للحركة في الطقوس الحسينية شكلان ثابتان لكنهما مختلفان تمامًا في الأداء، الأول: اللطم باليد على الصدر أو الرأس أحيانًا دون التسبب بأذًى للجسد، ويكون غالبًا في مجالس حسينية مغلقة. الثاني هو التطبير، ويحدث في الأماكن المفتوحة، كالساحات العامة والشوارع، حيث تسير الجموع في المواكب، ويُستخدم فيه آلات حادة كالسيوف، وتتقاطر فيه الدماء. نتناول في هذا البحث الشكل الأول فقط، لسبر أغوار ماهية حركة اليد والجسد، وطبائع جمهور اللطامة، وعلاقة ذلك بالمعنويات الحسية والنفسية والاجتماعية، وتأثيراتها على المجتمع، وأبعادها السيكولوجية الفردية والجمعية.
تعتبر حركة اللطم باليد أحد أهم أسباب متابعة الغرباء لطقوس اللطميات الحسينية، فهي تخلق صورة جمالية داخل المجالس المغلقة. كما أن هيبة المشهد لا تعبر عن الجمال بوصفه حدثًا طبيعيًا، بل حدثًا إنسانيًا ملحميًا يرسخ لمعاني البطولة وفق المعايير الاجتماعية للطقوس، حيث يشترك العقل والجسد والفكرة في حركة اللطم لإحداث أقصى تعبير عن تجليات الاستعداد للموت فداءً لآلام الحسين وآل بيته. هكذا ترسخ الطقوس الحسينية للفكرة القائلة بأن الفناء هو الحقيقة المطلقة.
بشكل عام، يُلاحَظ في طقوس اللطم أن عنصر السيادة يتمركز في انتظام مجموع وحركة اليد لدى مجموع اللطامة، باعتبار أن مظهر حركتهم مع ترديد القصيدة بروح واحدة، مع انسيابية الإيقاع، لا يتكرر في أية فعاليات طقوسية أخرى. نتحدث هنا عن طقس بصري غير دموي فيه تكرار لحني يعتمد على تموجات الصوت بناءً على درجات الانفعال الحسي، دون حظوة مطلقة للضوابط الدقيقة المعروفة عند التسجيل في الاستوديو. يتكاثف صوت قراءة القصيدة مع الإيقاع فيشكل عنصر السيادة داخل اللطميات. على إثر ذلك يتحول المجلس الحسيني إلى استوديو كبير مفتوح في الفضاء العام. في كثير من اللحظات يصبح التفاعل الحركي مع عذوبة القراءة وقوة معاني القصيدة أكثر استحقاقًا من التدقيق في تفاصيل هوية الطقوس الدينية أو الاجتماعية.
يوضع الالتزام بديناميكية الحركة داخل الطقس الحسيني، والتعبير التراكمي المنتظم باللطم، في خانة ما وصفه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بالدين الحركي وليس الدين الاستاتيكي (السكوني). هنري برجسون، ترجمة: محمد قاسم، التطور الخالق، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥)، ص ١٠.
بالتالي، تصنَّف الطقوس الحسينية ضمن أشكال الدين الحركي في الأداء التعبيري الجسدي، علمًا بأن خلاصات مضامينها السيكولوجية يمكن أن تجعلها أحد أشكال الدين السكوني، عندما يفقد الجسد والعقل قدرتهما على الحركة بفعل التخدير الناتج عن ثبات الروح في مسار عرفاني عمودي؛ وهذه مسألة شخصية تتراوح بين فرد وآخر، لكن ضرورات الطقوس الحسينية تفرض نوعًا من الاتصال السماوي الجمعي مع الله. لهذا السبب يمكن تصنيف لطميات الطقس الحسيني ضمن فلسفة الحركة في تأسيس واستكمال أثر نفسي واجتماعي ملحمي تاريخي عبر تثبيت مركزية الجسد في الفكرة التي تعبّر عن الهوية الدينية، وهي فلسفة ينضوي تحتها الكثير من العلوم مثل علم اجتماع الجسد، ومنه استحدث السوسيولوجيّ براين ترنر مصطلح المجتمع الجسدي، لأن “الجسد أصبح المجال الرئيسي للنشاط السياسي والاجتماعي.” كرس شلنج، الجسد والنظرية الاجتماعية، ترجمة: منى البحر، نجيب الحصادي، ط ١، (أبو ظبي: دار العين، ٢٠٠٩)، ص ٢٠.
يفتح هذا المجتمع الجسدي مجالًا لفهم ماهية الهوية في سياقاتها الاجتماعية الدينية، علمًا بأن هوية الإنسان مسألة فردية سيكولوجية بالدرجة الأولى، ترسم حدودها من خلال التفاعل والانسجام مع المحيط الاجتماعي القريب (الأسرة) والبعيد (المجتمع) والأبعد (الأمة). يتحول التفاعل الاجتماعي في درجة ما داخل الطقوس إلى قضية إرادة عبر الحركة. نستنتج من ذلك أن ضياع الهوية النفسية يعتبر نتيجة لانعدام إرادة الحركة بصفتها قضية وجودية لإثبات تلك الذات الفاعلة. كما أن انعدام الإرادة هو في حد ذاته تخلٍّ عن قوة وفاعلية الإنسان في الوجود. هكذا تعتبر حركة اليد في الطقوس الحسينية تمثيلًا بسيطًا لحركة نفسية واجتماعية ودينية أكبر منها، لكنها حركة مُركّزة.
الحركة في الأداء الطقوسي بوصفها فكرة عن العقل والجسد
تعدّى الانشغال الاجتماعي بالجسد في الطقس الحسيني حدود النفس، وأحدث اختراقًا للجسد بوصفه مذنبًا أو متخليًا عن نصرة الحسين في التاريخ الماضي، وملبيًا مضحيًا بالنفس في الوقت الحاضر، علمًا بأن “الصلة وثيقة بين النفس والجسد كما يقول برجسون هنري برجسون، ترجمة: محمد قاسم، التطور الخالق، (المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥)، ص ٨.. لا يمكن أن تعمل النفس دون الجسد، لأنه أداة تستخدمها النفس في تحقيق أفعالها وتأدية حركاتها. لقد أحدث اختراق الجسد انتقالًا من الاستبطان العرفاني إلى الإعلان الاستنكاري الذي يؤدي إلى اندماج رمزي لمجتمع الطقوسية لتثبيت هوية دينية شعبية تعبّر عن الولاء والانتماء إلى الحسين وآل بيته. كما يفتح الاستبطان العرفاني في التعبير عن أية مظلومية مجالًا واسعًا للتضامن المعرفي، وليس التعاطف الشكلي، تمامًا مثل تلاوات القرآن التي تفتح حيزًا نحو معرفة علمية للمقامات وفروعها وأجناسها لتأصيل تأثير طريقة القراءة في مخرجات نغم التلاوة، وتشكيل اللحن بدلالات فهم المعنى، والذي يؤدي إلى نسج وترسيخ منظومات أخلاقية، مثل قيمة التقوى والهدى لخلق حالة تكامل سيكولوجي مع النص؛ وهذا ما كان يفعله الشيخ القارئ محمد عبد العزيز حصّان في تلاوة القرآن من خلال التلوين النغمي.
يَعتبر المؤرخ الفرنسي جاك لوجوف أن الذين يخرقون حدود الجسد لا يتمتعون بتقدير كبير، ويصف الخرق بالعار ويضرب مثالًا على ذلك بقوله إن العار يجمع بين الجرّاح، والحلّاق، والجزّار، والجلّاد. يضع ما ذكره لوجوف علامات استفهام حول فهمه للعار، إذ يبدو للوهلة الأولى أن العار عنده مماثل للانسيابية غير الاستشفائية من الأمراض؛ وهذا غير صحيح، لأن الجرّاح له دور في شفاء الآلام، والحلّاق له دور في تنظيف شعر الإنسان، والجزّار له دور في إشباع حاجة الإنسان من ألم الجوع. بالقياس على ما ذكره لوجوف، يعتبر اللطم أو إيذاء الجسد كفعل تثبيتًا لأصالة الممكن في التاريخ الماضي، أي أن دلالة الطقوس الحسينية تذّكر بالظلم الذي أُسقط في التاريخ. مقاربة لوجوف غير صائبة لأن خرق الجسد يحدث أيضًا في المفهوم الجنسي لخلق اللذة مثلًا، واللذة ليست عارًا في توظيفاتها الأخلاقية الدينية والإنسانية من نواحٍ سيكولوجية، إلا إذا كان الخرق الجنسي يوصف بالعار في حالاته غير الإنسانية وغير الأخلاقية، مثل تسليع الجنس باعتبار أن ما يحدث من انتهاك للجسد غير مرغوب فيه عند الفاعل بسبب عدم التقبل النفسي أو العاطفي لهذا الانتهاك مدفوع الأجر.
يفصل حيز بسيط بين حدود الخرق والانتهاك من جهة، والحاجة والرغبة الإنسانية من جهة ثانية. الخرق فيه انتقال أو عبور من نقطة إلى أخرى، وفي الخرق يحدث التلف والتمزيق. أيضًا، ورد في المعجم المعاصر أن “الخرق يعبّر عما يجاوز قدرة الإنسان وهو ما يسمى ’خارق’ ونقول خارق الشعور، أو رؤيا خارقة، أو مشهد خارق، أو أمر خارق للعادة: يعني مجاوز لقدرة العبد أو لطبيعة المخلوقات، المعجزة والكرامة، وخوارق الطبيعة: عجائبها.” أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، ج ٢، ط ١، (القاهرة: عالم الكتب، ٢٠٠٨)، ص ٦٣٥. أما الانتهاك فهو إصابة الهدف بدقة وتفتيته، وانتهاكه يعني الوصول إلى الهدف وإحداث خلل فيه. تقع الطقوس الحسينية بين حدود الخرق والانتهاك للروح والجسد في صورته الدموية، لكنها تقع أيضًا في حدود الحاجة وأحيانًا الوسيلة للوصول إلى فاعلية انتماء النفس إلى الروح في حالة اللطم. تخلق هذه المسألة دافعًا لفهم العلاقة بين النفس والجسد في حدود الحركة الطبيعية والبشرية.
يقول الباحث محمود زيدان في كتابه في النفس والجسد إن جسم الإنسان يتركب من أجزاء وأعضاء وكل ما يصدر عن جسمه من حركات وتغيرات طبقًا لقوانين علوم الطبيعة والكيمياء والأحياء وعلم وظائف الأعضاء. يسأل زيدان: هل يمكن تفسير حالات الإنسان النفسية وحوادثه العقلية بنفس القوانين؟ محمود زيدان، في النفس والجسد، بحث في الفلسفة المعاصرة، (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ١٩٨٠)، ص ١٣. نقول إن جسد الإنسان وأعضاءه أسبق بالنظر إلى بعض وظائفه قبل الولادة، لكنها ملازمة لوظائفه الحركية التي تنمو بعد ولادته. بالتالي تكون الحركة إما ثانوية أو أساسية يتحكم فيها العقل أو المؤثرات المحيطة به، فتستقر أو تنفعل مع تطور الزمن ونضوج العقل عبر المعرفة. لذلك، يعتبر نقصان أو زيادة التفاعل مرهون بهامشية أو بطء الحركة، وهذا يؤدي إلى بطء في التغيير، وبطء في سيرورة التاريخ. أما إذا كانت الحركة أساسية ومركّزة في كثافتها وقوتها كما يحدث في اللطميات، فإن ذلك يدل على ذات فاعلة تؤدي إلى سرعة في التغيير، وفي حركة التاريخ. هكذا يتبين لنا أن حركة التاريخ يؤسس لها الجسد أو المادة فيزيائيًا ويقودها التفاعل ويؤثر فيها الزمان والمكان، ولا تنتهي حركة التاريخ بانتهاء الجسد أو المادة، بل بالفناء المطلق.
على نحو تفصيلي، تقوم حركة الإنسان في الطبيعة على مبدأ أسبقية الفعل على القول، وأسبقية العقل على التاريخ، وقد ذهب الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن إلى الجزم بأن “العقل هو الذي يصنع التاريخ”، وأوضح بأن “الحركة ليست حركة التاريخ وإنما حركة العقل.” طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، ط ١، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ٢٠٠٠)، ص ١٠٠. إذا كان العقل هو الأصل في صناعة مسارات التاريخ، فإن الحركة تعتبر ميزانه في هذه الصناعة، وهي في موازاته لإحداث الأثر في التاريخ. تنشأ الحركة عن تفاعل العقل مع نمط التفكير، وتولد الإرادة من رحم هذا التفاعل الحسي والمادي. بشكل خاص يعتبر نشوء التفاعل بين العقل ونمط التفكير من أولويات التربية العقلية عند الإنسان، لا سيما عند التدقيق في حركته الباطنة والظاهرة. نقصد الحركة / التحريك كجوهر لعملية الخلق أو الصنع لإخراج ما بالقوة في العالم الهيولاني إلى الفعل، “أي من صورة الصور” كما أشار محمد عابد الجابري. محمد عابد الجابري، ابن رشد، سيرة وفكر، دراسة ونصوص، ط ١، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٩٨)، ص ١٩٤.
يُنتج تفاعل العقل مع نمط التفكير حركتَين، ظاهرية وباطنية. بالنسبة للحركة الظاهرية يُعبَّر عنها باستخدام لغة الجسد. أما الحركة الباطنية فيعبَّر عنها باستخدام الصوت، سواء عبر الكلام أو لغة الإشارة أو الكتابة. تعتمد الطقوس الحسينية على الحركتين الظاهرية والباطنية، حيث يدل على الظاهرية انفعال الجسد من خلال حركة اليد وقوتها في اللطم، ويدل على الباطنية استخدام الصوت لترديد القصائد، والكلام نفسه مكون من حركة وصوت، الصوت ناتج عن حركة الفك من ناحية تقنية، وحركة الدماغ من ناحية فكرية، وهذا ما ينتهي إلى النطق تعبيرًا عن المعرفة الكامنة. الحركة هي الأصل في الكلام، تمامًا كما هي أصل في الروح.
تعتمد الحركة الباطنية غالبًا على الشعور والتفكير العقلاني، لذلك يقول برجسون “إن المذاهب على حق في إصغائها إلى حديث الشعور الذي يقرر وجود الحرية الإنسانية، والعلم يبين أن الحياة الشعورية والفاعلية الدماغية متضامنتان.” هنري برجسون، ترجمة: محمد قاسم، التطور الخالق، (المركز القومي للترجمة، ٢٠١٥)، ص ٢٤٢. هكذا يمكن الجزم بأن الطقوس الحسينية في تعبيرها الشعوري إنما هي تثبيت لحرية إنسانية ناتجة عن تفاعل العقل مع الجسد. لهذا السبب تعتبر حيوية الحركة في اللطم أو أية حركات أخرى معيارًا يمكن من خلاله قياس عمق ومدى الإرادة الإنسانية وجدواها، ومن ثم معرفة طرائق نموها (بطئها أو سرعتها)، ويجري ذلك من خلال استدراك حركة العقل وطبائع التفكير في الطقوسية أو أي موضوع آخر؛ وهو ما يمكّن الإنسان من استطلاع فاعلية مسارات التاريخ وتأثيراته، لأن تطور الحياة متصل بتقدير فاعلية أية حركة وسيرورتها سواء كانت حركة تلقائية أم منظمة.
قد تؤدي الحركة التلقائية أو العشوائية إلى أثر سلبي في الحياة وينعكس ذلك على تطورات التاريخ. أما الحركة المنتظمة أو العملية العقلانية فقد تؤدي إلى أثر إيجابي في الحياة والتاريخ. ما يحدد حالة النظام من عدمه في التاريخ هو طبيعة ومسارات الحركة، بل إن الاتفاق أو المصادقة على أشكال الحركة ومضامين نتائجها هو ما يحدد ماهية وجدوى الفعل المقترن بالحركة، وبالتالي يحدد اتجاهات التاريخ.
حديثًا، أصبح للفيزياء الكمومية دور أساسي في فهم عمل الدماغ والتأثير عليه. يدرس علم الفيزياء كمية الطاقة لتحريك جسم ما بقوة ما لمسافة ما. على سبيل المثال: إذا أخذنا حركة النمر في الطبيعة، يمكن الاعتماد على فهم حركته من خلال سرعته وتأثيراتها على قراراته في العيش، أي الصيد والغذاء. يتغذى النمر معتمدًا على طاقة دماغه التي تشحنها سرعته من خلال العضلات في أعلى جسمه، حيث توفر حرارة العضلات طاقة كبيرة للدماغ كي تستمر الحركة. على إثر ذلك يصبح قياس جدوى وطول الحركة والطاقة أساسيًا في البقاء. لهذا السبب يتخذ النمر قراراته عبر استطلاع مدى الحركة (السرعة) لصيد فريسته. الأصل هنا أن البقاء على قيد الحياة يتمركز في قياس طاقة الحركة العضلية. إن عملية تراكم الحركة فيزيائيًا لإنتاج الطاقة تولّد الإرادة. كما أن الإرادة كتصميم نتيجة ظروف واعية في الإنسان وغير واعية في الحيوان تنشأ بحكم التجربة الداخلية الجسمانية وكمية طاقتها. لذلك فإن الرابط بين الإرادة والحركة هو النشاط التفاعلي بين حركة الجسد والعقل وانعكاس التجارب على تطور وبناء الجسد في التاريخ والطبيعة.
في حالة الطقوس الحسينية تعتبر منطقة الصدر هي العضلة التي تنتج الطاقة وتحركها سرعة أو بطء ضربات اليد، وينعكس هذا كله على نمط تفكير الفرد الذي ينسجم مع القراءة، فيكون الإيقاع الحركي منتجًا للطاقة باعتبارها محفزًا لفكرة ضرورة الانتصار لمظلومية الحسين.
هنا يجب أن نوضح مسألة تفصيلية في العلاقة بين الشعور أو اللاشعور بالغريزة، والقياس بالدليل، عبر التحكم بالحركة التي تسهم في تشكيل حركة التاريخ الطبيعي والبشري على النحو التالي:
أولًا: يتبع الشعور الغريزة فيضبطها أو يحررها، ثم يقودها إلى الانفعال الإيجابي أو السلبي الذي يؤدي إلى حركة جسدية بالفعل أو الكلام.
ثانيًا: القياس هو الذي يتحكم في الممكن وغير الممكن، بالاستناد إلى الدليل، ويقود إلى اتخاذ قرار عن طريق العقل، فيصبح القياس بمثابة حركة ناتجة عن التفكير النابع من القياس ودرجاته فيما هو ممكن وغير ممكن.
الشعور والقياس هنا متلازمان، يتشكلان ظرفيًا بالتزامن: حركة من الجسد وقرار من العقل.
الحركة في الزمان والمكان بوصفها حدثًا اجتماعيًا
سوف نتناول الحركة وماهيتها ومنشأها بوصفها علة صورية ومادية، والتاريخ وماهيته وتشكله بوصفه معلولًا من العلة، وهي الحركة كأهم قوة مؤثرة في التاريخ، والإنسان هو العلية الكبرى والأبرز في سردية الحركة والتاريخ.
يعني انعدامُ أو تلاشي العلة (الحركة) انعدامَ وتلاشي التاريخ. هنا نلتزم بتقسيم الزمان إلى نوعين بحسب برجسون، وهما الزمان العلمي الذي يقسم الساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية وهو وقت ثابت لا يتغير، والزمان النفسي وهو الزمان الذي يعيشه الإنسان ويستمتع به، وهو بالنسبة لبرجسون الزمان الحقيقي. المصدر السابق، ص ١١.
تلتزم الطقوس الحسينية بوصفها متحرك بالزمانين العلمي والنفسي؛ أولًا لأن الطقوس دائمة الحدوث في جزء من الزمان العلمي، أي في مواقيت المناسبات التاريخية المحددة مسبقًا، وهي سنوية، أيام محددة في كل عام، مثل عاشوراء ويوم مقتل الحسين، وهذا يعني أن الطقوس الحسينية تقع في الزمان المتتالي. عمومًا، “في كل أديان العالم لا تتجاوز ممارسة أي طقس من الطقوس اليوم الواحد أو عدة أيام في أكثر طقوسها تمركزًا ومحورية في هوية الجماعة الدينية التي تمارسها” كما يقول الباحث مهتدي الأبيض. مهتدي الأبيض، اجتماعية التدين الشعبي، دراسة تأويلية للطقوس العاشورائية، ط ١، (بيروت: دار الرافدين، ٢٠١٧)، ص ٨. أما الزمان النفسي فهو خاضع للتفكير الديني العقائدي لأنه زمان مرتبط بالعقل والروح، وهما سابقان على النفس، ما يعني أن الطقوس الحسينية لا نهائية لأنها مرتبطة بالفناء أو تعبّر عنه في أقصى تعظيم للتضحية. هذا التقدير العقلي والحركي للطقوس الحسينية في المجتمع هو الهدف الذي يُرجى من ورائه غاية أو علة غائية، وهي متأصلة بالنسبة لمجموع الفاعلين في المجتمع، وتبرر الطقوس باعتبارها سردية بالغة المدى للدين أو نهائية في تعبيرها عن عقيدة التوحيد في منشأها. بهذه الطريقة تنكشف في حركة الطقس ذاتها أهداف شكلية وأهداف ضمنية.
تساعد الأهداف الشكلية على تكوين سيرورة تاريخية جماعية تخص الجمهور عمومًا، في حين أن الأهداف الضمنية الجوهرية لها أبعاد وتأثيرات علمية معرفية وأحيانًا منهجية تخص الفرد. هنا يلجأ المؤرخون للتحليل والتفسير عبر مجموعة الأهداف الضمنية الجوهرية من أجل الوصول إلى الحقائق باعتبارها أهم بالنسبة للمؤرخ الجاد، لأن دراسة الأهداف الشكلية قد تحول أحداث التاريخ إلى ظواهر، وليس معانٍ. بالتالي يصعب استقراء الوقائع. كما قد تساعد الأهداف الضمنية على نقد الأهداف الشكلية. على سبيل المثال، الشعبوية كظاهرة لها أهداف شكلية، وهي أقل تأثيرًا في العقل الواعي، وأكثر تأثيرًا في الحس العاطفي. بالنسبة للطقوس الحسينية، ليس بالضرورة أن تكون حركة اللطم تعبيرًا عن الانتصار للمظلومية، فقد تكون مرتكزاتها عاطفية، أي أن الإنسان الذي يذهب إلى المجالس الحسينية بغرض اللطم، إنما يذهب بدافع حب آل بيت النبي بدون أية معرفة منهجية تاريخية عن حوادث التاريخ.
عند الحديث عن الحركة يجب أن نميز بين حركة الفرد وحركة الجماعة، أو الحركة الخاصة والعامة. عندما تصبح حركة الفرد كلية، أي يشترك فيها مجموعة من الناس تصبح فاعليتها وتأثيراتها أكبر. يتوافق ذلك مع نظرية عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيز حول الجماعة باعتبار أنها “مبنية على فكرة الوحدة الكاملة للإرادات البشرية.” فردينالد تونيز، ترجمة نائل حريري، الجماعة والمجتمع المدني، ط ١، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ص ٩١. تحفز فكرة تونيز على فهم طبيعة العلاقة بين الإرادة والحركة لأن ذلك سينتج عنه توضيح لأصل حركة التاريخ لدى الفرد والجماعة.
الحركة مفهوم فضفاض، لأن الحركات أنواع ذكرها الجرجاني في معجم التعريفات، وهي “الحركة في الكم، والحركة في الكيف، والحركة في الأين، والحركة الوضع، والحركة الذاتية والحركة القسرية، والحركة الإرادية، والحركة الطبيعية، والحركة بمعنى التوسط، والحركة بمعنى القطع.” العلامة علي بن محمد الجرجاني، تحقيق ودراسة محمد صديق المنشاوي، معجم التعريفات، ط ١، (القاهرة، دار الفضيلة، ٢٠٠٤)، ص ٧٥، ٧٦. كل نوع من هذه الحركات له تعريفه الخاص، وتتطلب مراجعتها بحثًا منفصلًا يدرس الأبعاد السيكولوجية والاجتماعية للأداء الفردي والجمعي في الطقوس الحسينية، لأن ذلك يتعلق بقياس قوة الفعل وحيزه. بشكل عملي، نأخذ نموذجًا من حوادث التاريخ على الحيز بين فهم الحركة وتأثيراتها الطقوسية في الدين. يقول علي الوردي “كان عمار بن ياسر لا يبالي بإسلام قريش الذي أعلنوه ولا بالطقوس الدينية التي يقومون بها. فهو يعتبر الدين حسن المعاملة. أما الشهادة والطقوس فهي في نظره مظاهر سطحية لا تغني عن الحق شيئًا.” علي الوردي وعاظ السلاطين، ط ٢ (بيروت: دار كوفان للنشر، ١٩٩٥)، ص ١٧٢. هذا رأي عام لعمار بن ياسر، أما خصوصيته فهي تخضع لمعايير نقد الظرف الاجتماعي والسياسي التاريخي الذي كان سائدًا آنذاك. تكمن أهمية الرأي في فهم مضامين ودلالة رأيٍ ينفي الإعجاب المطلق بالطقوسية السطحية، أي الحركة بدون أية منطلقات عقلية، خصوصًا عندما ينحل تفاعل العقل مع نمط التفكير، لأن هذا الانحلال يعني عدم ولادة الإرادة الحسية الحقيقية في نفس الإنسان الملتزم بالطقوسية.
في هذا السياق، يقول نديم البيطار في كتابه الأيديولوجيا الثورية “إن حركة الإنسان منذ عشرات الألوف من السنين كانت جهدًا متواصلًا متتابعًا، والموقف الإنساني يمثله تركيبين، عقائدي وتكنيكي.” نديم البيطار، الأيديولوجيا الثورية، ط ٢، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ١٩٨٢)، ص ١٨١. يُفهم من هذا الرأي أن منبع كل جهد يَنتج عنه حركة يعود أصلها إلى التركيبة العقائدية أولًا، أي جوهر التوحيد في الرسالة السماوية، ثم إلى التقنية ثانيًا، أي الأسلوب الذي يُعبر عن انبثاق نور العقيدة داخل الطقس الحسيني أو أي شكل من أشكال الطقوسية الدينية، سواء كانت باطنية أو ظاهرية. يعني في حالة اللطم يمكن لنا أن نصطلح على مجتمع اللطلامة بالقول إنه مجتمع الحركة أو مجتمع الإشارة، لأنه يطور فهمًا مشتركًا عن الفعل كضرورة للاتصال الدنيوي لغاية مشتركة علوية. كما تعطي وحدة وتوافق الحركة في الطقس الحسيني انطباعًا عن جدوى العمل الجماعي في ترسيخ أصالة الوعي والهوية الدينية.
ليس بالضرورة أن يكون للمجتمع هوية واحدة، بل ربما ينقسم المجتمع الواحد إلى عدة مجتمعات تتحكم فيها طبائع وعادات ثقافية متعددة، كاختلاف اللهجات وأنوع الطعام والأزياء، أي اللباس التقليدي. في حالة الطقوس الحسينية فإن اللباس الأسود لمجموع اللطامة وأنواع الطعام الطقسي التي توزع في المناسبات الحسينية مثل الهريسة والقيمة وصينية عرس القاسم، تدفع جميعها باتجاه خلق مجتمع ذي خصوصية موازٍ للمجتمع العام. في بعض المجتمعات مثل العراق، تتلاشى الفروق بين المجتمع الخاص والعام بالنظر إلى الانتماء الثقافي الشعبي لمفاهيم وفعاليات الطقوس الحسينية، ما يزيد المجتمع الحسيني الخاص قوة، لأنها تجعله مجتمعًا قائمًا بذاته ومتحكمًا في مسار اجتماعي سيكولوجي للمجتمع الأكبر.
إن ظاهرة الطقوس الحسينية بما تمثله من معانٍ عملية ترسخها القصائد والفعل الحركي، تستند إلى مرجعية دينية وفقهية بغرض تشكيل وحدة حال نفسية واجتماعية دينية. هذا ما يسميه نديم البيطار الأيديولوجية الانقلابية، التي يستطيع من خلالها المجتمع أن “يحدد ذاته ويسترجع حيويته الروحية والنفسية.” المصدر السابق، ص ١٨٤. ليس بالضرورة أن يكون الانقلاب عسكريًا كما هو مألوف في المجتمعات الشرقية، بل قد يكون ثقافيًا أو حتى دينيًا بالمعيار الفقهي. كما أن الفن يمكن أن يُحدث انقلابًا، لأن جدوى الفنون هي تعبير حركي وأداة ثقافية في صلب التربية حيث يكمن الوعي والتجربة. على سبيل المثال، بشعر بعض الذين يشاهدون اللطميات والطقوس الحسينية بالرهبة التي ترسخها منظومة الإيقاع المتكرر الذي يظل يضرب في العقل من كثرة التكرار بوصفه حالة تأكيد على الوعي الحاسم والبالغ التأكيد في المعنى الذي يُساق في القصائد بكافة أوزانها وأشكالها. في هذا الإطار، يعترف فرانز فانون في شرحه عن الثقافة القومية بأن “مجرد تأليف أغنية ثورية للمشاركة في الثورة التي تخوضها الإنسانية وأفريقيا على وجه التحديد لا يكفي، وإنما ينبغي صناعة هذه الثورة مع الشعب حيث ستأتي الأغاني من تلقاء نفسها بالمشاركة.” فرانز فانون، معذبو الأرض، (بيروت: دار القلم، ١٩٦١)، ص ١٢٧.
ثمة تجارب أو طقوس فنية وثقافية، وحتى دينية، فشلت لأن الحركة اختُزلت في أشخاص بعينهم أو أنها تقوقعت في مجتمع أو حُوصرت في جغرافيا ما. على سبيل المثال، قد تكون الأسرة ذلك المجتمع المقصود، والبيت هو الحدود الجغرافية للحركة الطقوسية، وهذا ما يحدث عادة في بعض الدول الخليجية، مثل البحرين أو السعودية، حيث تتعرض الطقوسية الحسينية لحصار مستمر. من الأمثلة الحيوية الشاملة ذلك الاستلاب الاجتماعي والثقافي الذي وقع بعد تفجر ثورات الربيع العربي، حيث كان للجمهور هوية ذات طابع واحد في بداية الثورات على مساحة جغرافية تشمل غالبية دول الشرق الأوسط، لكن غيّر النسق السياسي والاجتماعي كل شيء، وهذا ما شرحه جلبير أشقر في كتابه الشعب يريد حيث ناقش في بداية الفصل الرابع القوى الفاعلة في الثورة ومعطيات العملية الثورية انطلاقًا من فحص نمط الإنتاج وخطط التنمية واتجاهات السياسة الإقليمية والدولية جلبير أشقر، الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية، ط ١، (بيروت: دار الساقي، ٢٠١٣)، ص ١٤٦. .
الأوزان الإيقاعية في اللطم باليد ونظيرتها الآلية
لا ترتبط المقامات الغنائية وأطوارها والأوزان الشعرية بإيقاع اللطم، رغم انسجام إيقاع حركة اليد في اللطم مع درجة البطء والسرعة في الإيقاع اللحني. يتحكم الرادود بدرجة كبيرة في مجمل الإيقاعات نتيجة خبرة في الممارسة وإدارة العلاقة مع جمهور اللطامة على المنبر. تستعيد الإيقاعات باستخدام حركة اليد والجسد تجاربًا اجتماعية من تاريخ القدماء الذين هم بحسب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز “يُرجعون الحركة إلى عناصر مدركة بالحس أو بالعقل، إلى أشكال أو أفكار هي نفسها أزلية وثابتة (صور، مُثُل)”، ويشير إلى أن “إعادة تأليف الحركة تحتم القبض على هذه الأشكال في أقرب نقطة من تحولها من القوة إلى الفعل داخل مادة سيال.” جيل دولوز، ترجمة حسن عودة، الصورة والحركة أو فلسفة الصورة، (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما، ١٩٩٧)، ص ٩. يجري تمثيل بعض هذه النماذج الحسية البصرية عند أداء الشيلة كفن شعبي، وأحد أنواع الشعر الحماسي، والشيلة كناية عن المناداة للهبة. أما في اللطميات يُلاحظ وجود زخم في الجمال الإيقاعي النغمي، الحسي والبصري، حيث يتمركز في صوت الرادود من جهة، وفي القوة الإيقاعية عند ترديد الأبيات الشعرية من جهة أخرى؛ وهي تتضمن حالة قوة وتحدي تشبه تلك الموجودة في الصيحات القتالية في رقصة الهاكا التراثية لسكان نيوزيلندا الأصليين، والتي لها تأثيرات نفسية ومضامين اجتماعية.
سوف نستعرض دلالة الإيقاع الثابت في اللطميات عبر الأمثلة، ونشرح الوقفات وأماكن السرعة والبطء من خلال استطلاع حركة جمهور اللطامة في المجالس، وتمكنهم من اللطم والانغماس في الأداء، بل والانسجام مع الحركة إلى حد الانضباط في الضرب باليد، فيما يشبه الآلة. كما يدل الوقوف الطويل لجمهور اللطامة أو الجلوس بطريقة معينة في المكان على نضوج الحركة عبر تكرار اللطم باليد الذي يشير إلى مخرجات إيقاعية مؤكدة.
يرتبط فهم الإيقاع الحسيني بفهم الضرورات المنبرية في استخدام بعض اللوازم مثل الوقفات والنغم في الأطوار الحسينية، وكل ذلك يرتبط أيضًا بفهم الأوزان الشعرية التي تعمل أحيانًا على تحديد مسار الإيقاع في اللطميات، حيث يختلف وزن كل قصيدة عن الأخرى، وعلى إثرها يختلف اللحن، ويستثنى من ذلك القصائد العمودية. مثلًا، طور التخميس من نغم البيات، حيث يختم الخطيب مجلسه الحسيني بهذا النغم، وهذا الطور ملزم بإيقاع معين، وهو غير مشهور مثل طور التخميس الحجازي. رضا الطويرجاوي، الأطوار الحسينية في حلتها الجديدة، ط ١، (بيروت: دار المرتضي، ٢٠١٢)، ص ٧٧. يُقرأ في هذا الطور أبيات فصيحة (وهي خمسة أبيات) لكنهم يقرأون منها اثنَين ويتركون الباقي. على سبيل المثال:
لم أنس زينب بعد الخدر حاسرةً / تُبدي النياحة ألحانًا فألحانا
مسجورة القلب إلا أن أعينها / كالمعصرات تصب الدمع عُقيانا
تدعوا أباها أمير المؤمنين ألا / يا والدي حكّمت فينا رعايانا
“يلجأ الخطباء الحسينيون إلى إنهاء مجالسهم بهذا النغم” حسبما يقول الشيخ رضا الطويرجاوي. المصدر السابق، ص ٨٣. تصلح هذه الأطوار غالبًا لمجالس النعي أو الكعديات / القعديات، لكنها لا تستخدم كثيرًا في اللطميات لأنها ملزمة بإيقاع معين لا يتناسب كثيرًا مع اللطم، أو يكون اللطم على هذا الطور بطيئًا وملزمًا بالإيقاع الشعري، ومحكوم بوزنه. على سبيل المثال، قصيدة جرت المدامع من طور التخميس بصوت عبد الزهرة الكعبي.
عمومًا، لا تناسب جميع الإيقاعات الشرقية إيقاع اللطميات المعروفة إلا إذا تغير إيقاع حركة اليد. يعتبر إيقاع كراتشي بشكله البطيء والسريع أبرز الإيقاعات المناسبة للطم باليد في غالبية القصائد.
عثرت على واحدة من أبرز اللطميات التي استُخدم فيها عدد من الإيقاعات الموسيقية المعروفة بما يتلاءم مع حركة اليد، وهي لطمية جينا ننشد كربلاء بصوت الرادود مصطفى النائب. تُقرأ هذه اللطمية على مقام الرست، ويستخدم هذا النغم في طور البحراني (يسمى أيضًا الفائزي العراقي).
لا يُعرف بشكل دقيق سبب تسمية هذا الطور بالبحراني، لكن الذي يستمع إليه يُلاحظ أن فيه عذوبة صوت النهامة في روح غنائهم البحري. هذه اللطمية للرادود باسم الكربلائي تعطي صورة أفضل عن الطور، وبالتحديد في حلاوة النغم بعد الدقيقة الثانية.
بالنسبة للطمية جينا ننشد كربلاء، تبدأ اللطمية بإيقاع ثابت يشبه إيقاع كراتشي البطيء، وزن ٢/٤، وفيه القليل من روح إيقاع الأيوب أو الزار ٢/٤، وهو إيقاع السادة الصوفية الذي ينسجم مع روح اللطمية بشكل نسبي، لكن ليس مع الإيقاع. يبقى إيقاع كراتشي البطىء ثابتًا حتى الدقيقة ١١:٠٣. بعدها يتحول الإيقاع إلى شكل آخر سريع حتى الدقيقة ١١:٤٠، وهو يشبه إيقاع الفالس ٣/٤ على نحو دقيق، أو إيقاع الرومبا الغربي مع مراعاة عنصر البطء والسرعة باعتبار أن اللطمية ليست منتظمة آليًا مثل الإيقاع، لكن استخدام إيقاع الرومبا يدويًا مع ضبط حركة إيقاع اليد في اللطم يجعله متناسقًا مع روح النغم على نحو بعيد. بعد الدقيقة ١١:٤٠ يدخل إيقاع آخر مختلف عن إيقاع الفالس. هنا نلاحظ أن إيقاع اليد أصبح متوسطًا بين ما كانت عليه بداية القصيدة وما وصلت إليه عند إيقاع الفالس السريع، حيث يضرب اللطامة أربع ضربات متناسبة مع بيت القصيدة، وتشبه حركة اليد إيقاع كراتشي، وزنه ٢/٤، وينسجم روح الإيقاع مع هذه الجزئية من اللطمية حتى الدقيقة ١٢:٣٠، ثم تعود حركة يد اللطامة إلى إيقاع الفالس مرة أخرى، ويعود اللطامة إلى حركة إيقاع الكراتشي حتى الدقيقة ١٣:١٦، ثم يعود إلى إيقاع الفالس، وهكذا يتكرر الإيقاعان حتى نهاية اللطمية.
بشكل عام، نلاحظ أن كافة اللطميات التقليدية تنتهي بإيقاع سريع يقوده الرادود عبر الإسراع في القراءة، وهو ما يقود جمهور اللطامة إلى تغيير نمط الضرب على الصدر إلى الإيقاع السريع. يقول رضا الطويرجاوي “هذه المقطوعة السريعة يكون فيها شد وحماس وضرب شديد على الصدر، وتُسمى النزلة. هذه النزلة من نغم السيكاه.” المصدر السابق، ص ٩٢. من الأمثلة، لطمية يا حيدر بباب الدار بصوت باسم الكربلائي.
في هذه اللطمية، نلاحظ أن الإيقاع يظل ثابتًا على نفس النسق من البداية وحتى الدقيقة ٥:٣٠. بعد ذلك يتغير الإيقاع إلى الأسرع من خلال بعض الإشارات التي يقوم بها الرادود، ومنها القراءة بشكل أسرع. يتبين أيضًا أن كاتب القصيدة يشارك في إعطاء مفاتيح لغوية باستخدام كلمات ومعاني للإشارة إلى إمكانية الإسراع في اللطم:
الوجن من ولم صدري / وبيدي لازمة ضلوعي
يعتبر كل ذلك تفاهمًا ضمنيًا مسبقًا وانسجامًا بين الرادود ولغة الشاعر وجمهور اللطامة. كما نشاهد ارتفاع طبقات صوت الرادود إلى جواب الجواب عند الدقيقة ٦:٢٥، والدقيقة ٧:٣٤. استطاع الرادود أن يوازن بين صعود الطبقة في مقام الكرد وبين تحفيز جمهور اللطامة باستخدام الهمهمات والكلمات التحفيزية مثل “بارك الله بيك، هلا هلا” عند الدقيقة ٧:٢٤. كما يُلاحظ أن الرادود تعمّد إلى منح السيادة للإيقاع عبر الصمت عند الدقيقة ٨:٥٢ وذلك لضرورات معنى بيت القصيدة:
قالوا تونّ ليل نهار / واحنا لصوتها نسمع
تعتبر غالبية تفاصيل القراءة عاملًا أساسيًا في التحكم بقوة الضرب باليد وضبط مسار الإيقاع على نحو حيوي ومنتظم. يُريد الرادود أن يُعلي من أهمية صوت الأنين مقابل الصمت، وتكريس أهمية صوت الإيقاع. هو افتداء الأنين بالانتصار له عبر اللطم.