعد اسمعها، فاتخلص من معظمها وخلي عندي الإشيا اللي بحبّا. كنت دائمًا ولّف وإعمل المونتاج، إعمل مثلًا باقة من اﻷغاني ومن الموسيقى، حطها على كاسيت ووزعها لأصدقائي، هيك بلشت أهتم يعني.
ضل هالشي موجود عندي، وأنا كتير بحب الموسيقى الكلاسيكية الغربية، عندي مكتبة ضخمة من الـ إل بيز (LPs) والسي ديز (CDs) للموسيقى الغربية وأنا بسمعها كتير، لكن عندي عطف خاص على الموسيقى العربية تبع منطقتنا. بسنة الـ ٢٠٠٦، بسبب توتر شديد صار في لبنان، انتقلنا مع الشركة اللي بشتغل فيها إلى دبي، ودخلت بمنتديات زمان الوصل وسماعي، إلى آخره، وصرت إتبادل بهالإطار مع أشخاص عندهم نفس اﻻهتمام. في ٢٠٠٧ اتصل فيي فريدريك ﻻغرانج وقال لي فيه أولاد عبد العزيز عناني بيبيعوا المجموعة بتاعتهم وهَيدي مجموعة فريدة من نوعها، ويا ريت بنعمل متل لمة بيناتنا وبنشتريها. قلت له ما بيصلح هالشي لإنه ﻻ يمكن استعمالها من عدة أشخاص فبدّا تكون مملوكة من شخص واحد وهو بينظمها، فرحت أنا على القاهرة والتقيت مع ابنه لعبد العزيز عناني واتفقت معه واشترينا المجموعة وجبناها على لبنان.
لكن قبل كدا حضرتك ما قابلتش عبد العزيز عناني ذات نفسه؟
ﻷ أنا ما قابلتوش. جبناها على لبنان وقعدنا نطّلع فيها وأنا قلت هَيدي مجموعة فيها تلات آلاف أسطوانة تقريبًا، كيف بدنا نستفيد منّا؟ يعني ﻻ يمكن إني حطها في خزانة أو دولاب وبتفرج عليها. فدغري إجتني الفكرة إنه لازم نعمل مؤسسة تهتم بهالمجموعة، ويكون عندا دور بنشر هالشي، هالكنز ياللي ما حدا بيعرفه غير بعض رواد المنتديات على الإنترنت وبشكل مجتزأ. فعملنا مؤتمر بالـ ٢٠٠٩ دعينا عليه ناس من مصر وتونس ولبنان وفرنسا وأمريكا وكندا، كُلُن ميوزيكولوجيستس (musicologists)، وحطينا خطة للمؤسسة، هية بشكل أساسي توسيع اﻷرشيف ووضعه قدر الإمكان بتصرف أكبر عدد ممكن من الناس.
بدأنا بالترقيم (أو الرقمنة، تحويل التسجيلات التناظرية إلى ملفّات رقميّة) وبنينا مركز للمؤسسة، ومن تركة عبد العزيز عناني إجتنا كمية كبيرة من كتالوجات شركات اﻷسطوانات، فعملنا متل نوع من المفكرة للأسطوانات ياللي عاوزين نشتريها، وبدأنا نجول بين هالدول اللي بنعرفا. اشترينا كمية كبيرة من الشام على مرتين تلاتة، اشترينا من اﻷردن واشترينا من لبنان مجموعة ضخمة، واشترينا وما زلنا نشتري من مصر. هلق عدد اﻷسطوانات ياللي عندنا يفوق تسعة آﻻف أسطوانة، وصار عنّا مجموعات كاملة ليوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وصالح عبد الحي، وبدأنا نعمل كل سنة إصدار لشخص أو مجموعة من اﻷشخاص وننشره في العالم. هلق هالسنة بيكون صار إلنا عشر سنين على إنشاء المؤسسة، وأصدرنا شي ١٢ عمل وعملنا شي ٢١٠ بودكاست على مدة ٤ سنوات.
خلينا ندي كل جزئية حقها ونتكلم في اﻷول على مجموعة عبد العزيز عناني. أنا مثلًا مصري ومولود في مصر، وكنت معاصر آخر حياة عبد العزيز عناني، لكني لم أسمع عنه أبدًا في التلفزيون المصري غير في حلقة واحدة في برنامج حكاوي القهاوي تبع سامية الإتربي. وحضرتك بتقول برضه إنك ما قابلتوش. حضرتك مش شاعر بخطورة إن نواة الحكاية كلها، نواة اﻷرشيف كله كان في يد شخص واحد وعُثر عليها بالصدفة؟
أكيد، ﻷنه قبل ما نشتري مجموعة عبد العزيز عناني إجت إذاعة إسرائيل وعرضت تشتريها، واتفقت مع بيت عبد العزيز عناني على السعر وكانوا راح يشتروها، لو ما صار إنه الصحافة تدخلت لحتى تمنع هالشي. ورتيبة الحفني إجت قالتلُن نحنا بنشتري المجموعة للأوپرا، فعدلوا عن بيع المجموعة لراديو إسرائيل وإجوا قالوا لرتيبة الحفني هاي هي المجموعة، اشتريها، قالتلُن ما عندي ميزانية.
هَيدا الوضع أكيد فيه خطورة، وهَيدا السبب إنه أنا عملت مؤسسة لحتى تضلّ من بعدي وتكمل المشروع. فصحيح إنه هاي صدفة صارت. هلق في كتير من اللي بإطار المؤسسة من فريدريك ﻻغرانج لڤرجينيا دانيلسون اشتغلوا عند عبد العزيز عناني على أطروحتُن، فهنّي بيعرفوا المجموعة من قبل ما أنا إشتريها، هَيدا اللي شجعني إنه أقدم على شراءها وكانت هي نواة المؤسسة. وهو عبد العزيز عناني مجموعته كانت أكبر بكتير من هيك، ولكن بآخر حياته بلش يبيع وباع أكتر من نص مجموعته، وقبل ما باعُن نقلهن على ريل (reel)، فهيك عدنا اضطرينا نشتري مبدئيًا كل ياللي ناقص. ومؤخرًا في كمان جامع اسمه علوي فريد وضع مجموعته للبيع وأخدنا منها جزء كبير. يعني المهم إنه بشكل نموذجي نحنا عم نأرشف هالأسطوانات، عم نرقمها بأحسن اﻷدوات الموجودة حاليًا بالعالم.
السنة الماضية اكتشفنا إنه في ساوند كارد جديدة كتير مهمة، اشتريناها وبيّن الفرق كبير بالنتيجة، فاضطرينا نرجع نرقم كل شي من أول وجديد لحتى يطلع عنّا أحسن نتيجة. نحنا عايشين على تحضير إصدارات، وكل سنة بنعمل إصدار أو إصدارين وبنوزعه بالعالم، بس عندي مشكلة كبيرة إنه التوزيع مثلًا في مصر صعب. عم نوزع في أمريكا عم نوزع في الياپان عم نوزع في كندا عم نوزع بكل أوروبا، عم نوزع في لبنان، بس بمصر مش عم بلاقي طريقة لحتى وزع.
خليني أرجع بعدين لمشاكل التوزيع لأني لم أرى أي إصدار للمؤسسة في مصر أبدًا، سوى إصدار يوسف المنيلاوي رأيته فقط في معرض الكتاب في الـ ٢٠١٨ وبالصدفة، بعد ٨ سنوات من إصداره. لكن في مقابل إن مجموعة عبد العزيز عناني ومجموعة غيره من الهواة كان محافَظ عليها في منازلهم، وما كانتش متاحة للجمهور، بتذكر مثلًا في الـ ٢٠٠٠ كنت في بداية دراستي الجامعية، ما كانش فيه أي شيء غير إنه صوت القاهرة مثلًا عندها شريطين لسيد درويش، وﻻ يوجد أي شيء آخر، ﻻ رقمنة وﻻ إعادة تسجيل، ولم نسمع ما هو قبل سيد درويش؛ لكن حضرتك جيت في لحظة وكأنه بصدفة قدرية تكتشف المجموعة بتاعة عبد العزيز عناني في وسط تيار إعادة اكتشاف موسيقى النهضة. بظن المنتديات ساهمت كتير في إننا نبدأ نشوف الـ ٢٥ سنة ما قبل سيد درويش اللي كنا مقتصرين عليه بس.
صحيح. بس هو بالمنتديات، باﻷخص زمان الوصل، كان في تسجيلات ليوسف المنيلاوي وكان في تسجيلات ﻷبو العلا محمد وكان في تسجيلات لكتير ناس من عصر النهضة من أوائل القرن العشرين. هَيدي ياللي عشقتها وربيت نفسي عليها، المنتديات ياللي فتّحت لي عيوني على هالفترة هاي اللي هي مجهولة كليًا رسميًا، أو أي شي تاني يعني مش مكتوب عنّا وما بيمرق على الإذاعة وما في برنامج عنّه. هالمنتديات كان إلها إسهام كبير بتوعيتي على هالفترة هاي، اللي هي تقريبًا من ١٩٠٠ لـ ١٩٣٠.
لما حصلنا على مجموعة عناني اكتشفنا إشيا أكتر كمان، اكتشفنا عدد كبير من المطربين وعدد كبير من العازفين ياللي ما كِنا نعرفهن كمان، فكان اكتشاف زائد لإلنا. من هون مثلًا عملنا مجموعة إسمها أول مطربين بلاد الشام، ياللي هنّي كانوا ناس مغمورين، يعني مش معروفين أبدًا، ولحتى نقدر نكتب عنُن اضطرينا نرجع لصحف الفترة، لإنه المطربين ياللي ما راحوا مصر لم يشتهروا أبدًا فكان في عملية بحث كتير صعبة لحتى قدرنا حكينا عنُّن. لما طلعنا مجموعة أول مطربي بلاد الشام، رجعنا طلعنا مجموعة العوالم، فهاي العوالم كمان كانت شغلة عظيمة يعني، اكتشفنا مطربات كتير مهمات مثل الست أسما الكمسارية. فهَيدا الشغل اليومي، وما زلنا عم نكتشف.
نحن ما بننشر موجوداتنا لسبب بسيط، إنه التاجر لما بيشوف إنه ناقصك أسطوانة بيصير سعرها أكبر. بمجموعة عناني في فريد اﻷطرش وفي أسمهان وفي عبد الوهاب وفي عبد الحليم وكل هالقصص، بس أهم شي بهالمجموعة إنه فيها أسطوانات لعصر النهضة، لهالمطربين الكبار ياللي إجوا من القرن التاسع عشر للقرن العشرين، مثل بهية المحلاوية مثلًا، مثل يوسف المنيلاوي نفسه. وفيما بعد حصلنا على كوبايات، هالكوبايات مسجلة قبل القرن العشرين ولقينا فيها تسجيلين أو تلاتة لعبده الحامولي.
هو إزاي الكوباية دي ﻷنه فيه كتير أكيد ما شافوهاش.
هية سيلندرز (cylinders) وكلمة سيلندر بالعربي الفصحى بيسموها أسطوانة، وانسحبت كلمة أسطوانة من كونها ترجمة حرفية لـ سيلندر، لتصير تسمية القرص المبروم. بتسعينات القرن التاسع عشر دخل على مصر آلات بتسجل على سيلندرات شمع وبتلعب كمان، هَيدي إجت من تركيا، وصار في بعض التسجيلات، مثلًا عنّا تسجيلات لبهية المحلاوية وعنّا كتير تسجيلات لناس سجلوا قبل القرن العشرين. هَودي شمع فكتير صعب المحافظة عليهُن، وفي كتير أوقات بينكسروا وأوقات بينمحوا، ففي كتير ضياع بهالإشيا. نحنا شو عم نعمل؟ عم نبعتهُن على أوروبا، في مكنات كتير متطورة بترقمهُن هونيك بأوروبا.
في ذات مرة رأيت إعلان على الإنترنت كان حد بيبيع غلاف أسطوانة شمعية وهو معتقد إنه كان كوب دعاية لشركة، لإنه حصل غياب تام لفهم ما هذا لدرجة إنه تخيل إنها كوب دعائي. ثم أتت اﻷسطوانة كما نعرفها، الـ ٧٨ لفة، الشيلاك. كانت إيه أهم الشركات في المجموعة عند آمار في الفترة دي؟
اﻷسطوانة بيسموها في مصر كوباية. في مصر لم تنتشر كثيرًا، بينما في أوروبا وأمريكا ضلت الكوباية تطلع لسنة الـ ٣٠، بس كانوا كوبايات شيلاك مش شمع. فبدك تقول إنه في أوروبا وأمريكا لحديت سنة الـ ٣٠، كان فيك تشتري يا سيلندر يا ريكورد. وحتى أنا شفت كوبايات ڤاينل، شفتُن في فرنسا. المهم إنه الشركات ياللي اشتغلت في مصر وبلاد الشام كانت الشركات العالمية. يعني أوديون اﻷلمانية من أولى الشركات، بيلحقها شركة گراموفون ياللي كانت أكبر وأوسع انتشارًا بالعالم، شركة گراموفون الإنجليزية، بعدين في شركة بِكّا الألمانية، يالّي إجت ع القاهرة سنة الـ ١٩٠٤، وخلقت ليبل ليوسف المنيلاوي وسمته سمع الملوك. خلال سنة ١٩٠٤ – ١٩٠٥ سُجلت مجموعة أسطوانات لسمع الملوك كانت تُباع بمحلات أورزدي باك في القاهرة.
أورزدي باك اللي هيَّ عمر أفندي الكبير اللي في شارع عبد العزيز.
هاي كانت محلات بعتقد نمساوية، وبِكّا كانت تبيع أسطوانات سمع الملوك بهالمحلات. بعدها راح يوسف المنيلاوي وعمل اتفاق حصري مع گراموفون. بعدين فيه شركة مصرية اسمها ميشيان، تابعة لشخص اسمه ستراك ميشيان، سجلت كتير من المطربين من الدرجة التانية، بس مثلًا أول تسجيلات سيد درويش كانت عند ستراك ميشيان وأول تسجيلات فتحية أحمد كانت عند ستراك ميشيان، يعني بدايات الفنانين سجّلهن ستراك ميشيان. فهالمجموعة تبع ميشيان خاصة كتير منيحة ﻷنه بتخليك تكتشف مطربين جداد مثل سليمان أبو داوُد، أو بدايات أحد المطربين. بالـ ١٩٠٦ إجت بيضافون، وبيضافون عملت شغل كتير قوي بلبنان وسوريا والعراق والكويت ومصر، وكان إلها استديو في برلين. هَيدي معظم الإشيا اللي كانت موجودة بهالمجموعة. فيه مثلًا فيڤوريت كانت كمان ألمانية، هاي الشركات اللي كانت أكتر شي موجودة، وبأواخر العشرينات إجت كولومبيا وعنّا كتير كولومبيا كمان.
باقدر أميز كولومبيا دايمًا بجملة “أسطوانات بدون خشخشة” لإنها جت مع الكهربا.
إجت مع الكهربا بعتقد سنة ٢٧. پاتيه الفرنسية إجت مع أسطوانات بدّا جهاز پاتيه لحتى يسمعها، ما كتير مشيت لإنه كان إذا بدك تشتري ديسك پاتيه بدك تشتري معه الجهاز تبعه. بس پاتيه مثلًا سجلت كتير لزكي مراد وعنّا كتير زكي مراد على پاتيه. يعني فيه عدد كتير من الشركات اتبنت مطربين، مثلًا أوديون اتبنت عدد من المطربين الكبار، هاي هي معظم الشركات ياللي عنّا.
أظن يمكن بيضافون هي أكتر واحدة استمرت، ﻷنه عمليًا بيضافون تحولت فيما بعد لكايروفون ثم صوت الفن. بظن إنها فضلت مستمرة في لبنان يمكن للحرب اﻷهلية.
ﻷ. هي بيضافون انضربت لإنه كان الماتريكس (أرشيف المصفوفات) تبعهُن ببرلين، فبالحرب العالمية التانية أكلوها ضربة كتير كبيرة ﻷنه راحت الماتريكس تبعهُن كِلّا. إنما لما مات جبران بَيْضا، المتبقيين من بيت بيضا عملوا اتفاق مع عبد الوهاب وعملوا كايروفون، ورجع عبد الوهاب اشترى حصة بيت بيضا وصارت كايروفون لعبد الوهاب فيما بعد.
فالمؤسسة بتحاول إعادة اكتشاف ذلك وبتعيد الإصدارات. يعني لما بيكون عندنا تقنية أحدث بنعيد اكتشاف الماضي بيها. لكن المؤسسة ﻻ تعمل حسب الشركات، فمش زي ما حضرتك كنت بتعمل طريقة الكوكتيل، المؤسسة ما عملتش كدا، ما عملتش مثلًا مختارات بيضافون أو مختارات ميشيان.
ﻷ، ﻷ. نحنا ركزنا أولًا على شخصيات، فعملنا ليوسف المنيلاوي ولعبد الحي حلمي، وعملنا سامي الشوا والقصبجي وسلامة حجازي، وآخر شي محيي الدين بعيون وقبله العوالم، بس ما اشتغلنا على أساس الشركات. هلق عنّا إصدار جديد بدنا نطلعه بأول السنة الجديدة عن آلة العود وهالإصدار راح يوثق ﻷهم عازفي العود من بدايات القرن العشرين، لعبد الوهاب ورياض السنباطي.
بظن كمان المؤسسة بتلعب دور مهم في نقد السرد الموسيقي السائد القائم على البيوجرافيا، إنه المطرب تزوج مين أو طلّق مين وحكي فاضي تمامًا، لكن المؤسسة بتلعب دور إنها بتعمل سيرة موسيقية للفنانين.
يعني نحنا أهم شي عنّا هو العمل نفسه، وهاﻷعمال هاي ياللي عم ننشرها ونشرناها بالسيديهات وياللي نشرناها بالبودكاست، هَيدي هي المهمة، مش إنه ليلى مراد صارت مسلمة وما بعرف شو تزوج ما أدري مين. أنا عندي كل الكتب يالّي طالعة بمصر عن الفن، يعني كل واحد بيحكي نزواته، ما في تأريخ صحيح. يعني مثل هَيدا كمال النجمي أو محمد قابيل، بيحكوا، بيخترعوا، ما في تأريخ صحيح.
أو مثلًا نعتمد على التابعي لإنه حاسس بخيانة أسمهان. كتابه رواية مسلية لا أكثر.
نحن أكتر شي بنعاني منه هو الكُتيب يالّي بنحطه مع اﻷسطوانات، لإنه بنحاول نتوخى الدقة، وأوقات ما بيكون عنّا معلومات فبنقول ما عنّا معلومات. يعني عم نفتكر هلق نعمل إصدار عن المطربين المغمورين ياللي ما بنعرف شي عنُن.
بشكل شخصي أعرف دأب المؤسسة في التوثيق. كنت على علم كيف تم توثيق تاريخ ميلاد سامي الشوا حتى وصل اﻷمر إلى دار المحفوظات لتدقيق مجرد تاريخ. رغم ذلك الإصدارات دائمًا عُرضة لانتقادات، إما فيما يخص متن الكُتيب، وإما في الجدال، وأظنه جدل نظري مهم، حول قصة السرعة وازاي ننقل اﻷسطوانات.
نحنا في مسألة السرعة عنّا تجربة خلتنا نعتمد بشكل أساسي على رنة الآلة الموسيقية، وهية ياللي بتخلينا نُقفر السرعة إذا صحيحة أو لازم نزيدها شوي أو بننقصها شوي، لإنه سرعة الشيلاك مش دايمًا مظبوطة، ومش دايمًا صحيحة. فالتصحيح بيصير على نقرة الرق أو على نقرة العود أو على زنة الكمان، ولقينا إنه هَيدي أصلح طريقة لتظبيط السرعة. فأكيد فيه ناس بينتقدوا السرعة ياللي عم نعتمدها، بس إنه شو بنعمل؟
إلى جانب الإصدارات فيه البودكاست، وكان مفيد جدًا بالنسبة لي. استمر ٤ سنين بشكل أسبوعي بمجموع حوالي ٢٠٩ حلقة، وكأنها محاضرات سنوات أكاديمية. إزاي جت فكرة البودكاست؟
كانت فكرة إجتني على أساس إنه هَيدي طريقة لزيادة النشر ولزيادة الانتشار، لإنه الإحصائيات ياللي طلعت معنا من انتشار البودكاست كتير مشجعة، وكان ناجح جدًا وكنا ناويين نكمله، إنما كان مكلف جدًا وكان عنّا دعم من مؤسسة الشارقة للفنون ووقف الدعم، ولما وقف ما قدرنا نكفي لإنه نحنا عنّا ميزانية سنوية وهالميزانية فيها أولويات، واﻷولوية هي شراء اﻷسطوانات واﻷولوية التانية هي شراء المعدات وتجديد البروجرامات للكمبيوتر، وهادا مُكلف جدًا. يعني نحنا كل سنة بنحط مبلغ كبير على شراء اﻷسطوانات، هَيدا الترند العام.
بالـ ٢٠١٧ دعانا متحف إثنوجرافي ببرلين لنشارك بمعرض، فشاركنا، ومشاركتنا فتحت لنا مجال جديد. نحن بنينا موضوعنا على أساس إنه شركات اﻷسطوانات حفظت الذاكرة الموسيقية للعالم العربي منذ بداية القرن العشرين، ونحنا هلق عم نوثق للعادات والتقاليد الشفهية في العالم العربي بالڤيديو، فبدأنا حملة ڤيديو لتسجيل مثلًا الموالد بمصر، وسجلنا عيد السيدة مريم في درنكة والتجمع الكبير اللي بيصير كل سنة، وعملنا ٥ أو ٦ حالات من هالنوع وقدمناها بالمعرض وكان ناجح جدًا، لدرجة إنه رئيس متحف مارسيليا راح شاف المعرض واتصل فينا وقال أنا بدي أعمللكُن معرض كبير بمتحف مارسيليا للموضوع تبعكن، بس بدكُن تعملوه على نطاق واسع. فنحنا هلق عم نحضر للمعرض بمارسيليا، حيكون بيوليو سنة الـ ٢٠٢٠، وراح نقدم بالإضافة لمنتجات شركات اﻷسطوانات ١٢ حالة من التقاليد الموسيقية الشفهية.
يعني آمارفون بقى مش بس بيضافون.
آمارفون بس ڤيديو. سجلنا فن البحر بالكويت، وسجلنا فن الخشابة بالبصرة، وسجلنا التراث الموسيقي عند الإيزيديين بشمال العراق، ياللي هو تراث رائع ومجهول كليًا. وسجلنا اﻷنين. تعرف اﻷنين؟
العديد على الميت وﻻ إشي تاني؟
ﻷ. اﻷنين هَيدا تراث موجود. بيجتمعوا ناس، أربع أو خمس أو ست أشخاص بمكان ويصيروا يغنوا وجدانُن بطريقة معينة. بيشاركوا ديو أو تريو أو أربعة أشخاص بيشاركوا مع بعضُن بالغُنا. شغلة كتير حلوة بس مش معروفة أبدًا.
وصورنا السيرة الهلالية ياللي ما عاد في كتير ناس حافظينها، وصورنا الشعانبة ياللي هية قبيلة عربية يمكن من فلول بني هلال موجودة بجنوب الجزائر، وعندهن موسيقى وأغاني خاصة فيهُن وحلوة. بيعزفوا على مجموعة من النايات سوا مع طبل كبير بيدقوا عليه وبيغنوا. وعنّا تسجيل الفن الينبعاوي بينبع بالسعودية. بس صار إلنا ٦ أشهر نطلب ڤيّز مش عم تيجي، هالتسجيل ياللي بنعمله عشان المعرض، بالمعرض بس بنقدم ١٢ أو ١٥ دقيقة، بعد ما نسجل من ٢٠ لـ ١٠٠ ساعة. يعني مثلًا الموالد بمصر مسجلين ١٠٠ ساعة، لأنه سجلنا بكل المحلات، وهَيدا بنحطه باﻷرشيف عنّا للباحثين، لحتى إذا عازوا مادة يلجؤولها. هَيدا بُعد جديد خلق عنّا، هو تسجيل العادات الشفهية.
يعني أصبح هناك توثيق وبحث ورصد الواقع كمان مش بس التراث، وبرأيي هذا دور مهم ﻷنه مش بس بتكتشف المجهول في الماضي لكن بتكتشف المجهول في الحاضر. إلى جانب دا، إيه مشاريع المؤسسة اللاحقة بخصوص الميراث القديم؟
عنّا كتير مشاريع. يعني عم نفتكر نطّلع كل أعمال صالح عبد الحي، من وقت وَلَد لحتى صار كهل. مشروع آخر هو عن فنون في الخليج. مشروع آخر هو فتحية أحمد. مشروع آخر هو إصدار جديد من مطربي بلاد الشام، يعني مطربي بلاد الشام رقم ٢ لإنه فيه عنّا عدد كبير بدنا نعرف الناس فيهُن، إلى آخره. بالإضافة إلى إنه نحنا أصدرنا عملين لمصطفى سعيد، البُردة وتوحد. وهلق مصطفى سعيد مع مجموعة من الباحثين قدروا يستنبطوا عدد من القطع الموسيقية والقطع المُغناة ما بين القرن الثالث عشر والقرن الثامن عشر.
بدءًا من اﻷرموي إلى الحملة الفرنسية.
صح. في شي ٣٥ قطعة راح نسجلها قريبًا بالمؤسسة، بدّا تصدر خلال افتتاح المتحف بمرسيليا.
لكن دايمًا هناك صعوبات في التمويل الذاتي بالنسبة للمشاريع الثقافية، ومفيش شيء تاني للمؤسسة غير التمويل الذاتي والمنَح دي.
نحنا بنجتمع على بيع المنتجات. المعارض بتجيب لنا شوية مردود ﻷنه فيه مساعدات بتيجي، ولو عنّا تمويل كافي بيصير عنّا إنتاج أكبر، بيزيد الإنتاج وبيزيد عدد اﻷشخاص يالّي بيشتغلوا بالترقيم وباﻷرشفة إلى آخره.
أظن كمان المؤسسة بحاجة لمراكز فرعية، في العراق وفي مصر وفي المغرب مثلًا.
فيه مثل بلبنان بيقول على قد بساطك مد إجريك، ونحن ما عنّا القدرة البشرية إنه مثلًا نهتم بالموسيقى في العراق، مع إنه موسيقة العراق موسيقى قائمة بحد ذاتها. ما عنّا إمكانية نهتم بموسيقة الخليج وما عنّا إمكانية نهتم بموسيقة المغرب. هَيدي بدّا منظمة كبيرة، لكن نحن نعد على أصابع اليد وعم نعمل أكتر ما بنقدر.
دا بيخليني أطرح سؤال ﻷنه مؤخرًا قرأت جدل شوفيني للأسف حوالين إن التراث المصري ضايع والمجموعات القديمة بيعت وهي مش في مصر، مع إنها لو في مصر مش هتتسمع.
فيه ناس بعرفهن راحوا على دار الكتب المصرية، وشافوا اﻷسطوانات محطوطة فوق بعضها بشكل مريع وما في أبدًا حفظ فعلي للأسطوانات. نحنا بنحط اﻷسطوانات بمغلفات، والمغلفات بعلب، والجو فيه ضبط للرطوبة وكل شي.
أحد الهواة الجامعين حكى لي إنه شاف أسطوانات بروفة ليوسف المنيلاوي مكسورة ومرمية في دار الكُتب ولم تُرمم.
نحن بنرمم اﻷسطوانات المكسورة لإنه ما بنحصل دايمًا على أسطوانات كتير نضيفة، فاﻷسطوانات ياللي بنحصل عليها بنرممها.
إذا بنختم حضرتك شايف مستقبل المؤسسة إزاي؟
أتأمل إنه يكون عندنا إمكانيات أكبر لحتى نوسع إنتاجنا ونوسع نشاطها. المؤسسة بتحب إنه تعمل كونسيرات، صرنا عاملين شي ٥ كونسيرات كلّن ناجحين لإنه فيه جمهور متعطش. ربما راح نبلش نعمل يومين أو تلاتة كونسيرات في شهر فبراير بمناسبة عيد المؤسسة.
وبعرف إنه فيه مشروع لرقمنة كل الريل تايبس (reel tapes) اللي عند المؤسسة.
انعمل. كل الريل تايبس اترقموا.
حوالي كام ألف ساعة؟
والله ما عنديش فكرة كمان، بس عدة آلاف من الساعات، لإنه عنّا مجموعة عناني وعنّا مجموعات أخرى جاتنا من عدة أطراف. في باحث عيلته عطتنا شغله ياللي عمله ببادية الشام وبالخليج، شي رائع. وعنّا كتير تايبس عطونا إياهُن لإنه ما بيعرفوا ينقلوهُن، فبنسجلها وبنردلُن إياهُن. عملنا هيك مع مؤسسة في السعودية كمان، عندُن كمية من التايبس عملنالُن ياهُن وعطينالهن ياهن.
شفت صفحة الإكسل لأرشيف الشرايط، حسيت إني هاقرأ ١٣٠ صفحة في حوالي ٧٠ ألف ساعة. هل اكتمال المشروع إنهم هينشروا بشكل كامل وهيكونوا متاحين؟
نحنا عم نعمل قدر المستطاع قد ما فينا. بس هالمحفوظات هاي كلها يومًا ما بدّا تستعمل وتُنشر جزئيًا أو كليًا. بعدين نحن نفتح مؤسستنا ﻷي باحث، ففيه كتير ناس إجوا عملوا أطروحتهُن وأخدوا المادة من المؤسسة. مثلًا من أمريكا من إنجلترا ومن الياپان ومن إيران، ومن تركيا ومن العراق ومن مصر، جونا طُلاب عملوا بحث بالمؤسسة ونحنا بنعطيهن مجانًا كل التسجيلات ياللي هني بيعوزوها لشغلُن.
وهل إذا قارئ أو باحث اطّلع على الأرشيف، وما بيقدرش يسافر، يراسل المؤسسة تبعت له؟
أكيد أكيد، نحنا بتصرف الباحثين.
غلاف المقابلة صورة لـ عبد العزيز عناني.