بمجرد أن تكتب في خانة بحث يوتيوب: عراقي بطيء، ستظهر لك مئات الاقتراحات لأغانٍ عراقية حديثة جرى تنزيلها والتلاعب بإيقاعها. يكثّف التبطيء وعي المستمع لما يسمعه. تصبح الكلمات ممطوطة، تُفهَم حرفًا حرفًا. يتحول الصوت الناعم إلى خشن، ويصير الصوت الحاد عميقًا، أما الأنغام والإيقاعات السريعة فتصبح قادرًا على تفكيكها وتمييز الآلة التي صدرت عنها. يعزز هذا الإدراك العميق لتركيبة الأغنية من جمالية التبطيء. حتى لو لم تكن معجبًا بالأغاني العراقية، ستعود مرة ثانية وثالثة وعاشرة ﻷن في الإيقاع البطيء جاذبية غامضة.
من هم سمّيعة العراقي البطيء؟ تأتي الإجابة تهكمية من مستخدمي التويتر: الطعوس. الطعس في اللهجة السعودية مذمّة تصف شابًا ملثّمًا بالشماغ، يرتدي نظارات شمسية رديئة الجودة، يجلس خلف مقود السيارة رافعًا قدمًا واحدة على التابلو، وفي يده ميرندا حمضيات، يفحّط ليلًا نهارًا على أنغام الأغاني العراقية البطيئة. يسيطر على الطعس إحساس دائم بالحاجة إلى المغامرة، فيتّجه إلى التفحيط مستدعيًا الأدرينالين للتدفّق في عروقه مع كل دورة كاملة للسيارة واقتراب جانبيها من ملامسة الإسفلت، وعلى أنغام الأغاني العراقية المبطّأة يصل مرحلةً يتساوى فيها مقدار النشوة مع الألم. يمتلئ يوتيوب بفيديوهات شباب ملثمين يفحّطون على أنغام العراقي المُبطأ المتنافي مع سرعة التفحيط المجنون، لكن قد تُفهم الحالة عند الإمعان في كلمات الأغاني المأساوية ورغبة المفحّط بعيش تجربة درامية عدمية معبّقة برغبة في الموت. تغطي السيارات عبارات تعبر عن غدر وخيانة، تحفّز مع الموسيقى البطيئة الثقيلة الحاجة إلى التهوّر والمغامرة، ومحاكاة تجربة مميتة.
الأغنية العراقية رائدة الحزن في الثقافة العربية، يتحفز فيها الشجن بآلات مثل المزمار والقانون. يمتد هذا الحزن من اللطميات الحسينية إلى الطور المحمداوي، وإلى أشعار مظفر النواب والشاعر عريان السيد خلف الذي سمّى فترة السبعينات بأم الحزن، بوجود ملحنين مثل محمد جواد أموري، كوكب حمزة ومحسن فرحان. هيمن هذا الحزن على أغاني مطربي الجيل القديم مثل سعدون جابر وياس خضر وإلهام مدفعي، وصولًا إلى البوب العراقي الحديث، الجانرا التي يتوجه المستخدمون إلى تبطيئها للحصول على أغانٍ مكثّفة في شجنها.
يترواح مدى نبضات هذه الموسيقات العربية في الدقيقة بين ٨٠ حتى ١٢٠ نبضة (BPM). عند تبطيء الأغنية ينخفض رتمها حتى الـ ٧٥ نبضة، ما يجعلها ذات مزاج ميلانكولي يرافقها صوت المغنّي الرخيم، الذي يصير ثقيلًا وكئيبًا بتبطيئه، كما يصبح أحد الأصوات العميقة التي يصعب على البشر محاكاتها دون تدخّل معدّلات الصوت. ينطبق الأمر أيضًا على العراقي المُسرّع. عند تسريع الأغنية يزداد عدد النبضات في الدقيقة بمقدار يصل إلى ١٦٠. من خلال التبطيء والتسريع، خلق هؤلاء الشباب مساحة تفيض عن حدود السرعات المتعارف عليها في الموسيقى العربية، والتي تضيق بهم كما تضيق الحياة في شوارع السعودية.
في قسم التعليقات أسفل أغنية مبطّأة وجدنا هذا التعليق: “العراقيين يغنون حزن ويبچون والسعوديين يهجولون عليها.” الهَجوَلة بالعاميّة السعودية تعني التفحيط والصياعة. بعد البحث عن مصادر الأغاني العراقية المسرّعة والمبطّئة، وجدنا أن حسابات اليوتيوب ليست لعراقيين، بل الكثير من القنوات الأكثر شهرة يملكها سعوديون، حيث يتمركز محبّو هذه الأغاني. لهؤلاء يُنتج عبّود (مراهق عراقي) هذه الأغاني.
بين السعوديين والأغاني المبطأة والمُسرّعة تاريخ بدأ في ذات الفترة التي تفجّرت فيها شهرة تطبيقيّ كييك وبي بي إم الذي اقترن بهواتف بلاك بيري، عبر تبادل مقاطع قصيرة ﻷغانٍ عراقية وأجنبية ضاربة وتركيبها على مختلف الفيديوهات: تفحيط ومشروب ومقاطع رومانسية. انتشرت هذه المقاطع في السعودية بشكل واسع بسبب توفّر أجهزة بلاك بيري في السوق الخليجي أكثر من غيره من بلاد المنطقة العربية. أمّا انتشارها الأوسع على يوتيوب فقد بدأ أواخر ٢٠١٤. صار صنّاع الأغاني البطيئة يتجهون إلى تنزيل أغانٍ كاملة على قنواتهم. يقول صاحب قناة إيفاز إف إم (مراهق سعودي)، إنه بدأ في صناعة هذه الأغاني لأن لها جمهور مخلص، قد يكون أهمهم المفحّطون.
التبطيء له تاريخ طويل لا ينحصر في الجزيرة العربية. يذكر صديق تونسي مشهدًا من طفولته وهو يمشي بمحاذاة عمّال بناء، وهم يستمعون إلى جورج وسوف على الكاسيت. كان العمّال يضعون عود كبريت في ثقب صغير بجانب محرّك الدوران ضاغطًا عجلات الكاسيت والتي بدورها تضغط متاريس المحرّك منتجةً خللًا في حركة الشريط، ما يُسفر عن صوت رخيم وبطيء. لم يجزم صديقنا لو كان العمّال يقومون بذلك بهدف الاستمتاع بالصوت الرخيم أو للحفاظ على البطاريات ﻷطول وقت ممكن، أو حتى لو كان فعلًا مقصودًا وليس نتاج الصدفة. في كل الحالات، يبدو أن الاستمتاع بالتبطيء والأصوات المشوّهة له تاريخ قديم وأساليب أثرية وبدائية سبقت وجود معالجات الصوت والبرمجيات الجاهزة.
يرجح أن التبطيء انتشر عندما قدم يوتيوب خاصية بلاي-سبيد عام ٢٠١٠، التي سمحت للمشاهد بالتحكم بسرعة الفيديو. عندها انتشرت ظاهرة تبطيء أغاني البوب، باقتراح المشاهدين لبعضهم في التعليقات تشغيل الأغاني بنصف السرعة أو أقل. ساهم التيك-توك أيضًا في نشر أغانِ سلود-ريفيربد، وأنتج جانرا لها جمهورها من جيل زِي منذ عام ٢٠١٧. قبل ذلك ظهرت في بداية الألفية جانرا النايت كور التي يمكن أن نقول إنها تقابل العراقي السريع، والتي جرى فيها إعادة إنتاج أغانٍ من جانرات الهارد-روك والبوب لتصبح الكترونية، بزيادة إيقاع الموسيقى الأصلية وإضافة دَب-ستِب. أول من بدأ إنتاجها هما الدي جايز النرويجيان توماس نيلسن وستيفن أوجالا المعروفان بـ تي إن تي وإس أو إس، متأثران بفرقة سكووتر الألمانية. بدأ المُنتجان بعمل أغاني النايت كور كمشروع جامعي، ثم تطوّر خلال سنوات ليصبح لديهما ألبومات عديدة، أغلبها حُذف من اليوتيوب لدواعي حقوق النشر، لكن نجا ألبوم كالينتي الذي أعاد تجميعه سمّيعة النايت كور في قائمة واحدة. انطلق بعدها مستخدمو الإنترنت ويوتيوب تحديدًا ﻹنشاء قنوات تصنع وتنشر أغاني النايت-كور حتى اليوم.
سواءٌ في العراقي أو البوب الغربي، يغمر الحزن والسوداوية جماليات الأغاني البطيئة جميعها، في انعكاس لحالة من يسمع ويصنع هذه الأغاني. للأغاني العراقية البطيئة جماليات نراها امتدادًا لزمن المنتديات الخليجية قبل أكثر من ١٠ سنوات، وقت استخدام برنامج إم إس إن ماسنجر، وحالات (ستاتوس) أبيات الأغاني المزخرفة والمُشكّلة. كما أن البصريات المقترنة بالأغاني المبطأة تتنوع بين صور شخصيات خيالية مثل توماس شيلبي الذي يعتبر أيقونة يمجّدها الشباب، جامعًا ما بين الرجولة والصرامة والرومانسية اليائسة، أو صور مجهولين غارقين في الكآبة، وهي نتاج الزمن الذي انتشر فيه ستايل الإيمو، شعر أسود طويل يغطّي نصف الوجه، فتية وفتيات بعيون كحيلة مدمّعة، وخليط من السجائر وزجاجات الكحول تجده حتى في العراقي السريع، الذي نجد فيه صورًا تجمع بين سيارات الدفع الرباعي والشباب الملثّمين. جميعها صور رديئة الجودة ذات تباين لوني عالي وجراين (Grain) حاد. أما أغاني البوب المبطّأة فقد ارتبطت بصور الأنيمي مثل كاوبوي بيبوب وجوست إن أ شِل، وهي الأنيميات التي تدور أحداثها في المستقبل ويكون بطل قصتها ذو ماضٍ حزين ينكشف في الحلقات الأخيرة. تركّز هذه الفيديوهات على طابع ريترو فيوتشري ميلانكولي، في محاكاة لجماليات أغاني الثمانينات والثيمات المرتبطة فيها.
ترافق الأغنية البطيئة الطعس أثناء التفحيط. تصل الرغبة بالموت إلى أقصاها مع دعسة البنزين التي تقلب سيارة المفحّط خمس قلبات متتالية، لكنه يخرج منها سليمًا ويعاود التفحيط مرة ثانية ترافقه تشجيعات وتهليلات الشباب المشاهدين الذين لا يتأثرون عند رؤيتهم للحوادث القاتلة. تغمر الكآبة جيل الشباب الحالي بطريقة تمسّ جميع جوانب حياتهم، وللموسيقى نصيب كبير منها، ليأتي العراقي البطيء والمسرّع كاشفًا أن شهرته بين أعداد تصل إلى ملايين المستمعين من الطعوس وغيرهم، تعبّر عن حاجتهم الشديدة إلى موسيقى تمثّلهم، تتجاوز الشجن، لتصبح بحثًا عن الموت.