يُجمع الشيعة الإمامية على تحريم الغناء، والمتصفح للفتاوى الفقهية بشأنه يجد أن هذا التحريم لا تكاد تكون له أصول بينة قوية يقوم عليها. يبدأ الفقهاء المسلمون عمومًا مسيرتهم التعليمية بدراسة وفهم المنطق الأرسطي، ومن ضمن الحدود التي يضعها هو مستويات التعريف بالأشياء؛ ولغرض اتخاذ حكم فقهي بشأن شيء ما يجب أن يكون هناك تعريف “جامع مانع”، أي جامع لمعاني الشيء، مانع من الالتباس فيه أو الزيادة. فيما يخص الغناء، لا يقدم فقهاء الشيعة تعريفًا جامعًا مانعًا حسب التعبير المشتق من المنطق الأرسطي، تعريف يفي بما هو محرم من الغناء وما هو محلل.
في كتاب الغناء والموسيقى للمرشد الإيراني علي الخامنئي، يذكر تفاصيل تغيّر حكم الخميني بشأن الغناء. بوضوح شديد، يذهب الخميني إلى أن الموسيقى التي تُصنع في الجمهورية الإسلامية التي أسسها حلال، وهي حلال بشرط ارتباطها بالجمهورية هذه، فلو صنعت مثيلتها في بلد إسلامي آخر ـ يذكر السعودية بصراحة ـ لكانت حرامًا. هو هنا يذهب إلى أن حرمة الغناء محكومة بشكل كبير بالأجواء والمناخات التي يجري فيها أداؤه، وأن الأداء العام في الجمهورية التي أسسها ينتهي بـ”الكدح إلى الله، ودينه”، بينما في الدول الأخرى فإن هذا الأداء بكل أشكاله يقود إلى الخروج عن طاعة الله، ودينه.
قاد حصر تحليل الغناء أو تحريمه بالفضاء العام في إيران، وسماح الخميني بالموسيقى، إلى نشأة نماذج موسيقية متنوعة المشارب، جديدة بغالبها، وتخضع في الوقت ذاته لاشتراطات دينية وجدت طريقها كقوانين، وأتاح حتى للنساء الاشتراك في الغناء ـ لا الانفراد به ـ دون تبعات قانونية. سيرى الزائر لأصفهان مثلًا تحت جسرها الشهير كيف يجتمع الناس حلقات على المغنين في الشوارع.
ظهر نشيد بانگ آزادی (صيحة الحرية) بداية الثورة الإيرانية، تحديدًا في آذار ١٩٧٩. كتب حميد السبزواري النشيد، ولحنه أحمد علي راغب، وأنشده محمد كلريز، الذي صار يدعى لاحقًا بمنشد الثورة، وبُث بالتزامن مع خطاب الخميني بمناسبة العام الجديد، وفق التقويم الهجري الشمسي المعتمد في إيران. نال النشيد رضا الايرانيين، وعُدَّ نشيدًا وطنيًا للجمهورية حتى جرى إعداد نشيد وطني آخر.
قاد نجاح النشيد بمضامينه الدينية / السياسية إلى المزيد من الأناشيد في هذا المضمار، في طليعتها النشيد الذي أُعد بطلب من أحمد نجل الخميني، بمناسبة الذكرى الأولى لمقتل الشيخ مرتضى المطهري، رجل الدين وأحد رموز الثورة الإيرانية، والذي اغتيل في أيار ١٩٧٩. كتب النشيد حميد السبزواري ولحنه أحمد علي راغب، وغناه محمد كلريز مع كورال من اثنين وأربعين منشد، ليظهر نشيد ای مجاهد شهید مطهر مما يذكر أن هناك نشيد ظهر في العراق بعد عام ٢٠٠٣ مع صعود القوى الإسلامية إلى السلطة في العراق، يُمجّد محمد باقر الصدر، رجل الدين العراقي الذي أعدم عام ١٩٨٠، واستثمر ذات اللحن الذي وضع لنشيد المطهري. (يا أيها المجاهد الشهيد المطهر).
أُعجب الخميني بالنشيد كثيرًا، واستدعى الفريق الفني الذي أعده. وفق ما ذكره رجل الدين والمؤلف والمترجم اللبناني أحمد أبو زيد العاملي، استقبلهم الخميني بحفاوة، و”أثنى على عملهم، وسأل الشاعر عن شعره والموسيقار عن موسيقاه، وطلب منهم التوجّه إلى صناعة موسيقى تكون بعيدةً عن الذوق الغربي، وأخبرهم أنّه يستمع إلى نشيد الشهيد مطهّري، بل إلى موسيقاه مجرّدةً عن الشعر.”
كان اللقاء منعطفًا كبيرًا في تجديد مكانة الموسيقى في إيران التي صارت جمهورية إسلامية، لتعود من جديد بغطاء من حماية الخميني، وتصبح معبرة عن توجهه الجديد الذي صار سياسة الدولة العليا. في اللقاء ذاته طلب أحمد الخميني من الفريق إعداد نشيد آمريكا، آمريكا، ننگ به نيْرَنگ تو (أمريكا أمريكا العار لخداعك) وغناه اسفنديار قرة باغي، ثم عاد الفريق الثلاثي القديم وقدم نشيد اين پيروزی خجسته باد (مبارك هذا النصر)، بعد استعادة مدينة المحمرة “خرمشهر” من يد القوات العراقية.
بالحديث مع الباحث والمترجم عن الفارسية حسن الصراف، أوضح أنه على الرغم من كل هذا، فإن الحساسية تجاه الموسيقى لا تزال تظهر بشكل أو بآخر في إيران، ففي الوقت الذي يُسمح فيه ببيع وتداول الآلات الموسيقية وحملها في الشارع، وإقامة الدورات التعليمية للموسيقى، وتقام الحفلات في الأماكن الرسمية وغير الرسمية ـ باستثناء مدينتي مشهد وقم المقدستين، يُمنع حتى اليوم ظهور صورة لآلة موسيقية في التلفزيون الإيراني الرسمي.
الأمر الملفت أيضًا هو ما يتعلق بغناء النساء في إيران، فغناء المرأة ممنوع بمفردها، ومسموح إذا شاركت رجلًا بالعزف أو الغناء. يلاحظ الأمر بكثرة في الحفلات الموسيقية الإيرانية. على سبيل المثال، فرقة شمس الإيرانية التي تغني أشعار جلال الدين الصوفي تضم في كورالها نساءً كمغنيات رئيسيات، ويغنين في حفلات عامة، لكن شرط ظهورهن هو وجود الرجال في الفرقة.
من جانب آخر، ونتيجة للتعبئة الرسمية باتجاه طُهراني ديني في الغناء، سواء كان سياسيًا، أم ذا مضامين دينية أو دينية صوفية، فقد انزوى الغناء العاطفي عن الوسائل الرسمية، سواء كانت إعلامًا أو مؤسسات فنية، لتزدهر بالمقابل الكليبات والأعمال الموسيقية غير الرسمية، تسجل وتنتج لتُعرض في اليوتيوب فقط، ولا يُسمح بتداولها في الداخل الإيراني، سواء كان مؤديها ذكور مثل علي رضا قرباني أو إناثًا مثل الفنانة مهديه محمد خاني، التي تسجل كليبات تُبث على اليوتيوب بشكل رئيسي.
على غير المتوقع، أتاح التخريج الذي منحه الخميني للموسيقى الإيرانية مساحة جديدة. لم يقتصر الأمر على ظهور الأناشيد الدينية أو السياسية العابرة للحدود ـ مما وُظف كثيرًا في السياسة الخارجية الإيرانية، بل امتد نشاط الموسيقيين إلى مساحة جديدة في الغناء الصوفي، جرى من خلالها استثمار الشعر الصوفي المكتوب بالفارسية بشكل كبير، وفي طليعة ذلك الشعر ميراث جلال الدين الرومي؛ بالاضافة إلى التراث الشعري الإيراني الذي حرص الخميني على حدّ انتشاره، لكنه عاد وازدهر بعد وفاته في ظل توجه الجمهورية إلى منحى أكثر قومية على المستوى الداخلي. هكذا أعيدت المكانة لحافظ وسعدي وعمر الخيام، بل إن ديوان حافظ الشيرازي يلقى اهتمامًا خاصًا لدى الإيرانيين لدرجة الاستخارة به بدلًا عن القرآن أحيانًا.
سنجد مثلًا أن محسن چاوشي خصص مساحة كبيرة من غنائه وألحانه لجلال الدين الرومي، إذ ـ وبحسب مترجميه ـ كان يختار نصوصًا في غاية الدقة، يحرص فيها على استلهام التعددية والتسامح في شعر الرومي، لتحويلها إلى غناء ملتزم برسالة دينية لا تستطيع السلطات قمعها. تجلى ذلك على سبيل المثال في أغنيته أمیر بی گزند (الملك الحنّان) التي ترجمها حسن الصراف.
لم يقتصر استثمار الشعر الصوفي على الأفراد، بل امتد إلى تكوين فرقة موسيقية متخصصة بشعر جلال الدين الرومي، مثل فرقة شمس (گاروان شمس) التي يشترك في جوقتها الموسيقية الرجال والنساء، وتقدم الحفلات في المدن الكبرى بما فيها العاصمة طهران.
ذهب بعض الفنانين إلى أبعد من ذلك في الالتفاف على الحدود الرسمية، مثل الفنان مجيد درخشاني الذي كوّن فرقة نسائية هو الرجل الوحيد فيها، اسمها ماه بانو، مغنياتها الرئيسيات والعازفات من الإناث، ويغنين شعر جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي، وتسجل أغانيها في كليبات تبث على اليوتيوب.
كما التف الفنانون على الحدود الرسمية، كان في هذه الحدود في الأساس التفافٌ على التراث الفقهي. سنلاحظ أن هناك تلاعبًا على مستوى التعامل بالمصطلحات، فالأغنية تحولت إلى نشيد، أي خفف وقع الكلمة ذات التاريخ المشوب بالتحريم على طول مسيرة الفقه الإسلامي، كذلك وضع قيدًا باهتًا على غناء النساء، لأن صوتهن يعد “عورة” في الفقه الإسلامي.
ربما أدرك النظام السياسي الإيراني أهمية الموسيقى في التعبئة، وهو ما يتجلى بملاحظة طلب الخميني بصناعة موسيقى بعيدة عن “الذوق الغربي” بما يعزز فكرة عدائه للغرب، وسعيه أيضًا إلى ترسيخ هوية محلية، قوامها الفكر الذي جاء به ضمن نظريته السياسية للحكم، ولاية الفقيه.
كما يبيُن حصر الحلّيّة في الدولة الإسلامية الإيرانية تحديدًا موقف الخميني السياسي من كل القوى الإسلامية الاخرى المنافسة، على الرغم من أنها اتخذت موقفًا بالغ التشدد من الغناء والموسيقى، مثل السعودية التي لم تبدأ الأمور بالتغير فيها إلا مع صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وبدئه بعهد جديد من الإصلاحات وفق رؤيته السياسية.
بعد سماح الخميني بالغناء انطلقت الموسيقى الإيرانية، التي خشي أهلها أن تلاقي طريقًا مسدودًا في بداية الثورة، إلى مساحات جديدة، مبتكرة طرقًا عديدة للالتفاف على ما تبقى من المحاذير الدينية. امتدت حركة إعادة إحياء شعر الرومي وحافظ والخيام بشكل أغانٍ إلى حفلات لنجومها خارج إيران، ووصلت إلى أن يشترك فنانون عرب فيها؛ مثل الشراكة بين علي رضا قرباني ودرصاف الحمداني في حفلة أقيمت في فرنسا ارتكزت بالكامل على شعر الخيام، الأمر الذي يعني ظهور لون جديد من الغناء في إيران سيستمر حتى في حال تغيرت الأوضاع السياسية / الدينية في الجمهورية.