جنود من الجن | جبهة الزوامل في حرب اليمن

تتناقل أساطيرٌ أن الجان قاطني أودية اليمن هم من ابتدعوا الزامل. تروي حكايات أخرى قصة رجالٍ يمنيين اختبأوا في الكهوف من الرومان في القرن الثالث الميلادي، استفزتهم أصوات مرعبة ليخرجوا من مخبأهم فقابلوا ملوك الجان، وأخذوا من زواملهم القوة لإكمال حربهم ضد الرومان، وصاروا يُزَومِلون من وقتها. نجد في كل الحكايات ضربًا من السحر يحيط نشأة هذا الفن الشِعري. الأكيد أنه ذو تاريخ عتيق نشأ جنوب شبه الجزيرة العربية وصار من أكثر الفنون تمييزًا للقبائل اليمنية. تواجد الزامل في مناطق أخرى تحدّ اليمن، مثل ظفّار غرب عُمان وجازان ونجران جنوب السعودية. 

الزامل شعر مغنّى، رافق الحروب والخصومات واستُعمِل في تخويف العدو، وكأغلب الفنون الشعرية التي تميّز منطقةً ما، مثل الشيلات والدحية والحداية، انتقل حضوره إلى المناسبات الاجتماعية والتجمّعات الدينية والسياسية. يتألف الزامل من بيوت شعرية يتراوح طولها بين جُمل طويلة أو أربع إلى ست كلمات في البيت الواحد، موزونة غالبًا على بحر الرجز وأحيانًا على بحر السريع. عادةً ما يكون الزامل ارتجاليًا ووليد اللحظة، يلقيه المُزومِل صاحب البلاغة الشعرية والحضور القويّ، ويلتقطها الزُمّّالة ويُكررونها منغّمة. اكتسبت الزوامل صيتها في التخويف لارتباطها بقرع الطبول العنيف وصوت الزُمّالة الخشن وكلماتهم الصارمة، فصارت الآن بالنسبة للحوثيين، بعد أن أحكموا سيطرتهم عليها وطوّروها موسيقيًا، جبهة قتالية توازي في جبروتها أية جبهة حربية.

نشأت جبهة الزوامل الحوثية مع المجاهد عيسى الليث، الذي كان قد بدأ طريقه في الإنشاد مع فرقة أنصار الله عام ٢٠٠٤، الذين ينشدون بطريقة تتشابه كثيرًا مع أناشيد الجهاديين الإسلامية، كـ فرقة الوعد اللبنانية، بالإضافة إلى بعض الزوامل. بعد أن أخذ تربيته الفنيّة والفكرية من أنصار الله، قرر الليث أن يشق طريقه الخاص ليصبح ممثلًا لصوت المجاهد الحوثي. برز اسمه بين اليمنيين عندما انطلق لوحده مؤديًا الزوامل بعد الحرب السادسة في اليمن عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بجانب عيسى الليث، يُذكر لطف القحوم منشد زامل ما نبالي واجعلوها حرب كبرى عالمية، الذي مات خلال اشتباكه مع القوات السعودية في مأرب عام  ٢٠١٦.

بدأ الليث بإنشاد الزوامل الحماسية التي تغذّي جنون الحرب في صفوف الحوثيين، وكثّف إنتاج زوامله المستفزة للأعداء بعد وفاة القحوم في قناته على يوتيوب، بجانب وحدة الإنتاج الفني التابعة لإعلام الحوثيين الحربي. ميّز زوامل الليث أنها حديثة من الناحية الشكل الموسيقي، يرافقها الكيبورد ببراعة. أشعل الليث حربًا فنيّة / نفسية ضد التحالف الثلاثي، السعودية والإمارات وأمريكا، مستهدفًا إهانتهم وتهديدهم في أغلب زوامله. كانت جبهة زامل الحوثي ولا زالت غزيرة الإنتاج، بإصدارها لـ زامل جديد قرابة كل أسبوعين، يشحنون فيه طاقات مجاهديهم من خلال ذمّ السعودية ومن والاها. في المقابل، أصبح مؤدّي الشيلات السعودية يردّون على الإهانات بالتفاخر بقوة الجيش السعودي ومدح جنوده.

جاء أول جواب من السعودية بشيلة خبّروا الحوثي وطهران من كتابة الشيخ عائض القرني ردًا على زامل يا سلاحي تكلّم. ثم جاءت الشيلات التي تمدح عملية عاصفة الحزم. كانت محاولة السعوديين منافسة الزوامل عشوائية وأقرب إلى ردود أفعال متسرّعة، ما عجّل في توقّف إنتاجها خلال فترة قصيرة، بعكس الحوثيين الذين أبدعوا في تحفيز جيشهم والنيل من همّة أعدائهم، وأنتجوا الزوامل وقت اشتداد الحرب أو سكونها.

يحمل مجاهدي الحوثي أجهزة إم بي ثري وسمّاعات تضخ الزوامل في آذانهم، تذكّرهم باستمرار بمعنى الجهاد الذين يخوضونه وقد يموتون ﻷجله في أية لحظة. تتدفق الكلمات الصارخة لتنقل الواحد منهم إلى حيّز يعميه عن الموت الأكيد الذي يتجه نحوه، ويغذّي الحقد والغلّ تجاه عدوه موجهًا بصيرته نحو الشهادة. فهم الليث ومن معه في الجبهة الفنية كيف يمكن لأغنية واحدة أن تثير الحنق وتتسبب بمعارك، فكان تركيزهم على إنتاج الزوامل يزداد عند كل معركة او اشتباك. إحدى نقاط قوة زوامل الليث أنه استمد كلماتها من خطابات القائد عبد الملك الحوثي، ما جعل منها شديدة الاستفزاز حاملةً نبرات التهديد والوعيد.

لو السما تمطر قنابل ذكيات

والأرض تتفجر شظايا، شظايا

والنار تشتعل من جميع المجرات

والزحف حولي من جميع الزوايا

يشهد علينا الله في كل الأوقات

نغزي نجرّعهم كؤوس المنايا

هيهات منا الذل هيهات، هيهات

بعنا من الخالق بصدق النوايا

ارتبط الزامل في اليمن بمناسبات عديدة، وله دور كبير في حل النزاعات والهجاء، لكن في بحثي عن أكثر الزوامل استماعًا لم أجد زوامل غزلية أو زوامل تسرد أحداثًا اجتماعية ويومية كما في الشيلات. تصدّرت زوامل الحوثي البحث. لم تطغ الزوامل اليمنية على الإنترنت بل بقيت رهينة الواقع والمناسبات الاجتماعية وانحصرت في نطاق من يؤدونها في الأعراس أو المآتم أو المناسبات الاجتماعية، وبذلك فقدت الفرصة – حتى الآن – في اكتساب مساحة أوسع.

يعترض الكثيرون على الزامل الحوثي بحجّة أنه تخريب للفن واستغلال للموروث الشعبي في غير محله، لكن أغلب المستمعين غير اليمنيين عرفوا الزامل اليمني عن طريق الحوثيين، ما يجعل حجّة تخريب الموروث ضعيفة بمقابل إدراك مدى الانتشار لفن شعبيّ لم يكن ليزدهر لولا أنه أُعطي هذه المساحة. خلق زامل الحوثي مدًى أوسع من المستمعين ووصل إلى فئة لا تعبأ بالأهداف السياسية لهذه الزوامل.

تضمنت إحدى المقابلات مع الليث معلومات مثيرة للاهتمام، تُبيّن قدر الغيظ الذي تملّك التحالف الثلاثي بسبب انتشار الزوامل الحوثية. ذكر الكاتب في المقدمة أن قادة الجيش السعودي استثمروا ما يقارب مليون ريال لصناعة زوامل مضادة، واستخدموا مرتزقة صنعانيين لتقليد أسلوب الليث، لكن جرّاء فشلهم في صناعة زوامل تقترب مما يؤديه الليث، صاروا يشغّلون زوامله لجيوشهم، ما سبّب لهم الخوف بدل شحذ الهمم. تبدو القصة من ضرب الخيال، وقد تكون كذلك، لكن انتشارها يدل على ثِقل هذه الزوامل وتأثيرها النفسي.

ستشعر عند استماعك لـ زامل حوثيّ لأول مرة أنه فجّ وغليظ، لكن مع تكرار السماع، والغوص في الفيديوهات التي تُظهِر الليث وباقي المجاهدين يُزومِلون في أوقات راحتهم، ستشعر ببعض الأُلفة معها، وسترددها بـ لاوعيٍ منك كما تدندن أية أغنية أخرى. يُحسب للّيث أنه يزومِل بلهجة عاميّة سهلة، وفصحى في بعض الأحيان، وفي هذا تختلف زوامله عن الزامل اليمني الذي يحمل ألفاظًا يفهمها فقط من يعرف اللهجة اليمنية الأصلية.

قد تكون الزوامل إحدى أهم الأدوات المستساغة التي يستخدمها الحوثيون في نشر رسالتهم، بالرغم من اللهجة التهديدية والمتوعِّدة في معظمها؛ وهو ما يسبب الحنق الشديد من كارهيها تجاهها. تضع الكلمات التي يؤديها الليث وغيره من المنشدين أيًا من يسمعها في موقع قوة، خاصة الكلمات التي تجيّش: “استنفري يا جيوش الله في مآرب.” و “صنعا بعيدة قولوله الرياض أقرب.” في تهديد واضح ولا مبالٍ.

انتشرت قبل ثلاث سنوات شائعات تروي اغتيال عيسى الليث؛ وعلى عكس الأخبار التي جاءت تؤكد خبر موت لطف القحوم، التزم الحوثيون الصمت على شائعات اغتيال الليث وبقيت قناته تنشر الزوامل بشكل مستمر ومكثّف حتى الأسبوع الماضي.