في إحدى حلقات المسلسل الأمريكي موتسارت في الأدغال، وقف بطل المسلسل، المايسترو العبقري غريب الأطوار، متنكرًا في طابور أمام شباك تذاكر إحدى صالات نيويورك، حين سمع محادثة جانبية يقال فيها إن فيليب جلاس تبرع من قبل للصالة بكيبورد عرضه ثلاثة أمتار. لم يستطع كبح نفسه وأعلن: “أكره فيليب جلاس.” لماذا يكره المايسترو، الذي يظهر موتسارت في رؤاه وأحلام يقظته، مؤلفًا موسيقيًا مثل جلاس؟ ولماذا يشاركه عدد لا بأس به من المشاهدين ذلك؟ ربما يكمن الجواب في أنه ضمن موسيقى موتسارت “محبوب الرب”، لا تتكرر أية جملة موسيقية إلا فيما ندر.
بعيدًا عن الآراء الشائعة، يورَد التكرار – سمة موسيقى جلاس والتقليلية بصفة عامة – من قبل نقاد الموسيقى والمُنظّرين في سياق سلبي غالبًا، أو بوصفه فقرًا في الخيال التأليفي. مثلًا، يصف عالم الاجتماع والفيلسوف والمنظّر الجمالي ثيودور أدورنو أعمال الفترة المتوسطة لبيتهوفن، مثل بعض السوناتات، بأنها يغلب عليها “الطابع المتكاسل والتكراري” مقارنة بأعمال بيتهوفن المتأخرة. وصف الناقد الموسيقي دونال هيناهان أعمال جلاس نفسها بأنها “موسيقى الجري في المكان.”
أسئلة البدايات
يدور سؤالان كبيران حول منجز المؤلف الأمريكي فيليب جلاس، الأول متعلق بالبدايات التي اتسمت بمقطوعات طليعية تجريبية صعبة، ثم ما تلاها من تحول جلاس إلى موسيقى أكثر وضوحًا وبساطة. ما الرؤية وراء هذا التحول؟ هل كان مجرد رغبة في الوصول إلى قاعدة جماهيرية أكبر؟ يتعلق السؤال الثاني بالكيفية التي نتلقى بها المقاربة الكلاسيكية للموسيقى في النصف الثاني من القرن العشرين، بداية من الستينيات حتى الألفية الجديدة. تأثرت هذه المقاربة بالنزاع القائم بين الذائقة الجمالية المترسخة بفضل إرث الموسيقى الكلاسيكية منذ بدايات القرن الثامن عشر، المعتمدة على الإنماء، وبين بعض السمات الأسلوبية للكلاسيكية المعاصرة المعتمدة على التكرار في السجال حول التكرار في الموسيقى، تؤكد عازفة الكمان الشهيرة تاسمين ليتل أن غالبية الموسيقى الشائعة المنتشرة حاليًا ’ساكنة وبليدة’ نتيجة صياغتها التي تجعل من السهل التنبؤ بمساراتها. تؤكد أيضًا أن التكرار يحدث ’طبيعيًا’ في معظم تاريخ الكلاسيكية الغربية، لكن مع خلق التوازن بين التكرارية والإنماء، وتدلل على ذلك بعمل موتسارت في كونشرتو البيانو رقم ٢٣، حيث يكرر القفلة cadence لكن مع تطوير الجملة اللحنية نفسها أو نسق تتابع التآلف نفسه، لهذا يجمع بين سعادة التوقع وإثارة أو دهشة المفاجأة. في المقابل، تؤكد إليزابيث مارجليوث، في دراستها السيكولوجية عن التكرار في الموسيقي، على أن النسق التكراري ليس مجرد تكنيك موسيقي وإنما دعوة للمستمع من أجل المشاركة والتفاعل، إذ تنحت أنماط التكرار مسارات مألوفة في أذهاننا خالقة لذة التوقع. من قبل، صرح أكثر من ملحن، مثل شونبرج وآديس، أن التكرار التام exact repetition لا يمكنه أن يوجد في الموسيقى نظرًا لحركتها المستمرة وعلاقتها بالزمن.، كما في حالة موسيقى جلاس.
كان السؤال الذي شغل عقل جلاس في بداية مسيرته هو: من أين تأتي الموسيقى؟ سؤال تجريدي، مثل الأسئلة عن ماهية أو جدوى الفن.
يقول جلاس إنه كان يبحث عن لغة جديدة، وإن أي فنان في البداية يحاول إيجاد صوته الخاص. لكن عند تلك النقطة، يعلن جلاس عن مفارقته الكبرى: ليس المهم إيجاد صوتك الخاص، بل كيفية التخلص منه بعد إيجاده. “من هنا تبدأ رحلة المؤلّف الحقيقية.”
ولد جلاس في بالتيمور عام ١٩٣٧. درس في جامعة شيكاجو ومدرسة جوليارد للفنون وغيرها، لكنه لم يجد نفسه راضيًا بما تعلمه عن الموسيقى المعاصرة وقتها، فانتقل إلى أوروبا. هناك تتلمذ على يد المعلمة والموسيقية الفرنسية ناديا بولنجر، التي علّمت كثيرًا ممن صاروا أسماءً موسيقية بارزة في القرن العشرين. عاد جلاس إلى نيويورك عام ١٩٦٧ حيث كوّن فرقته بعد فترة وجيزة.
بعد وصوله نيويورك، حضر جلاس في أواخر الستينيات عرضًا لأداء أعمال الملحن الأمريكي ستيف رايش، زميل جوليارد القديم. تضمن العرض مقطوعة رايش التقليلية الرائدة مرحلة بيانو، التي تركت أثرًا عميقًا على جلاس. قبل نهاية الستينيات كان جلاس قد ألف أكثر من تسعة أعمال. تميزت مقطوعات تلك الفترة بالدقة والنزوع إلى التجريب، ورسخت التقليلية نهجًا موسيقيًا.
تُظهر أولى مقطوعاته، منتشي، مع غيرها من مقطوعات البدايات مثل موسيقى في حركة مماثلة وجرادس وموسيقى في شكل مربع، بعض السمات الأسلوبية التي ستصاحب جلاس طوال مسيرته بعد ذلك؛ ومنها التركيز على ثيمة موسيقية بعينها مع تغيرات محسوبة في النمط. لكنها تختلف أيضًا عن الأعمال التالية في أنها حدسية وغير منهجية في عملية الإضافة الخاصة بتفصيلات الإيقاع. كما تسمح بالحرية المطلقة للعازف أثناء الأداء، مع توزيع أوراق النوتة الموسيقية على الجدران أو في أشكال مختلفة. أما الأعمال التالية فتشهد مقاربة أكثر صرامة ومنهجية في توظيف تقنيات التكرار، كما يوضح كيث بوتر.
قدم جلاس عروضًا في العديد من الجاليريهات ومراكز الفن المعاصر، خاصة في سوهو في نيويورك، بينما لاقى صعوبات كثيرة في محاولة إقامة عروض في الصالات والمراكز الموسيقية المرموقة، وفي قدرة العازفين على التفاعل مع موسيقاه. عام ١٩٧١ شرع جلاس في تكوين فرقة فيليب جلاس أنسمبل، وضمّت عازفََي كيبورد وبيانو، آلات نفخ مثل الساكسفون والفلوت والكلارينيت، وأصوات سوبرانو.
ربما تكون المقطوعة الأكثر طموحًا التي قدمتها الفرقة حتى الآن هي موسيقى في اثني عشر جزءًا؛ نظرًا لطولها وتنويعاتها وتطور بنيتها الحلقية. كانت خلاصة متأنية لما عمل جلاس منذ سنوات على تطويره من تقنيات تكرارية. كتبها في الفترة ما بين ١٩٧١ إلى ١٩٧٤، وتصل مدتها إلى أربع ساعات.
للمقطوعة قوة جذب كالدوامة. أما مركز الدوامة نفسه، فيعمل جلاس على تقويضه ثم إعادة خلقه طوال المقطوعة. رغم البنية التكرارية لكل جزء على حدة، تكسر التنويعات أفق التوقع لدى المستمع. كما تتطلب المقطوعة أداءً استثنائيًا، خاصة من عازفي الفلوت والساكسفون. كل جزء شاسع، ممتد ومعقد، وينبغي على العازفين أن يحددوا موقعهم بدقة حيث تتضاعف العديد من السطور اللحنية في المقطوعة بعد حضوره العرض في تاون هول، أورد الكاتب ديفيد جريلا مثالًا على الصعوبات التي يمكن أن تحدث خلال العزف، فيقول إن الفرقة مع بداية الجزء الأول فقدت الانتظام في النبضة التي يبنى عليها التصاعد والتماوج اللحني قبل أن تُعيد تنظيم نفسها..
عرضت المقطوعة في تاون هول عام ٢٠١٨ بعد ٤٤ عامًا من عرضها الأول الذي شهد حضورًا محدودًا. كانت القاعة بلا أية مقاعد خالية.
لكن أعمال البدايات، سواء كانت حدسية أو منهجية في مقاربتها اللحنية، تفتقد إلى الصبغة المميزة لألحان جلاس المعروفة الآن، البالغة التأثير في الذاكرة الموسيقية الجمعية. أوجدت أعمال البدايات، حتى منتصف السبعينيات، علامة جلاس المميزة في التأليف الموسيقي: كتابة المقطوعة الموسيقية فوق باص الأرضية أو الباص المتكرر، أو بتنويعات على باص الأرضية للآلات.
اكتسبت موتيفاته أو عباراته اللحنية المتكررة نفسها بعد ذلك تماوجًا خلابًا للغاية، يصل في عذوبته إلى مرتبة الكلاسيكيين العظام؛ كما في مقطوعته الشهيرة ماد رَش عام ١٩٧٩.
قد يكون التطور الأهم في الأعمال اللاحقة متمثلًا في عناصر الطابع الصوتي من حيث درجة شدة الصوت والطبقة، وفي تتابع سلسلة الأصوات، وكذلك في إيحاء اللحن ذاته. كانت موسيقى في اثني عشر جزءًا مميِّزة لمرحلة تالية، عبّر عنها جلاس في تناوله الهارموني الفريد. عند هذه النقطة من مسيرته التأليفية، حقق جلاس الأصعب في نظره، التخلص من صوته الذي دأب على تكوينه خلال سنوات.
بعد إنجازه موسيقى في اثني عشر جزءًا، صرح جلاس بأنه قد كسر من قبل قواعد الحداثة و”حان وقت كسر بعض القواعد الخاصة بي.” وجد جلاس مصطلح التقليلية غير دقيق لوصف عمله الأخير وما تلاه، خاصة أنه يرى أن الجزء الأخير من مقطوعته يمثل نهاية التقليلية بالنسبة له. في هذا الجزء يراوح جلاس بين استخدام اللانغمية والنقلات المقامية التي تتميز بالتحرر؛ ومثلما حرص جلاس على إيجاد صوت خاص من أجل النأي عن موسيقى الطليعة التجريبية، وروافدها المسلسلة الشونبرجية من قبلها، أراد أيضًا الاختلاف عن معاصريه مثل ستيف رايش ومايكل نيمان، ومقاومة الاستقطاب إلى النهج التقليلي. في رأيي، تكشف مقاومة جلاس للاستقطاب إلى التقليلية عن خشيته من تحولها إلى نهج مهيمن، يتماثل في طغيانه مع الموسيقى اللا نغمية وطغيانها على المشهد الكلاسيكي من قبل.
ابتعدت أعمال جلاس عن الطابع التجريدي وعمدت إلى الموضوعية، واتخذت موسيقاه أبعادًا درامية، مع استمرار التقليد التكراري في التأليف. كانت البداية مع أعماله الأوبرالية، أو ما أطلق عليه بعد ذلك ثلاثية البورتريه.
ثلاثية البورتريه | أسئلة الأوبرا الجديدة
اعتبر جلاس سلسلة المقطوعات التي كتبها من عام ١٩٧٥ إلى ١٩٧٧، نظرة أخرى على الهارمونية، بدايةً جديدة تُبرز رغبته في خلق بنية كلية مغايرة، يتضافر فيها التوالي الهارموني مع البنية الإيقاعية المتعددة التي يحاول إنتاجها.
دمج جلاس المقطوعتين الأولى والثانية من السلسلة في مقطوعة أكبر للمسرح الموسيقي، وبالتعاون مع المخرج والمنتج المسرحي روبرت ويلسون، ظهرت آينشتاين على الشاطئ، أوبرا جلاس الأولى.
عُرضت الأوبرا لأول مرة في مهرجان أفينيون الشهير عام ١٩٧٦، ثم قدمت بعد فترة وجيزة في أوبرا المِتروبوليتان في مدينة نيويورك. يشير الكاتب والناقد الموسيقي الأمريكي تيم بايج إلى أن أوبرا آينشتاين على الشاطئ تمثل رؤية مجازية لعالِم الفيزياء والرياضيات آلبرت آينشتاين، “استعارة عن حياة الرجل والعالِم والإنسان الذي غيرت نظرياته العالم.”
يُعاكس عمل جلاس وويلسون التصورات المألوفة عن الأوبرا. أوبرا أينشتاين بلا حبكة محددة، صاغها جلاس في أربعة فصول، يؤطرها ويجمع بينها خمسة فواصل لحنية / مسرحية، سمّاها جلاس مسرحيات الركبة، مشبهًا إياها بمفصل الركبة لكونها أساسية في البناء اللحني لا مُجرّد مساحات بينيّة. سُمح للجمهور بالدخول والخروج وقتما شاؤوا نظرًا لطول مدة العرض التي تتجاوز الخمس ساعات.
بنى ويلسون أوبرا آينشتاين على تسلسل متكرر في ثلاثة فضاءات ذات ديكورات مختلفة: القطار، المحكمة / السجن، وسفينة الفضاء. بين الفصول الرئيسية وضعت الفواصل التي تعمل كمقدمة افتتاحية لكل فصل. يوظف نص الأوبرا الصولفيجات كأنها تتناظر وتشير إلى نظام رقمي محدد، إضافة إلى كونها مقاطعًا صوتية للتدرب على غناء نوتات السلم الموسيقي المستخدم. في الفاصل اللحني / المسرحي الأول تتكرر مجموعة من الأرقام ترددها أصوات الكورال برفقة الأرغن الإلكتروني. يوضح جلاس أنهما قررا الإبقاء على الأرقام والصولفيجات بدلًا من كونها مجرد نظام رمزي للتدرب على غناء النصوص نفسها. يفسَّر هذا التكرار العددي كإشارة إلى منجز آينشتاين الرياضي.
في مزج فريد بين الترميز العددي والأداء الإيمائي، تضم الأوبرا في الجزء الثالث من الفصل الثالث قصيدة الشاعر كريستوفر نوولز “أشعر أن الأرض تتحرك”، لتتضافر الكلمات والأرقام مع موسيقى جلاس من أجل رسم ملامح تأثيرية لشخصية أينشتاين الأيقونية. تتخذ ألحان جلاس في هذه الأوبرا هيئة الدوامات وتتحكم في الطبيعة القهرية لفعل التكرار، تتلاعب الموسيقى بالتكرار بوصفه من نواميس الكون الذي نحيا فيه. كأن محاولات إينشتاين التحكم في الزمكان تناظرها نغمات جلاس.
العمل التالي، أوبرا ساتياجراها، وتعني بالسنسكريتية قوة الحقيقة، أوبرا في ثلاثة فصول مستوحاة من حياة غاندي، ويشير عنوانها إلى مبدأ الزعيم الهندي عن المقاومة اللاعنفية ضد ظلم واضطهاد الإمبريالية البريطانية. النص مقتبس من البهاجافاد جيتا، الكتاب المقدس في الهندوسية.
كان العرض الأول على مسرح شوبرج في روتردام بتنفيذ دار الأوبرا الهولندية وأوركسترا أوترخت السيمفوني. على مدار سنوات، تعدد منتجو ومخرجو ساتياجراها، وتبعًا لذلك تعددت المقاربات الشكلية والمعالجة البصرية للعرض خالقة حالة من الثراء المستمر للأوبرا.
يمكن ملاحظة عدة اختلافات بين الأوبرا الأولى والثانية. في آينشتاين… نستمع إلى صوت التشيؤ، حيث تُغنّى أسماء أرقام وعلامات موسيقية صراحةً وبشكل مادّي، بينما ساتياجراها أكثر احتفاءً بالصوت الحي؛ حيث تصدح الأصوات بإيقاعات اللغة السنسكريتية، والتي ربما تكون أول لغة تصاغ لها قواعد وفق طريقة غنائية يسهل حفظها. إنها تعبر عن صوت الخير، وتؤكد على ذلك فصول الأوبرا وعناوينها التي تشير إلى شخصيات عظيمة من الثقافة الإنسانية: ليو تولستوي، رابندروناث تاجور، ومارتن لوثر كينج. كأن الفرق بين العملين هو بين الإيمان بالإنسانية والخوف عليها من مستقبل تصيغه رؤى علمية طغيانية.
تتركب موسيقى ساتياجراها من وحدات لحنية صغيرة تتباين في إنمائها، وتتكامل في نمط دوري بإيقاع متعدد الطبقات؛ لتتضح فيها فكرة جلاس البسيطة حول البنية التكرارية لموسيقاه. إذ يبدأ جلاس بخيوط صغيرة دقيقة من الصوت، مجرد نوتات قليلة للغاية، مكونًا منها وحدة يبني بتكرارها النمط. بتنويعات قليلة على الوحدة البنائية الأولية، مثل نوتة زائدة أو أعلى أو أقل، يخلق وحدة جديدة مختلفة؛ ويمكنه استخدام الوحدتين من أجل بناء أنساق متعددة مختلفة.
بالتأكيد يتشارك كثير من التقليليين في نفس الفكرة من حيث المبدأ البنائي والبساطة، إلا أن جلاس منذ ساتياجراها بدأ في التأكيد على الطبيعة النغمية ذات القدرة التعبيرية العالية في موسيقاه، خالقًا الأبعاد الدرامية التي تنسجم مع الموضوعات والنصوص المُقدمة.
كانت أوبرا أخناتون (١٩٨٣) العمل الذي اكتملت به ثلاثية البورتريه؛ وهي في ثلاثة فصول عن الفرعون المصري أخناتون، ويُعرف بـ أمنحوتب الرابع، عن حياته ومعتقداته الدينية وسعيه نحو التوحيد. دعا أخناتون إلى نبذ عبادة الآلهة المتعددة في مصر القديمة وعبادة إله واحد هو آتون، إله الشمس. بذلك يُعتبر أخناتون أول من دعا إلى التوحيد في تاريخ الإنسانية.
نص الأوبرا مأخوذ من المصادر الأصلية، فالمقاطع المصرية القديمة بالنص مأخوذة من أشعار أخناتون ومن كتاب الموتى، وبعض الآثار والمنحوتات والرسومات من فترة العمارنة، مدة حكم أخناتون.
في المشهد الأول الذي يصور جنازة أمنحوتب الثالث والد أخناتون، الموسيقى عبارة عن مارش جنائزي في تآلف بين مقام فا مرتفع صغير و مقام لا كبير. تفتتح غالبية المشاهد المتبقية من مقام لا الصغير. أما ترنيمة الشمس، التي تأتي في المشهد الرابع من الفصل الثاني، فهي آريا (أغنية انفرادية) طويلة تتناوب على المقامين لا الصغير والكبير، تؤكد كلماتها أن أخناتون المؤسس الأول للديانة التوحيدية. كما تتجلى فيها هارمونية جلاس الفريدة وقدرته على فهم علاقة الموسيقى بالصورة والحركة والنص.
تضم خاتمة الأوبرا الملكة نفرتيتي والملكة تي وأشباح أخناتون في غناء وسط أطلال مدينة العمارنة بعد سقوطها. يستخدم جلاس خط الجهير، أو صوت الباص إن جاز التعبير، منزوعًا من بداية موسيقى الأوبرا الأولى أينشتاين، كأنه يشير إلى اكتمال الثلاثية.
أراد جلاس من خلال ثلاثيته التعبير عن رجال استطاعوا تغيير عصرهم والعالم من حولهم بقوة أفكارهم. يقول جلاس إن الثلاثية، بتصويرها شخصيات آينشتاين وغاندي وأخناتون، تعبر عن ثالوث العلم والسياسة والدين. يشكل هذا الثالوث مفتاحًا لفهم المجتمع الإنساني. يوضح جلاس أن اهتمامه بالعالم من حوله بدأ يظهر في موسيقاه. في البدايات كان يكتب موسيقى تجريبية لفرقته. أما مع ثلاثية الأوبرا، فيقول إنه يحاول فهم بنية المجتمع وكيفية عمله. “أردت أن أفهم كيف يمكن أن يتغير المجتمع.” هكذا نلاحظ كيف تغيرت أسئلة جلاس نفسها، من الأسئلة التجريدية التي شكلت نقطة البدء، والأسئلة عن الأسلوب، كيف تخلقه وكيف تتخلص منه، إلى الأسئلة الاجتماعية ذات الهم الإنساني والسياسي.
ميتامورفوزس | جلاس والتحولات الكافكاوية
يعتبر فيليب جلاس الملحن الأكثر ارتباطًا بعالم الأدب في القرن العشرين من خلال صداقاته وتعاونه الفني مع العديد من الروائيين والشعراء والكتاب.
قدم جلاس للأوبرا والمسرح الموسيقي أعمالًا عديدة مقتبسة ومستلهمة من أعمال أدبية، منها: في انتظار البرابرة المأخوذة عن رواية الكاتب الجنوب الأفريقي الحاصل على نوبل جاي. إم. كوتزي، وأوبرا صناعة مندوب الكوكب رقم ٨ عن رواية الكاتبة البريطانية دوريس ليسينج، وسقوط منزل آشر عن قصة إدجار آلان بو، ونهاية اللعبة عن مسرحية صمويل بيكيت، وكذلك بعض المقطوعات التي عبرت عن حنينه إلى أعمال الشاعر والكاتب المسرحي والمخرج الفرنسي جان كوكتو. إضافة إلى تعاونه مع شعراء بوزن آلن جنسبيرج وأوكتافيو باث.
يبقى فرانز كافكا الكاتب الذي أولاه جلاس اهتمامًا خاصًا. يوضح جلاس أن كافكا قد تمكن من فهم آلية عمل المجتمع الحديث، وآليات السلطة والبيروقراطية، منذ فترة مبكرة جدًا، وصاغ رؤيته للظرف الإنساني المعاصر بوضوح وبساطة. قدم جلاس أوبرا حجرة مأخوذة عن قصة كافكا في مستعمرة العقاب.
في عام ٢٠١٤، تعاون جلاس مع السيناريست كريستوفر هامبتون في أوبرا المحاكمة عن رواية كافكا بنفس العنوان. كان جلاس قد تعاون مع هامبتون من قبل في أوبرا في انتظار البرابرة. يبرز نص هامبتون السوداوية والعبث والسخرية في عمل كافكا، وتعمل موسيقى جلاس على صياغة أليجورية العمل.
المحاكمة أوبرا من فصلين. يجد جوزيف ك نفسه متهمًا في جريمة لا يعلم عنها شيئًا، ويجب عليه المثول أمام المحكمة. يخضع جوزيف ك للمراقبة الدائمة ويهيم في أروقة البيروقراطية، ويمتثل لنهايته المحتومة، أن يموت “كالكلب.”
تحاكي موسيقى جلاس مفاجآت كافكا الدرامية، كأنه يراوح في مقاطع مختلفة بين الأوبرا الهزلية والأوبرا الجادة، أو يحاول أن يخلق وسطًا بينهما. كما تتنوع أصوات الغناء طبقًا لاختلاف مواقع الشخصيات من السلطة البيروقراطية في عالم كافكا. مثلًا نوع صوت جوزيف ك بريتون، وصوت المفتش باص، والحارس والجلاد صوتهما تينور.
أما ميتامورفوزس فمقطوعة لصولو البيانو، في بنية دورية من خمس حركات. يعمد جلاس إلى أسلوب في المصاحبة لليد اليسرى يمكن اعتباره اختزالًا لباص آلبرتي. ربما يكون جلاس أهم من أضاف إلى ألوان الرنين الصوتي للبيانو بعد شوبان. يستخدم جلاس باص آلبرتي في رسم الإطار الخارجي للهارمونية دون أن تتكتل التآلفات في الباص.
يجمع كافكا شخصيات ثلاثية البورتريه، لا في راهنية تأثيره، وإنما لأنه استطاع بقوة أسلوبه وأفكاره التعبير عن عصره، في مقاربة جمالية أصلية. لذلك، يُعتبر مثالًا فريدًا يتفاعل مع أسئلة جلاس عن الأسلوب والمجتمع كليهما.
لغة عالمية | عن النسيج السمعي الحي لفيليب جلاس
رغم إنجاز فيليب جلاس الفريد في الأوبرا المعاصرة، كانت أعماله الأوركسترالية ما خلق من موسيقاه لغة عالمية، أو لينجوا فرانكا بتعبير الكاتب الأمريكي جون فون رين. يقدم جلاس في كونشرتو الكمان الأول والثاني، وكونشرتات البيانو، النماذج اللحنية التي تحمل بصمته المميزة ورنينه الصوتي الآسر.
استلهم جلاس كونشرتو البيانو الأول من الموسيقى الشعبية التيرولية، نوع من الموسيقى الفولكلورية النمساوي؛ ويُعرف الكونشرتو الأول بـ تيرول كونشرتو. كتبه جلاس مع بداية الألفية، وعرض لأول مرة في أوركسترا شتوتجارت للحجرة عام ٢٠٠٠.
تظهر في الحركة الثانية، الأطول بين الثلاث حركات، خلاصة جوهر التعبير الموسيقي عند فيليب جلاس. يجعل كلٌّ من اتحاد الصوت والبيانو ورهافة إحساس المؤلف من الحركة الثانية تجربة موسيقية فريدة. هذه موسيقى حانية، تواقة إلى سبر مادة الحزن الأولية داخل النفس.
حين سئل جلاس عن أي من أعماله سيكتب لها الخلود من بعده، أجاب: مقطوعات البيانو. يقول جلاس إن موسيقى البيانو، بشكل عام، شعبية وبسيطة ولا تحتاج إلى أوركسترا كي تعزفها.
ألف جلاس مقطوعات عديدة للبيانو المنفرد، أهمها: ميتامورفوزس، دراسات البيانو، جلاسووركس، ومقطوعة ماد رَش التي ألفها جلاس أواخر السبعينيات ترحيبًا بزيارة الدلاي لاما إلى أمريكا الشمالية.
لا يلجأ جلاس عادة إلى الصيغ الموسيقية الصارمة في تأليفه موسيقى البيانو، حتى صيغة الدراسة تحولت على يديه إلى وسيلة للتعبير الذاتي بالغة العمق، إذ يمزج في مقطوعات البيانو بين التحرر والبساطة. يمكن القول إن جلاس يعمل على تفتيت التآلفات إلى نماذج آربيجية، ثم يجمع هذه النماذج مرة أخرى في مساق هارموني فريد، كأنها أمواج تتجمع بعد انكساراتها. تتحدى بنية جلاس التكرارية الرتابة.
موسيقى جلاس التصويرية
من أعمال الأوبرا المبكرة، اكتسب جلاس القدرة على فهم علاقة الموسيقى الفريدة بالنص والصورة والحركة، وكيفية التفاعل مع هذه العناصر.
تنوعت السينما التي كتب لها جلاس الموسيقى التصويرية. من سينما تجريبة كما في ثلاثية المخرج جودفري ريجيو، إلى سينما المؤلف أو السينما الفنية مثل فيلم ميشيما لبول شرايدر، وكوندُن لمارتن سكورسيزي، واستخدام المخرج أندريه زفياجنتسيف موسيقى جلاس في فيلميه إيلينا وليفياثان. إضافة إلى أفلام جماهيرية متميزة مثل ترومان شو والساعات.
في فيلمه التجريبي كويانيسكاتسي، حاول المخرج الأمريكي جودفري ريجيو، بالتعاون مع جلاس، إبراز تأثير الإنسان على الطبيعة والبيئة المحيطة به. يشير عنوان الفيلم إلى مصطلح من لغة الهوبي للسكان الأصليين، ويتضمن نوعًا من التعاليم والنبوءات المنقوشة داخل كهف قديم. في مونتاج بديع، يقدم الفيلم رؤية بانورامية للمدينة والطبيعة وعلاقتهما بالحداثة، بينما تؤكد موسيقى جلاس، بعمقها وسوداويتها، على إدراك الخراب القائم دومًا في أحلام الحداثة. تبز موسيقى جلاس سينماتوجرافيا الفيلم الفريدة.
في الشبكة، أطول تراكات الفيلم، تبدأ النحاسيات بنوتات متمهلة، ثم تكتسب زخمًا وديناميكية كلما تسارعت. يُرسي جلاس دعائم الباص من خلال موتيفة صوتية للسنث تقوم بعمل الباص المتكرر. أما التراك الذي يحمل عنوان الفيلم، فتشكل فيه التنويعات على الأرغن صيغة بوليفونية ذات إيحاء تنبؤي أو مقدس. يمكن، بسهولة، ملاحظة تأثر الملحن هانز زيمر بثيمة جلاس اللحنية، كما اقتبسها في موسيقى فيلم إنترستِلار.
يقدم ريجيو في لقطات دالة مشروع الإسكان العام برويت إيجو الذي أنشئ في خمسينيات القرن العشرين، في سانت لويس ميزوري في الولايات المتحدة. كان المشروع عبارة عن ٣٣ مبنى لكل منها أحد عشر طابقًا. تُظهر الكاميرا المباني المهجورة بعد أن تخلت عنها الحكومة الأمريكية في أواخر الستينيات. عُرف المشروع بكونه مركزًا للعنف والعزل العنصري. يوثق الفيلم لحظات التدمير الكامل للمشروع ويصور الهدم كلحظة أبوكاليبسية مستعينًا بموسيقى جلاس الجنائزية الآسرة في تراك يحمل نفس عنوان المشروع. تبدو المباني كأطلال. شبابيك الطوابق بزجاجها المتكسر كأنها ثقوب صغيرة تطل على خراب داخلي مروع.
أما في فيلم الساعات، تقبض موسيقى جلاس على الزمن المنسل من بين أيدينا، وتعبر عن الفقد والقلق وتقاطعات الحياة والقدر. تعكس ميلانكولية التراكات ثيمة الانتحار التي تتعامل معها بطلات الفيلم الثلاثة في أزمنة مختلفة. إنها التعبير الأمثل عن عادية التراجيديا، أو عن المأساة اليومية للحياة العادية.
يعيد جلاس تدوير مقطوعات من أعماله السابقة في الموسيقى التصويرية التي يؤلفها، سواء من مقطوعات البيانو المنفرد أو بعض المقاطع من أعماله الأوبرالية. مثلما استخدم ثيمة موسيقية من أوبرا ساتياجراها في إحدى تراكات الساعات.
ما زال القلب يهفو إلى لغة
في كتابه الاختلاف والتكرار، يوضح الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أن التكرار والاختلاف، كمفهومين، يؤدي كلٌّ منهما إلى الآخر، “كما لو أن أحدهما يتضمن الآخر.” يقول دولوز إن “التكرار هو قدرة الاختلاف، إنه يكثف الفرادات، وينوع الفضاءات”؛ فالتكرار هو “كلية الفريد ضد عمومية الخاص، ويعبر عن البارز ضد العادي، وعن الأبدية ضد الدوام.” يحيل دولوز إلى مفهوم نيتشه عن العود الأبدي، ومعالجة الفيلسوف الألماني لفكرة تكرار الوجود في كتاب هكذا تكلم زرادشت. أما زرادشت، فهو بطل التكرار على المسرح النيتشوي، حسب كيركجارد ودولوز.
من قبل دولوز، يؤكد هيوم أن التكرار لا يغير في الموضوع نفسه وإنما “يغير شيئًا في الروح التي تتأمله.” ينبهنا دولوز إلى أن “القلب هو العضو العاشق للتكرار”، ويستشهد بتمييز الناقد الفرنسي بيوس سرفيان بين لغتين، هما “لغة العلوم التي يسيطر عليها رمز المساواة، ويمكن أن تستبدل فيها كل مفردة بمفردة أخرى، واللغة الشعرية التي لا يمكن لكل مفردة فيها غير قابلة للاستبدال إلا أن تتكرر.”
موسيقى فيليب جلاس لغة شعرية. لغة للقلب عاشق التكرار بالمعنى الدولوزي. ربما تحقِّق حلم الشاعر الرومانتيكي كولردج عن لغة القلب، عن خيال يخلق التوازن ويحقق الوحدة. لغة جلاس عالمية، مثالية، لوجوس فريد. يبلغ جلاس السبب الإيجابي والداخلي في التكرار، وذلك “بالذهاب في العمق” حيث يبين دولوز إن مشكلتنا تتعلق بماهية التكرار لا التكرار نفسه. من أجل ذلك يطالب جلاس من خلال التكرار بـ “مبدأ إيجابي أعلى”، بتعبير دولوز.
كأن الموسيقى، التي تُلعب في تكرار، نجد فيها “كل اللعب الصوفي للخسارة والخلاص، وكل اللعب المسرحي للموت والحياة.” بيت شعري للشاعر الإنجليزي صمويل كولردج.