شيء من الغطرسة | لماذا لن يموت البوست روك

في مطلع أبريل / نيسان الماضي أطلقت فرقة البوست روك الفرنسي بروي ألبومها الأول، ذَ ماشين إز برننج آند ناو إفري وَن نوز إت كود هابن أجين، ليحقق شبه إجماع على أنه من أهم ألبومات الجنرا هذا العام، إن لم يكن بالعموم، ويستحق مزيدًا من الاهتمام. شهد هذا العام في أشهره الأربعة الأولى ألبومات جديدة لـ موجواي، وجاد إز آن أسترونوت، وجودسبيد يو! بلاك إمبرور؛ أي ثلاثة من أهم فرق الجنرا منذ أواخر التسعينيات. صدر ألبوم الأخيرة في نفس يوم صدور ألبوم بروي، ما يجعل من المثير للفضول أن يحصد ألبوم بروي ردة فعل كهذه.

كان الألبوم مذهلًا. الغريب أنه ألبوم بوست روك تقليدي بامتياز، لا يتراقص على الخطوط الفاصلة بين البوست روك والشوجايز أو البوست ميتال أو غيره من الجنرات الفرعية، إذ أصاب قلب الجنرا نفسها بلا شك. على أية حال، ماذا تعني كلمة تقليدي تحديدًا في جنرا يزعم الكثيرون أنها غير تقليدية على الإطلاق؟

ليست محاولة تصنيف الجنرا نفسها سهلة. يختلف المستمعون والصحفيون الموسيقيون حتى على وضع نقطة بداية للجنرا. يُحدث مصطلح البوست روك نفسه انقسامًا لا بأس به بين المستمعين وحتى بين موسيقيي الجنرا. يقع الإجماع العام على أن واضع هذا المسمى هو سايمون رينولدز في مراجعته لألبوم بارك سايكوسيس الصادر في ١٩٩٤، هيكس، رغم نفي رينولدز ذلك. كعادة أي مسمًّى أطلقته الصحافة، نجد بعض الموسيقيين مثل موجواي يرفضونه لأنه “فيه شيء من التعالي على الروك، فيه شيء من الغطرسة”، أو كما وصفه كريس فوجيوارا عازف البايس في كول دو ساك: “مسمًّى مفيدٌ فقط للنقاد والمؤرخين.”

ربما تكمن المشكلة فعلًا في محاولة استخدام مصطلح ثابت لوصف حالة موسيقية غير منظمة وغير مقولبة. يشعر مستمع البوست روك هذه الأيام بشيء من الغرابة حين يُشار إلى بعض الفرق الأقدم في الجنرا. اختلف الإنتاج الصوتي تمامًا، ودون وجود مسمى البوست روك لا يظن السامع أن فرقًا مثل ساير روز وموجواي وتورتويز ستكون في سلة واحدة. في محاولة للحديث عن تاريخ هذا المصطلح خرجت علينا جانيت ليتش بمسمًّى جديد في كتابها فيرليس عن تاريخ البوست روك، وهو البروتو بوست روك. 

الظريف في المسمى الجديد أنه لا يدّعي تشابهًا موسيقيًا بين كل موسيقيي الجنرا، وإنما يحاول فقط الإشارة إلى مشهد الروك الفرعي الذي سينبثق منه البوست روك في نهاية الثمانينيات. تميز ذلك المشهد بالضجر من الجماليات الذكورية الفجة للروك أند رول والبنك، والضجر من استخدام نفس الآلات لإنتاج نفس الأصوات، ومن قولبة البنك لأنه قال كلمته وأصبح يكرر نفسه. في ظل هذا خرجت مجموعة من الفرق التي اندفعت نحو التجريب، متأثرة بكل شيء، من الريجي والدَب، مرورًا بالجاز الحر، إلى الكراوت روك والنو وايف. محاولات شتى لخلق صوت جديد وإدخال آلات جديدة على الجنرا وهدم جماليات وثيمات الروك المعتادة وإعادة التفكير في دور الآلات والغناء في الموسيقى.

في مرحلة البروتو بوست روك، لم يكن الإنتاج الموسيقي مثمرًا دائمًا لكنه خرج على المستمعين (منهم الفنانون الذين سيشكلون مشهد البوست روك) بفكرتين هامتين يستخدمهما القطاع الأكبر في توصيف البوست روك. أولاهما استخدام آلات الروك التقليدية وطابعها الصوتي، كالجيتار والبايس والدرامز، لخلق أصوات جديدة، والثانية هي هدم البناء الهرمي المتعارف عليه الذي يضع الغناء والليد جيتار في المقدمة وجعل الآلات سواسية.

أصدرت فرقة توك توك ألبومين في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات يعتبرهم السواد الأكبر نقطة بداية البوست روك، هما سبيريت أوف إيدن في ١٩٨٨ و لافنج ستوك في ١٩٩١ هناك خلاف قوي حول تلك النقطة، حيث يفضل آخرون وضع نقطة البداية عند ألبوم سبايدرلاند ١٩٩١ لفرقة سلينت؛ ورغم اتفاقي أن هذا الألبوم هو من أهم ألبومات الجنرا، أميل شخصيًا إلى معسكر توك توك.. يعتبر سبيريت أوف إيدن في هذه الحالة نقطة بداية الموجة الأولى من البوست روك. نلاحظ في الأعمال المنتمية إلى تلك الفترة أنها تتشابه في اختلافها. يحاول البوست روك هنا إبراز غياب الطباع الصوتية والثيمات المشتركة التي تلاحظها الأذن، ويُظهر الطموح التجريبي لتلك الفرق. نلاحظ مثلًا غياب السولوهات والباور كوردز ومحاولة تغيير صوت الجيتار بأساليب جديدة، كالعزف بالمفكات والسكاكين. نلاحظ أن الغناء لم يعد يحمل نفس القدر من الوضوح في المزج بالضرورة؛ لأنه أصبح مكملًا للصوت العام ولا تحاول الفرق جذب الآذان إليه. في نفس الوقت بدأ التطور يظهر في شكل بؤر محلية بعض الشيء، مثل وجود بوست روك شيكاجو الذي تميزت فرقه باستخدام بعض العناصر الإلكترونية والسنثات مثل تورتويز، وظهور مشهد مونتريال في نهاية العقد والذي أبدى تأثرًا بالأوركسترالية. لذلك نجد مسمى الموجة الأولى من البوست روك يستخدم لوصف ألبوم لافنج ستوك، المصطبغ بالجاز الحر والذي يعتمد بقوة على الآلات النحاسية، ويستخدم أيضًا لوصف ألبوم سبايدر لاند لسلينت الصادر في العام ذاته، والذي يركز أكثر على جانب الروك والجماليات التقليلية واستخدام الآلات المعتادة للروك لخلق أجواء صوتية كثيفة.

استمر الحال على هذا حتى عام ١٩٩٧ حين حصل البوست روك على صوت جديد يشترك في الأولويات بعض الشيء. صوت مازال يهتم بالتجريب وإدخال آلات جديدة، لكن بغرض خدمة أجواء الموسيقى أكثر من التجريب بغرض التجريب، صوت أكثر تأثرًا بألبوم سبايدر لاند بشكل كبير. في ذلك العام جرى إعلان ميلاد الموجة الثانية بإصدار الألبوم الأول لكل من موجواي وجودسبيد يو! بلاك إمبرور (يانج تيم وإف شارب إيه شارب إنفنتي على الترتيب) وإصدار الألبوم الثاني وربما الأهم في مسيرة الفرقة الآيسلندية ساير روز، أوجايتس بايريون. أصبحت هذه الفرق الثلاثة، وانضمت إليهم في بداية الألفية إكسبلوجنز إن ذَ سكاي، ما يطلق عليه في أوساط البوست روك بالأربعة الكبار. حتى بعد مرور ما يقارب ربع قرن مازالت تلك الألبومات من كلاسيكيات الجنرا. كان لتلك الفرق الإسهام الأول وربما الأكبر في استمالة قطاع أكبر من المستمعين إلى الجنرا، بعدما استُخدمت موسيقاهم مرارًا في أفلام ومسلسلات وألعاب فيديو، وحتى وثائقيات البي بي سي. 

ما زالت الموجة الثانية موجودة نسبيًا، لكنها بدأت تخبو. مع مرور الأعوام انتهت مسيرة بعض الفرق التي ارتبطت بالموجة الثانية أو انعدم إنتاجها الجديد، ما جعلهأ أقل أهمية في المشهد، مثل ريد سباروز ومايبي شي ول، وسلكت الفرق الجديدة إحدى اتجاهين. الأول هو اقتحام التجريب والاعتماد على الإلكترونيات في موسيقاهم حتى أصبح تصنيف أعمالهم كبوست روك فيه شيء من الصعوبة، ما جعل معظم المستمعين والنقاد يميلون إلى تصنيفهم تحت مسميات مجاورة للبوست روك كالبوست ميتال؛ مثل الألبومات الأحدث لفرقتي سومن وفايولت كولد التي تستعيد الغناء التقليدي للميتال. اتجهت إيما روث راندل – من عازفي الجيتار المهمين في الموجة الثانية – مثلًا في أعمالها المستقلة إلى مزج البوست روك بالفولك والميتال، محتفظة بالأجواء المحلّقة، لكن أعادت جماليات كتابة الأغنية والغناء إلى مقدمة العمل. 

تميّز الاتجاه الثاني بانعدام شعبيته وفقر طموحه، والذي يصفه البعض بالموجة الثالثة أو بالـ كريشندو كور كنوع من التقليل. بحثت الكثير من الفرق الصغيرة عن البوست روك في الطباع الصوتية للفرق الأكثر شهرة، دون الانتباه لكون لب البوست روك في التجريب. نجد تلك الفرق تملأ أي راديو مخصص للبوست روك ولا يقتصر على الموسيقى الأقدم أو الأشهر، أو تجدهم في بلاي ليست أو تجميعة بوست روك للاسترخاء وما شابه.

دفعت فرق الموجة الثالثة المستمعين إلى القول إن “البوست روك قد مات” أو “إنه يلفظ أنفاسه الأخيرة”. وقع الإنتاج الجديد بشكل كبير في فخ النمطية وشكل البوست روك وجمالياته دونًا عن روحه التجريبية. لم تعد تلك الفرق تدفعني للتساؤل عن طبيعة الأعمال القادمة، فطبيعتها صارت معروفة، أعمال اشتقاقية تتميز بالأسماء الطويلة والتراكات الأكثر طولًا، إذا حاولت رسم الموسيقى ستنتهي بموجة ساين (sine)، شد وجذب، تراكات تحاول بناء التوتر لبضع دقائق ثم تنتهي بانفراجة متوقعة. باتت الكريشيندوز كليشيهية حتى أصبح المستمعون يستخدمون لفظة كريشيندو كور كسُبّة. 

أصبحت فرق الموجة الثالثة تبحث عن العظمة في تكرار نمطية كانت عظيمة ومبتكرة في أوائل الألفينات دون الإمعان في ما جعلها عظيمة ومبتكرة. ربما كان ألبوم ليفت يور سكيني فيستس لايك أنتيناز تو هيفن من أهم ألبومات الجنرا وأشهرها على الإطلاق، ليس بسبب استخدام بنية الكريشندو أو لكونه ساعة ونصف مقسومة على أربعة أغاني فقط، وإنما بفضل البناء الأوركسترالي الفج، واستخدام الآلات النحاسية والوترية بشكل جديد على الروك نفسه، والمخاطرات الصوتية التي أخذتها الفرقة والتي كانت مبتكرة وقتها وآتت أُكُلها. لكن لم يعد ذلك جديدًا، ولا تجريبيًا، ولا ممتعًا.

لذلك عندما استمعت إلى ذلك الألبوم لفرقة بروي تسمرت أمامه. هو ألبوم بوست روك بامتياز لأنه للمرة الأولى منذ فترة لا بأس بها أسمع فرقة جديدة في إصدارها الأول لا تحاول السير على خطى من سبقوها محاوِلةً تحقيق نجاح مماثل. يحمل صوتهم بناءً أوركستراليًا حزينًا. هنالك أورغن جنائزي ودرون يرسمان خلفية موسيقية تسمح لباقي الآلات بالظهور في جو مشحون وموتر. تتكون الموسيقى نفسها من طبقات تشكل مشهدًا صوتيًا كثيفًا وفجًا. في الواقع هو ألبوم تقليدي لأنه مكون من عناصر مألوفة بالكامل، لكن الطريقة التي تجتمع بها تلك العناصر وتوظّف فريدة، بالإضافة إلى ديناميكية الألبوم. 

مع الاستماع المتكرر للألبوم أصبحت أشعر به يحمل همًا ثقيلًا واضطرابًا ملموسين، لكن من حين إلى آخر يفصل بين فترات الاضطراب لحظات من الهدوء الجميل تسمح فيها باقي الآلات للوتريات بالظهور. بالذات في التراك الثاني من الألبوم، رينايسانس، حيث يأخذ الروك خطوة إلى الوراء لدعم البيانو وآلات النفخ التي تظهر فجأة قبل أن يأخذ منحى أكوستك. تتلو الأغنية الأخرى بانسجام يبدو أن الفرقة تقصد به أن تجعل تجربة الاستماع إلى الألبوم ككل مختلفة عن الاستماع إلى تراكات مفردة.

تعلم بروي أن جوهر هذا اللون من الموسيقى ليس في تكرار أصوات مشابهة والتقليد، بل في أخذ المخاطرة والتجريب. هذا ما يجعل البوست روك جنرا حية وممتعة، قدرتها على خلق صوت روك غير متوقع وغير نمطي قادر على الاستمرار. قدرتها على جعلي أتحمس حين أعلم أن فرقة ما تخطط لإصدار ألبوم جديد: أنا لا أعلم كيف سيكون ذلك الألبوم، لكنني أعلم جيدًا كيف لن يكون، لن يكون مثل ما سبقه.