يأتي صوت الشّيخة الجنيّة مبحوحاً، مثقلا بسنوات العزلة والشّقاء. تغني وتحكي وتمدح وتذمّ في الأغنية نفسها، كلماتها تخرج مشبعة بتجارب شخصيّة، وبحرقة في قول ما لا يُقال في المجالس العامّة.
الشّيخة الجنية فاطنة مباركي، بالنون لم تشبه في شيء نجوم الرّاي. أرادت لنفسها سيرة غير السير الاعتيادية، كبرت على رغبة الانتقام من الجماعة ولم تجد وسيلة للتحرّر من غضبها أكثر من أغنية الراي البدوية، أو الرّاي في صبغته السّبعينية.
في النّهار كانت فاطنة ١٩٥٤-٢٠٠٤، امرأة تنكّرت لها القبيلة وطردتها من سجلاتها، وفي اللّيل، تصير جنية، بل شيخة الجنيات، تغنّي كبتها وعجزها وتواسي روحها التي قُمعت، وظلت كذلك حتى آخر يوم من حياتها. منذ أن أدركت فاطنة معاني الحياة وهي تعيش حالة استعجالية، وهي في صراع مع نفسها السّاخطة، وفي صدام مع أهلها الذين زوّجوها رغما عنها، ففرّت من بيت زوجها رغماً عنهم، وبقيت في حالة توتر شديد حتى وفاتها في حادث مرور.
مثلت الشّيخة الجنية حالة استثنائية في مشهد الراي المحلي، فقد حولت حياة التروبادور التي عاشتها، وسنوات التيّة التي عرفتها إلى أغاني قهر وفرح وحبّ وكره، تذمّر ومواساة وانتقام ومؤانسة. منذ أن انقلبت على الأعراف وهجرت بيت زوجها، رمت نفسها في الشّارع وألزمت حالها صفة شخصاً غير مرغوب به persona no grata. صارت مرادفًا للعار في قبيلتها وعائلتها، لكنها استطاعت، بعد سير مضن تحت الشّمس، أن تمحو ماضي المرأة الخانعة من مخيّلتها، وتساير أهواءها كامرأة راغبة في الانعتاق، كصعلوكة شريفة وفق التّعريف الأصيل للكلمة، وأن تسير بلا هدف في البداية، متنقّلة من سيدي بلعباس إلى وهران ثم إلى سعيدة، غربي الجزائر، قبل أن تجد نفسها مسيّجة في منطقة الراي العروبي، وتجعل منه موطنا لها.
هناك التقت الزواوي الخنوس. تزوجته، وكسر معها هو أيضا صورة الراي-مان باعتباره شخصا منحرفا كما كان يُنظر إليه. كان الزواوي خنوس يشغل منصب كاتب ضبط في محكمة سعيدة، غربي البلد، وهي وظيفة مرموقة في مجتمع كان يوقّر شخصاً لمجرد أنه يقرأ ويكتب. لكنه في اللّيل كان يتحوّل إلى شخص ثان، يتخلى عن كوابيس البيروقراطية النهارية، زحام الأوجه وقلق الورق، ويصير براحاً (أو مدّاحا، لكن لا يحرم نفسه من الهجاء أيضاً) يرافق الشيخة الجنية في الأعراس وفي الوعدات احتفالات ذات طابع ديني.
ظهر هذا الرّجل في حياة الشيخة في وقت مناسب، قطع معها أميالا وسهر معها طويلا في الغناء والاستمتاع بالحياة. لقي حتفه برصاص طائش شتاء ٢٠٠٣. كان كثيراً ما يخاطبها في الحفلات التي جمعتهما قائلا: يالشيخة الجنية أنت ما لقيتش للي يعذرك! أنا طبيب جراحك! وأنا اللي نداويك.
حياة الشيخة الجنية، المنقسمة على أكثر من جبهة، تختصر نموذج مغنيّ الرّاي. فيها نرى الشخصية المستعصية التي تتأسّس على رفض السّائد ونفوره من التّقليد، الميل للهدم وإعادة بناء وعي جمعي مختلف، عدم الرضى بالأدوار الجانبية، عدم الوفاء طويلاً لبيئة واحدة أو أشخاص معينين. التغيير يشكّل جانباً مهما من حياة مغني الراي، وكذلك الأمر مع الشيخة الجنيّة التي عرفت في حياتها رجالا كثر، وغنت مع عدد كبير منهم مثل الشّيخ السموري، الشيخ عطو، محمد المير ومحمد لقصاصبي. ساعدها ذلك على التّصالح مع قلقها الدّاخلي وأكسبها حضوراً قوياً لدى الجمهور، كما سهّل لها فرض تجربة مغايرة في الأغنية الجزائرية، دفعت البعض إلى مقاربة موسيقاها بموسيقى البلوز.
العزلة أحد الثّوابت التي نجدها في حياة الشيخة الجنية وفي حياة مغنين آخرين. رفض البحث المبتذل عن الشهرة وتجاهل شركات الانتاج التي ركضت خلفهم أكسب المؤسسين حظوة كبيرة. فمثلاً نالت الشيخة الجنية خلال النصف الثاني من سنوات التسعينيات احتفاء جماهيرياً فاق الأسماء الفنية النسائية شعبية، كما كانت أكثرهن محلّ اهتمام الإعلام الأجنبي. يتضح ذلك في التغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها عام ١٩٩٩ عقب حفلها في قاعة الزينيت الباريسية، ثم المرثية التي خصصتها لها جريدة ليبيريسيون الفرنسية بعد ثلاثة أيام من وفاتها.
برز صوت الشيخة الجنية عبر أغان ناجحة عيدية غنتها لاحقا نجمات أخريات مثل الشيخة زلاميت والشابة الزهوانية على غرار خويا ما يجيش، على محنتي نسكر، شاب راسي، ديري داي داي، وخصوصا واد شولي، الأغنية التي جمعتها مع الشاب عبد الحق.
سيرة العصيان التي عاشتها الشيخة الجنية كانت امتداد طبيعيا لسير مغنين من أجيالها، وتقاطعا مع سير بعض شعراء الملحون الوهراني الذين خصّبوا التربة لنشأة وبروز الراي لاحقا. في حياة الشيخة الجنية نجد نموذجاً متكاملاً لمغني الرّاي. ينطلق من عدم الاندماج، من عصيان ورفض، يجعل منه لغة لمخاطبة الجمهور، ليحكي عن نفسه وعن مآسي الآلاف مثله. يتكئ مغني الراي على إرث من الصدامات الاجتماعية، ومن العلاقات المضطربة مع الجماعة، ليكوّن شخصية، ويغامر بها في تجربة موسيقية لا تقل صدامية عما يعيشه.