عندما أعلن الجنرال الفرنسي غورو نشأة دولة لبنان الكبير في العام ١٩٢٠، اتّخذت الجماعة الشيعية موقفاً سلبياً من الهوية الطارئة عليها، في ظلّ ميل نخبتها للالتحاق بسوريا الكبرى، كما يُظهر المؤرخ العاملي محمد جابر آل صفا في كتابه المؤسس تاريخ جبل عامل. أرسل كامل بك الأسعد بطاقات الدعوة للعلماء والأعيان والمفكرين لعقد مؤتمر عاملي من أبناء الشيعة على رأس نهر الحجير ... وبعد المداولة في المواد التي طرحت للبحث والمناقشة وإقرار ما نوسب منها ... كتبوا القرار ووقعه المؤتمرون بالإجماع وملخصّه: 'إن المؤتمرين قرروا بالإجماع انضمامهم للوحدة السورية، والمناداة بجلالة الملك فيصل ملكاً على سوريا، ورفض الدخول تحت حماية أو انتداب الفرنسيين. من كتاب تاريخ جبل عامل لمحمد جابر آل صفا، دار النهار، ١٩٨١، ط٢.
لاحقاً مع انحسار أحلام الوحدة السورية وحصول لبنان على استقلاله عام ١٩٤٣، بقيت علاقة الشيعة بهويتهم الجديدة ملتبسة، عزّز ذلك إهمال الدولة لهم، وموقعهم الضعيف ضمن تركيبة النظام اللبناني. مع احتلال فلسطين وإعلان نشوء الكيان الإسرائيلي في العام ١٩٤٨، وما تبعهما من اعتداءات إسرائيلية متكرّرة على الجنوب نزح الكثيرون إلى ضواحي بيروت.
في تلك الفترة لم تكن كربلاء حاضرة في الخطاب السياسي الشيعي. كانت ذكرى عاشوراء مجرّد مناسبة دينية أخرى، كشهر رمضان أو كموسم الحج. لكنّ الأمور بدأت تتغير مع عودة رجل الدين السيد موسى الصدر من إيران في العام ١٩٥٩، ولاحقاً مع رجل الدين الآخر السيد محمد حسين فضل الله العائد من النجف في منتصف الستينيات. إذ كانت عاشوراء في ذلك الحين، بما تحمله من معانٍ سياسية مرتبطة بالثورة على الحاكم الظالم، المناسبة الدينية الوحيدة التي يمكن الدخول منها إلى الواقع السياسي المعاش.
مع انتصار الثورة الخمينية في إيران في العام ١٩٧٩ وتزامن بداية نشأة حزب الله مع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب في العام ١٩٨٢، شكّلت كربلاء الركيزة الأساسية في الخطاب السياسي والاجتماعي وبطبيعة الحال الفني للتنظيم الصاعد.
لا يشبه الحديث عن الإنتاج الفني لـحزب الله غيره من الأحزاب. فقد اتّخذ الولي الفقيه آية الله الخميني موقفاً سلبياً من الموسيقى قبل انتصار الثورة، لذا لم يكن أمام الحزب الوليد، قبل الإعلان عن نشأته رسمياً في العام ١٩٨٥، سوى اللجوء إلى اللطميات.
كان الرادود الإيراني عساكري نجم المرحلة الأولى دون منازع، وما زالت بعض ندبياته حاضرة إلى اليوم في تشييع مقاتلي الحزب. من “في نهج الحسين نعشق الشهادة بايعنا الخميني لأمر القيادة” وصولاً إلى “فينا الخميني صاح نحمل السلاح في وجه الظالمين لا تتركوا الكفاح”، مروراً بـ”يا ثائرين في خط ثار الله (المقصود الحسين) قوموا نلبي نداء روح الله (الخميني) لنجعل من كل أرض كربلاء”. عبّرت هذه اللطميات عن أحد الشعارات الأكثر أهمية في تلك الفترة: “الإسلام محمّدي الوجود، حسيني البقاء، خميني الاستمرار”.
لم تمنع سطوة عساكري على الفضاء الفنّي ظهور رواديد آخرين لبنانيين، دون أن يحظوا بنفس شهرته، كصادق زعيتر ويحيى حدرج، اللذين كانا مراهقين في تلك الفترة.
في لطمية عامل يا عامل أين جواد لـ صادق زعيتر التي تحكي عن الشهيد سمير مطوط (جواد)، الذي قتل في العام ١٩٨٦، يحيلنا زعيتر إلى رموز مختلفة. بدءاً من الجملة الافتتاحية، التي يسأل فيها عامل، أي جبل عامل، وهو الاسم التاريخي للمنطقة قبل إلحاقها بلبنان الكبير، مع ما يحمله ذلك من معانٍ، مروراً بكربلاء عبر “أين شبل الحسين رمز الفداء؟”، وصولاً إلى الصراع مع إسرائيل “من هبّ ضد شامير (رئيس وزراء إسرائيلي سابق) بعد جواد”، وختاماً بالتأكيد على أنّ مطوط هو في خطّ الخميني، “من في درب روح الله بعد جواد؟”
هكذا كانت البداية غياب تام للآلات الموسيقية على اختلاف أشكالها، وحضور طاغٍ لكربلاء ورموزها وخلق حالة من التطابق بينها وبين قتال إسرائيل، وتأكيد دائم على الالتزام بنهج الثورة الإيرانية والخمينية، والتي سيتزايد حضور مصطلحاتها في المرحلة الثانية التي تداخلت معها بشكل خجول بدءاً من العام ١٩٨٤.
انتصار الثورة في العام ١٩٧٩، ونشوب الحرب مع العراق في العام التالي، جعل موقف الخميني من الموسيقى أكثر ليونة، فالإذاعة والتلفزيون صارا يبثّان موسيقى تتناسب مع الضوابط الدينية، كما كانت الأناشيد الحماسية والثورية ضرورية لحشد الناس وتحفيزهم على القتال في الحرب التي استمرت حتى العام ١٩٨٨. في لبنان، استنسخ الحزب التجربة، وبدأت فرق موسيقية منبثقة من الكشافة تظهر، لتقدّم موسيقى تشبه المارشات العسكرية. كان الأورغ الآلة شبه الوحيدة المستخدمة في تلك الفترة، مع كورال يردّد الكلمات على وقع جملة موسيقية واحدة.
ظهرت الأناشيد لأوّل مرّة في العام ١٩٨٤ مع فرقة الولاية كـ يا جيوش الحق، وامضِ ودمّر، ولا لن نركع. وفاضت بمصطلحات الثورة الإيرانية “حسينيون لن نركع، حسينيّون لن نخضع” و”فجّرها ثورة فجّرها على خطّ النار دمّر أصنام المستعمر والاستكبار … من أجل كلّ الأحرار”، كما تم التركيز فيها على قضية القدس المركزيّةً في الخطاب الإيراني “يا جيوش الحق سيري باتّجاه قدسٍ أسير”. وبالطبع حضر التأكيد الدائم على ارتباط الحزب بالخميني. “جهّز قواك لا تكن خائفاً وقل للخميني نحن فداك” و”جيش الخميني اليوم أضحى اليوم ثوار ضد الظلم نسير على طريقنا على خطى إمامنا”.
مع الوقت، ظهرت فرق إنشادية مختلفة كـ الإسراء والفجر والعهد، لكنّها على تنوّع أسماءها حافظت على النمط نفسه.
لم تختلف هذه المرحلة كثيراً عن البدايات فاستُبدل الرادود بكورال، وإيقاع لطم الصدور بجملة موسيقية متكرّرة على الأورغ، مع ترداد لا يتبدل إيقاعه للقصيدة التي حافظت على عاموديتها.
في النصف الأوّل من التسعينيات، ظلّت مدة الأناشيد طويلة نسبياً، لكنّ الآلات النفخية والإيقاعية بدأت تدخل إلى الموسيقى. من جهة أخرى، أدّت وفاة الخميني إلى تراجع حضور مصطلحات الثورة الإيرانية في نشيد الحزب، وغاب مع موته التركيز على ارتباط الحزب بالثورة الإيرانية، فيما ظلّت كربلاء ورموزها حاضرة.
لكنّ التحوّل الأبرز كان في إنتاج أناشيد يقوم نصّها على مخاطبة الفرد بدل الجماعة، وإن كان الفرد المقصود هنا نموذجاً لا شخصاً، كالشهيد أو والدته مثلاً، مما أضفى على المرحلة طابعاً أكثر إنسانية حيث بدأ يتضمن الحديث عن ألم الفقد والرحيل، على العكس من السابق.
يخاطب كورال الفرقة المؤلفة من أبناء الشهداء، كما يظهر من العنوان، الأب الغائب “لم تعد صباحاً ما أيقظتني ما حضنتني ما قبلتني”. يستحضر الأطفال ذكرياتهم مع الأب “حين يسألونني عن مذهبي أجيبهم مقاوم مثل أبي”. ولا يغيب بالطبع استحضار كربلاء بشخص العباس، أخ الحسين، “مقطع الأوصال قدراً بالكمين عباسنا المقدام والحر الأمين”.
تحضر كربلاء أيضاً في نشيد آخر هوأمّاه إنّي راحل لفرقة الإسراء. هنا ينهى الشهيد “الراحل عند الحسين” أمّه عن البكاء ويطلب منها الاقتداء بفاطمة والدة الحسين وشقيقته زينب (أمّ الشهيد تصبّري/ عند البتول ستفخري/ قولي كزينب ربّنا/ اقبل شهيداً وانصري).
بدأ هذا الحضور يخفت بسرعة في النصف الثاني من العقد، مع صمود الحزب في وجه عدوان عناقيد الغضب في العام ١٩٩٦، وتحقيقه نجاحات متفرّقة أمام إسرائيل. فظهرت نبرة أكثر حماسة تزامنت مع الاتجاه إلى اللهجة المحكية وتقصير مدّة الأناشيد. وقبيل تحرير الجنوب في العام ٢٠٠٠، استعين للمرة الأولى بملحنين من خارج التنظيم كزياد بطرس وعبدو منذر، اللذين ساعدا على رفع مستوى الألحان وأدخلا آلات موسيقية جديدة كالكمنجات مثلاً. سينسحب ذلك على إنتاج ما بعد التحرير والذي سيمتلئ بالبهجة والافتخار، مع تراجع أكبر للفصحى لمصلحة المحكية رغبةً من الحزب ربّما بإعطاء طابعٍ وطني لانتصاره.
اتاح التساهل اللغوي هذا والسماح بإدخال آلات موسيقية وتطوير الألحان انتشاراً أكبر لهذه الأناشيد، كإصدار وطني صامد لفرقة الولاية والذي ظهر في العام ٢٠٠٥.
في هذا الإصدار وفي الأغنية التي تحمل الإسم نفسه، ظهر لبنان لأوّل مرّة ربّما، لبنان كوطن وكهوية “وطني النصر وتاج العزّة والعلم الحامل هالأرزة”. وظلّ نشيد لبناني أنا لبناني الأكثر مباشرةً في سعي الحزب لإثبات إيمانه بهويته اللبنانية “لبناني أنا لبناني وطني بدمي وشرياني … تبقى الأرزة بعلمنا أوّل سطر والتاني”.
شكّل اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في العام نفسه الدافع الرئيسي وراء اندفاع التنظيم للتعبير عن هويته اللبنانية التي كانت شبه غائبة حتّى ذلك الوقت في خطابه الفني. إذ مع وقوفه إلى جانب النظام السوري، المتهم الرئيسي بالعملية، صار الحزب مضطرّاً للتأكيد على لبنانيته التي كانت دائماً محط تشكيك بحكم ارتباطه العقائدي والعسكري بإيران. وكانت تظاهرة ٨ آذار ٢٠٠٥، التي دعا إليها وشارك فيها، المرّة الأولى التي ينخرط فيها الحزب بعمق ووضوح بالشأن الداخلي اللبناني.
من الآن وصاعداً، سيتلبنن نشيد الحزب وستسيطرعليه الأرز والجبل والبحر والصخر، خاصة مع اندلاع حرب تمّوز ٢٠٠٦، ونجاح الحزب في الصمود أمام العدوان الإسرائيلي الذي استمرّ ٣٣ يوماً. صمود اعتبره مدير مكتب الجزيرة في بيروت آنذاك غسان بن جدّو “نصف انتصار لحزب الله ونصف هزيمة لإسرائيل”، فيما وصفه الحزب بـ “النصر الإلهي”، مطلقاً في الاحتفال الذي أقيم في أيلول من العام نفسه نشيد نصرك هزّ الدني، القائم على فكرة لبنانية هذا النصر (نصرك هز الدني شعبك ما بينحني بالدم محصّنة أرضك يا لبنان (…) لا يهمّك يا وطن مهما كان التمن سيفك طول الزمن عالي بالميدان…).
في العام نفسه، ومع إعلان قوى الثامن من آذار الاعتصام المفتوح للمطالبة بإسقاط حكومة فؤاد السنيورة صدرت مجموعة من الأناشيد الحماسية ركيكة اللحن والكلام، والتي أنتجت بهدف تشجيع الناس على المشاركة. لم “يتلبنن” النشيد فحسب، بل انتقل إلى ترديد الكليشيهات اللبنانية حول الوحدة الوطنية والتعايش الإسلامي المسيحي، وذلك تحت تأثير ورقة التفاهم التي وقّعت في شباط ٢٠٠٦ بين الحزب والتيار الوطني الحر، الحركة السياسية التي كان قد اسسها الرئيس اللبناني ميشال عون. فظهرت مثلا “تحت العلم اللبناني إسلام ومسيحيين خلي الساحة عمرانة بكل اللبنانيين” فيما بدا جزء آخر من إصدارات تلك الفترة أشبه بالهتافات التي يردّدها مشجّعو كرة القدم (بيروت حرّة حرّة، أمريكا طلعي برا/ بالدم بالروح نفديك يا لبنان…).
في هذه المرحلة وما تلاها، غابت كربلاء ورمزيتها تماماً، إذ لم يكن لها مكان في الصراع السياسي الداخلي الذي انخرط فيه الحزب تماماً، وصولاً إلى استعمال سلاحه في ٧ أيّار ٢٠٠٨، ردّاً على قراريّ حكومة السنيورة بنزع شبكة الاتصالات الخاصة به وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي. ورغم حرب تموز التي أدّت إلى سقوط نحو ١٢٠٠ ضحيّة فإنّ الكفّة العسكرية التي مالت للحزب فيها لم تفسح مجالاً أيضاً لكربلاء. ولحاجة الحزب في تلك الفترة للتأكيد على لبنانيته، كما ذكرنا سابقاً، كان مفهوماً غياب أيّ حضور للثورة الإيرانية ورموزها. مثّلت هذه المرحلة وما تلاها (مع بعض الاستثناءات) أسوأ مراحل الإنتاج الموسيقي للحزب، رغم تطوّر الإمكانات المادية وإباحة استعمال معظم الأدوات الموسيقية (شرعياً)، وانفتاح التنظيم على تجارب موسيقية لملحنين من خارجه كما ذكرنا سابقاً. لعلّ الاستثناء هو الأوبريت التأبيني التي لحنها عبدو منذر في حفل تأبين القائد العسكري عماد مغنية (الحاج رضوان) الذي اغتيل في دمشق في العام ٢٠٠٨.
تميّزت المرحلة التي تلت تحرير الألفين بعدّة أمور، أولها حصول طفرةٍ في كم الإنتاج، إضافة إلى اكتساب بعض المنشدين كحسين زعيتر وعلي العطار شهرة وشعبية كبيرة في الأوساط المؤيّدة للحزب. وممّا لا شكّ فيه أنّ الانتقال إلى اللهجة المحكية سهّل ذلك، بل وسمح بتحوّل مجال الإنشاد إلى سوق يحقّق أرباحاً، إذ بدأت الفرق الإنشادية والمنشدين الذين استقلوا عنها يحصلون مكاسب مالية من إنتاجهم الموسيقي، أعلى من البدل المادي المتواضع الذي كانوا يتقاضونه في السابق. في مقابلة كنت قد أجريتها معه لـ شباب السفير حول علاقة حزب الله بالموسيقى، يرى الملحن أحمد همداني، وهو أحد أقدم العاملين في مجال الإنتاج الموسيقي في الحزب، أنّه “وبعد العام ألفين تحوّل التنافس بين الفرق من تنافس على الجودة إلى تنافس على المال والشهرة، وحصلت العديد من المشاكل بين الفرق والمنشدين”.
كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت الحزب إلى إنشاء الجمعية اللبنانية للفنون، المعروفة باسم رسالات، في العام ٢٠٠٦. إلى جانب تنظيم الأنشطة الفنّية للفرق والمؤسّسات التابعة له، خاصةً مع اتساع دوره الإقليمي ودخوله في المعترك السياسي اللبناني، وبالتالي حاجته لضبط ما يصدر عنها. عندها فقط صارت الفرق الإنشادية مرتبطة بهيكليته التنظيمية، دون أن يمنع ذلك ظهور العديد من المنشدين داخل بيئته وإن كانوا غير تابعين له تنظيمياً.
في العام ٢٠١١، ومع اندلاع ما اصطلح على تسميته بـ الربيع العربي، أيّد الحزب الحراكات الشعبيّة في الدول العربية، لكنّ موقفه من الحراك السوري كان ملتبساً في البداية. فبعد دعوته للحوار بين النظام ومعارضيه، غضّ النظر لاحقاً عن قصف الجيش السوري لمدينة حمص في خطاب شهير لأمينه العام السيد حسن نصرالله، ثمّ أعلن وقوفه إلى جانب النظام، قبل تأكيده في النصف الأول من العام ٢٠١٣ انخراطه رسمياً في المعركة.
تكثّف عندها حضور كربلاء مجدّداً في الخطاب السياسي للحزب. إذ قامت السرديّة الأولى لتبرير المشاركة في القتال على الدفاع عن مقام السيدة زينب شقيقة الحسين في دمشق. كان ذلك كافياً لإقناع بيئته بضرورة المعركة. وبسرعة ربط المزاج الشعبي هذه الحرب بواقعة كربلاء. ساعد في ذلك رمزية الأرض التي تجري عليها الأحداث، أي الشام حاضرة الخلافة الأموية التي سبيت إليها نساء الحسين بعد انتهاء واقعة كربلاء، إضافة إلى الدموية الشديدة التي رافقتها، والمتمثلة تحديداً بقطع الرؤوس على يد المتشدّدين الإسلاميين من المعارضين، والتي أعادت الجماعة الشيعية إلى لحظة قطع شمر بن ذي الجوشن لرأس الحسين. تطوّرت سردية الحزب مع الوقت وانضمت إليها أمور أخرى كـ “الوقوف في وجه المؤامرة” و”تأمين نقل السلاح”.
الملفت في الأمر أنّ حضور سوريا الدائم ومن خلفها كربلاء منذ أربعة أعوام أو أكثر في خطاب التنظيم السياسي، لم ينعكس بأيّ شكلٍ من الأشكال في خطابه الإنشادي. كان النشيد الرسمي الوحيد الذي أصدرته فرقة الولاية حول سوريا مستوحى من عبارة وردت في خطاب لنصر الله بعنوان “حيث يجب أن نكون سنكون”، دون أن يأتي على أيّ ذكرٍ لسوريا أو لداعش أو للتكفير أو الإرهاب أو أيٍّ من المصطلحات المستعملة، مكتفياً بجملة واحدة بصوت نصرالله وهو يقول: “إذا احتاجت المعركة مع هؤلاء الإرهابيين التكفيريين أن اذهب أنا وكل حزب الله إلى سوريا فسنذهب إلى سوريا”.
انكفأ إذاً الحزب تماماً عن أيّ ذكرٍ للحرب السورية في أناشيده. انكفاء يشبه إلى حد بعيد انكفائه عن إنتاج أيّ عملٍ إنشادي مرتبط بحربه مع منافسه الشيعي سابقاً وحليفه حالياً حركة أمل. لم تغب الحرب مع أمل من الإنشاد فقط بل من الخطاب السياسي حتّى، على الرغم من سقوط الكثير من المقاتلين في هذه المعركة التي استمرّت على فترات متقطّعة خلال الأعوام الأخيرة من ثمانينيات القرن الماضي. مع العلم أنّها ما تزال حاضرة في وجدان أمل ومناصريها حتّى اليوم، الذين يستعيدون سنوياً ذكرى قادتهم اللذين سقطوا في تلك المعارك، ويتداولون مقاطع فيديو لرئيس الحركة ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي، إضافة إلى لطميات ظهرت في تلك الفترة.
يمكن فهم انكفاء الحزب عن تثبيت حرب الأخوة، كما اصطلح على تسميتها، وجدانياً في قلوب مناصريه انطلاقاً من كونها حرباً داخلية في “البيت الشيعي اللبناني”، وبالتالي فإنّ إحيائها وتذكّرها لن يسبّب سوى الانقسام ضمن الطائفة الموحدة، ظاهرياً على الأقل، منذ العام ٢٠٠٥.
عند العودة إلى أرشيف الصحف الصادرة في تلك الفترة يلاحظ الإعلان المتكرّر من قبل قادة حزب الله – حالهم كحال قادة أمل – اضطرارهم لخوض الحرب وتأكيدهم المتكرّر على أنّها مفروضة عليهم. أما في الحالة السورية اليوم، فإنّ الحزب بدءاً من الأمين العام مروراً بنوابه وصولاً إلى مسؤوليه، يشير ويؤكّد بشكلٍ متكرّر على قناعته بالمشاركة فيها وعلى ضرورتها، ويقدّم المبرّرات السياسية والعسكرية والعاطفية لها طوال الوقت. لكنّه يبتعد تماماً عن أيّ تثبيتٍ وجداني لها من خلال الأعمال الفنية في عقول وقلوب مناصريه. ربّما يمكن فهم محاولة النأي بالنفس هذه في سياق رغبته بإبعاد الشبهة الطائفية عن قتاله في سوريا، وإن كان ذلك غير مفهومٍ تماماً كون التهمة قد وقعت وانقضى الأمر، أو لرغبةٍ منه في بقائها كمعركة جانبية في معركته الأساسية لتحرير فلسطين، التي تشكّل النقطة المركزيّة في خطابه.
بكل الأحوال لم يفد هذا النأي بالنفس في شيء. فمع سهولة تأليف وتسجيل المقطوعات الموسيقية اليوم، ومع اشتداد المعركة وسقوط الكثير من مقاتلي الحزب والتنظيمات الشيعية الأخرى المشاركة، ظهر العديد من المنشدين والرواديد الذين لا يتبعون تنظيمياً للحزب، لكنّهم مؤيّدون له ومسموعون في بيئته، في أناشيد ولطميات توثّق وتسجّل مجريات المعاركة وتحكي عن المجاهدين وانتصاراتهم. من بين هؤلاء يبرز بالطبع المنشد علي بركات، والذي أثار ضجّة كبيرة بأغنيته إحسم نصرك في يبرود التي قيل إنّ الأمين العام حسن نصرالله طلب شخصيّاً وقف التداول بها. الطريف في الأمر أنّ بركات أنجز عدّة أناشيد على الوزن نفسه، فمن يبرود إلى القلمون وصولاً إلى عرسال. يعد بركات من أنشط المنشدين المؤيّدين للحزب حالياً، إذ لا يمرّ شهر دون أن يحمّل على قناته على يوتيوب نشيداً جديداً، من جهز كفنك والتابوت إلى قاوم قاوم يا مغوار شعّل كلّ الساحة نار. لا يمكن اعتبار ما يقدّمه بركات نشيداً حتى، هي نصوصٌ مكتوبةٌ بعامية ركيكة، وألحان لا تتجاوز غالباً إيقاعاً يقوم على لطم الصدور مع كورالٍ مركّب إلكترونياً.
عدا عن بركات، ظهر منشدون آخرون من بينهم فتيان كـ هادي فاعور. في نشيدٍ بعنوان كفريا والفوعة، يتوعّد المنشد جبهة النصرة وقائدها أبو محمد الجولاني: “اسمع يا جولاني حسين عنواني (…) يا جبهة النصرة مصيرك حفرة”. وفي نشيدٍ آخر بعنوان وانتصرت زينب يقول المنشدان حسن عواض ومحمد صفي الدين: “لن تعود الشام مأوى للئام … ما خاب صوت الحسين وفينا قد هتف”. تقوم هذه الأناشيد وغيرها على شعر مكتوبٍ بعضه بالفصحى يستحضر فيه الحسين وشقيقته زينب في المعركة الدائرة مع المعارضة الإسلامية المتشدّدة متمثلةً بـ جبهة النصرة وتنظيم داعش، مع ألحانٍ حماسية معزوفة الكترونياً، دون عناء كبير في التلحين ولا في التوزيع الموسيقي. لا يقتصر تأليف هذه الأناشيد على ضرورات المعركة اذ ان سهولة إنتاجها وسرعة إصدارها فتحت سوقاً أيضاً، إذ تحظى أناشيد كهذه باهتمامٍ شعبي ويتم تداولها بين الناس. حصدت أنشودة فاعور السالف ذكرها على سبيل المثال قرابة ثلاثة ملايين مشاهدة على يوتيوب.
ظهر سوق آخر بسبب هذا التطور في عملية تسجيل الموسيقى وتلحينها، وهو سوق المرثيات. عند الكتابة في خانة البحث على يوتيوب “مرثية الشهيد…”، ستظهر مئات النتائج لمرثيات لمقاتلين للحزب سقطوا في سوريا. يعدّ علي بركات أحد رواد هذا النوع من المرثيات تأليفاً وتلحيناً وإنشاداً إلى جانب آخرين هما حسين جعفر ومحمد جعفر غندور.
تتشابه هذه التسجيلات عادةً في كلماتها وألحانها. فيما يركز قسمٌ منها على المقاتل في حياته الشخصية ومزاياه والحزن على فراقه، يركّز قسم آخر منها على الحديث عن بسالته في المعركة وكونه أحد أتباع الإمام الحسين والمدافعين عن شقيقته زينب. وتُنتج عادةً بناءً على طلب من أقارب أو أصدقاء المقاتل الراغبين بتخليد ذكرى فقيدهم قيقصدون أحد هؤلاء المنشدين الذين يأخذون أبدال مالية مختلفة – وفي بعض الحالات لا يأخذون أي مقابل- لقاء تأليف كلمات هذه المرثيات وألحانها ومن ثمّ إنشادها.
لا يمكن ربط انتشار هذه المرثيات بالتطور التكنولوجي حصراً، إذ يلعب غياب الحزب عن تخليد ذكرى مقاتليه فنياً في الحرب السورية دوراً رئيسياً في ذلك. لم ينحصر هذا الغياب فقط على المجنّدين العاديّين، بل امتد أيضاً إلى قادته الميدانيين الذين سقطوا هناك، وأبرزهم مصطفى بدر الدين (ذو الفقار). كان هذا الفراغ الذي خلفه الحزب بحاجة لمن يمليه. في الماضي كانت أنشودة كـ أخي سوف تبكي عليك العيون (من كلمات سيد قطب) التي غنتها فرقة الإسراء أو أمّاه إنّي راحل التي ذكرناها سابقاً وغيرهما من الأناشيد التي تبكي الشهداء وتواسي ذويهم، كافيةً لهؤلاء حتّى وإن لم تكن مخصّصة لهم بالاسم. كما انه لا يمكن إغفال تأثير العدد الكبير من المقاتلين الذين سقطوا في سوريا والذي يوازي ربّما مجموع شهداء الحزب في مواجهة إسرائيل على امتداد السنوات، من ظهور هذه المرثيات في ظلّ رغبة ربّما من ذوي المقاتل بمنع ذوبان ذكر ابنهم والحفاظ على كيانه الخاص المتفرّد والمتميّز عن البقية.
ليست تحولات الأناشيد سوى انعكاسٌ لتحوّلات الحزب نفسه منذ الثمانينيات وحتّى اليوم، من أقليّة غير مرحّب فيها إلى أكثرية تقود الجماعة، تأخذ منها كما تعطيها من طبعها وسلوكها ونمط عيشها. كربلاء التي بدأ التنظيم معها رحلته في النصف الأوّل من الثمانينيات، وخفت حضورها في أوقات أخرى، عادت اليوم للظهور لكن بشكلٍ آخر. تحوّلت صورة الجماعة عن نفسها من أناس مستضعفين ومقهورين يحاربون لردّ الأذى والعدوان عن أنفسهم إلى أقوياء يحاربون لتحقيق نصر اعتادوه في الأعوام الأخيرة. لكن ذلك لم ينزع من أذهانهم لباس الحسين الصريع عنهم: هم ظلّوا الحسين، لكنّ يزيد تبدّل.