بينما كانت الحرب العالمية الثانية تزحف على مصر مطلع الأربعينات، كانت علاقة القصبجي بأم كلثوم تبلغ مفترق طرق. مع صدور فيلم عايدة عام ١٩٤٢ اختبرت أم كلثوم فشلها الأكبر، ولدى تجسيد اللحظة في مسلسل أم كلثوم الصادر نهاية التسعينات، أفضت شاكية إلى القصبجي ليرد ببساطة: “الجمهور هو اللي فشل.” لا نعلم على وجه الدقّة إن كانت الجملة توثيقية أم موضوعة لداعٍ درامي، لكنها تقول جزءًا كبيرًا من الحقيقة.
امتلكت أم كلثوم حضورًا أسطوريًا، كصاحبة صوت كُلي القدرة، يمكنه الذهاب، بتلويناته وارتجالاته، إلى أكثر مناطق الغناء الشرقي وعورة. مع هذا، ثمة خوف دائم وراء المسرح، تجلّى في إمساكها بالمنديل وهي تطرز بصوتها مساحات إعجازية. كانت هذه المرة الأولى التي تغني فيها أم كلثوم أوبريتًا يتسم بلمحات أوبرالية، وأول مرة تتخلى فيها عن تختها الشرقي لمصلحة أبواق نحاسية براقة وغناء يستبعد مقامات ثلاثة أرباع الصوت. لذلك، هناك ما يدعونا للسؤال حول الحافز الذي دفع أم كلثوم، المحافظة، إلى خوض تجربة غنائية جامحة في أوبريت عايدة: هل وجدت نفسها مدفوعة بوجود منافس خطير مثلته أسمهان؟ أم أنها سايرت ما ظنته قطار التجديد؟
تداركاً منها لفشل الفيلم، استبعدت أم كلثوم الجزء الذي لحنه القصبجي من أوبريت عايدة، وللأسف فُقد تمامًا بعدها، بينما أبقت على الجزء الذي لحنه السنباطي؛ مقدّمةً، بوعي أو دون وعي، مُلحنًا ستختاره للمستقبل على آخر أصبح من الماضي.
غير أن لحن السنباطي افتقد الوحدة الداخلية، إذ سارت جمله اللحنية متخبطة، بعضها جميلة، لكنها دون تكوين أو بناء درامي. الشيء الآخر، على خلاف قدراتها العظيمة في الغناء الشرقي، بدت أم كلثوم شبه عاجزة في التعبير الدرامي؛ ولا يمكننا بأي حال التنبؤ بسمات لحن القصبجي المحذوف من خلال لحن السنباطي، الذي كان هنا تابعًا لا صاحب الرؤيا الأصل.
لمحاولة فهم غاية القصبجي وقتها، علينا قراءة كل ما قاد إلى هذا المنعطف الكبير في مسيرته ومسيرة أم كلثوم.
فتحت ألحان القصبجي لصوت أم كلثوم أول أبواب المجد. بدءًا من أغنية قال إيه حلف ما يكلمنيش إلى رق الحبيب، تظهر لمحات في بعض الألحان وضع فيها القصبجي بذور طموحاته المستقبلية الأكثر جموحًا. كما لو كان يرسم سيرة رغباته وأفكاره التجديدية في نسق محكوم بشروط تقليدية، لكنه من وجهة نظري ترك فيها مساحات فارغة بحاجة لإعادة تأويل.
في مونولوج حيرانة ليه يا دموعي عام ١٩٣٥، رسم القصبجي ملامح صراع ناعم؛ حيث كان اللحن عبارة عن خطوط متعرجة بين صيغ مشرقة بالتجديد وأخرى حذرة. يبدأ غناء أم كلثوم بتوتر لحني عبر دمج النهاوند، وهو مقام الأغنية، بالنوا أثر، ليضفي على اللحن سمة الحيرة. ربما هي أيضًا نفس الحيرة الموسيقية في الصراع بين طموحه وتحفظ سيتخلى عنه في رق الحبيب، وربما بصورة أكبر في لحن الأوبريت المفقود. في البيت الثاني وانت يا ساكن ضلوعي ينفرج التوتر على مقام النهاوند، بلحن يتبنى فيه آفاقًا تجديدية رحبة. لم تكن تلك مجازفة كما قد يبدو، فسرعان ما يستعيد المزاج الشرقي في محاورة النهاوند والبيات. يستقر هذا المزاج في القسم الثاني من المونولوج بنزوعٍ أكثر إلى التطريب، يعززها مقام الصبا في “أفهم أنينه”. يعاود منذ القسم الثالث “ابكي يا عيني” التصعيد نحو أشكال لحنية متطورة، ليبلغ الذروة في الخاتمة بغناء “وانت سعيد في الغرام” على مقام النهاوند بلحن مباغت ومشرق، يسبقه لحن قاتم “ويطول عليك النحيب”. يتكرر اللحن القاتم بتخفيض تدريجي ينتهي بسكة مقامية على النهاوند ليتخذ في لحن الخاتمة تصعيدًا مستمرًا في “وانت سعيد بالغرام”؛ بحيث يلعلع صوت أم كلثوم رنانًا، في نطنطة تُحاكي بعض ملامح الغناء الأوبرالي. اللافت أن هذا التصعيد يبدو كما لو أنه لن ينتهي، وكأن شيئًا ما بتلك الديناميكية والحيوية الغنائية مُجرّد مبشّر بأن ما خفي كان أعظم.
يمكن ملاحظة لمحات تجديدية مشابهة في كثير من ألحان القصبجي لأم كلثوم وبأساليب مختلفة. في مونولوج منيت شبابي على مقام الراست، وياللي صنعت الجميل على البياتي، يجري تطويع المقامات الشرقية التي تحوي ثلاثة أرباع الصوت، في صيغ لحنية هارمونية، بشكل غير مسبوق في الغناء العربي. كما استخدم مقدمة موسيقية فوجوتية ذات خطوط بوليفونية على مقام الماهور في مونولوج يا مجد. في مونولوج ياما ناديت عام ١٩٣٦، على مقام الماهور، يفصح القصبجي عن رغباته بطريقة مختلفة، حيث هناك مصاحبة هارمونية على الوتريات في نهاية الأبيات عند ترديدها حبيبي. كما استحضر القصبجي لحنًا انسيابيًا يشبه غناء السيرينيدات في “سمعت بين الأشجار” على مقام العجم، يتجلى فيه صوت أم كلثوم في منتهى العذوبة والرقة؛ ليأخذنا بعد ذلك إلى ذروة الغناء التقليدي في الجزء الثالث من المونولوج بتطريب شرقي على مقام الراست. على أن هذا التجاور بين عناصر متأثرة بالغناء الغربي وأخرى تطريبية، عُرفٌ موسيقي ذاع في مصر وقتها، لكن قلما بلغ حدّ الكمال الذي استقر عنده القصبجي مراتٍ عديدة.
في آخر ملاحمه اللحنية، رق الحبيب، تخلى القصبجي عن كل تحفظاته، وحشد فيه كل مسرات الغناء الشرقية تعبيرًا وتطريبًا، جامعًا بين جمالية اللحن وبراعة الصنعة، بين التعدد اللحني وثراء مضمونه. ربما لفرط جمال المونولوج اللحني غفلت أم كلثوم عن كل تلك الأشكال غير المسبوقة في غنائها، كالمدخل الغنائي التصعيدي الذي يمنحه شجا النهاوند لحنية مُترفة، قبل أن يغوص في جُمل تطريبية منتقلًا إلى البيات ثم مستقرًا على الراست. هكذا مارس كل مهاراته كجواهرجي يصنع تحفًا لحنية، وربما حقق فيه أكبر انتصاراته، ليحلق بصوت أم كلثوم في ملحمة لحنية ثرية بمقاماتها وصنعتها، وكذلك عذوبة ألحانها.
لعل القصبجي وجد نفسه في تلك اللحظة قادرًا على جر أم كلثوم نحو أجرأ طموحاته، فأفصح عن شيء يحز فيه. قبل ذلك ظلت علاقتهما غالبًا على وفاق، مع هذا يمكن التعرف في نسيج ألحانه على قصة أخرى؛ صراعهما الخفي، والرغبات التي نجح القصبجي في تمريرها هنا وهناك بين ألحانه، ثم تلك الخطوات التي أوصلته ليعلن عن كل شيء في رق الحبيب. في تلك السيرة العظيمة أعلن القصبجي عن نفسه بصورة غير مسبوقة في الموسيقى العربية، كمبتكر صيغة درامية تخص علاقته بصوت أم كلثوم. علاقة شائكة ظل يخترقها ويتسلل فيها برغباته اللحنية حتى أوقفته بسلطتها الآمرة؛ لكن ليس على طريقة قفلته المشرقة في حيرانة ليه أو بفرائحية رق الحبيب، إنما كانت على شاكلة ألحانه الأكثر غرقًا في الحُزن.
لم تلتفت أم كلثوم إلى جموح القصبجي التجديدي في رق الحبيب، بتنويعاته الإيقاعية المُركبة والتحول في سرعة الألحان، بصورة لم تكن مسبوقة لها؛ ملامحٌ افتقدتها ألحانها مع السنباطي وزكريا. أو ربما كان فشل فيلم عايدة هو ما دفع أم كلثوم إلى الكفر كليًا بالتجديد الذي مثّله القصبجي بين ملحنيها؛ وإن كانت هناك بالتأكيد دوافع أخرى لا نعرفها وراء قطيعتها مع ألحانه.
شيد القصبجي أبنية لحنية معقدة، استحضر فيها شكلًا غير مسبوق من السرد المقامي الشرقي، وفي جانب منه تحدى الصيغ اللحنية السائدة بالتطريب والغنائية، متخذًا مسحة جمالية خشنة في بعض اللمحات أراد من خلالها إعادة تعريف الجمال الموسيقي العربي. كم كنا بحاجة إلى الجزء الذي لحنه القصبجي من أوبريت عايدة لندرك تمامًا مراميه، لكن أم كلثوم بصورة ما، عملت على محو وجهة نظره في لحظة فاصلة من تاريخ الموسيقى العربية.