ساهمت الآلة والتكنولوجيا في تأسيس وتطوير أنواع موسيقية جديدة منذ قرون مضت، وما زال دورها الثوري في خلق وتحويل موسيقات جديدة في ازدياد. الأمثلة على ذلك عديدة: بداية من ظهور آلات النفخ وتطويرها للموسيقى الكلاسيكية بشكل كبير، وظهور الجيتار الكهربائي ومكبرات الصوت ومؤثر التشويه Distortion الذي كان له تأثير مفصلي على الروك، مرورًا بظهور التسجيل على بكر الشرائط الذي أدى إلى نشأة الموسيقى الحقيقية Concrete Music، وثقافة الدي جي التي نشأت بفضل تطور مشغّل أقراص الفاينِل، كما ساعدت العديد من المؤثرات الصوتية والتعامل مع استوديو التسجيل كآلة على ظهور موسيقى الدب. وأخيرًا ساهم السنث وجهاز التتابع Sequencer والمزيد من المؤثرات الصوتية في تطور الموسيقى الإلكترونية، بالإضافة إلى جهاز العينات الصوتية. حتى الأخطاء الناتجة عن الأجهزة الرقمية استغلت في تأسيس أنواع موسيقى إلكترونية تجريبية تعتمد على الضجيج والخلل الرقمي.
من أهم هذه التطورات في الأربعين سنة الأخيرة هي ظهور جهاز الإيقاع Roland TR-808 الذي لعبت الصدفة دورًا في نشأة صوته المميز، والذي كان أساسيًا في تطور مشاهد وأنواع موسيقية بشكل حيوي وتلقائي حتى اليوم، بالرغم من “فشله” الأولي.
٢٥ أغنية من تاريخ الـ 808
نشأة الأجهزة الإيقاعية الإلكترونية والـ 808
لم يكن الـ TR-808 المحاولة الأولى لإنتاج جهاز إيقاع إلكتروني. ترجع المحاولات الأولى إلى أجهزة Rhytmicon ١٩٣٢ و Chamberlin Rhytmate ١٩٥٧ وWurlitzer Side Man ١٩٥٩ وKorg Donca-Matic ١٩٦٣ وغيرها. لم تحظَ جميعها بشهرة وسط الموسيقيين، لكن محاولات تطويرها استمرت. في الستينيات صنعت الشركة اليابانية آيس تون (رولاند فيما بعد)، ومالكها إيكوتارو كاكيهاشي، جهاز إيقاع Rhythm Ace، ثم في عام ١٩٧٢ استعانت بـ دون لويس لتطوير أصوات وتصميم هذا الجهاز. كانت أنماط الإيقاعات مسجلة بشكل مسبق على الجهاز ولا تتيح للموسيقيين إعداد ايقاعات خاصة بهم، كما احتوت على إيقاعات موسيقات تقليدية كالبوسا نوفا والسامبا. في عام ١٩٧٨ صممت رولاند جهاز CR-78 الذي احتوى على أنماط مسجلة وخيار لبرمجة أربعة إيقاعات فقط وحفظها، لكن كاكيهاشي توقف عن تصنيعها خلال عامين. كان التوجه السائد في ذلك الوقت لأصوات الإيقاعات الحقيقية التي يلعبها عازف الإيقاع، مثل في الديسكو والفانك والروك، إذ كانت الأكثرية متمسكةً بـ “الأصوات الحقيقية” والتقليدية، الأمر الذي يستمر إلى يومنا هذا ولا يختلف كثيرًا عن رفض الإنترنت مثلًا.
لهذا السبب، ومع تقدم التقنية الرقمية، أنتجت شركة لين جهاز LM-1 الذي يعتمد على عينات صوتية أقرب للأصوات الحقيقية. كان ثمن الـLM-1 باهظًا، نحو ٥٠٠٠ دولار، ما جعله متاحًا فقط للاستوديوهات الكبيرة والموسيقيين الكبار. في العام نفسه أطلقت شركة رولاند الـ 808، وعلى عكس الـLM-1، اعتمدت أصواته المستقبلية الفريدة على دوائر إلكترونية قياسية لارتفاع ثمن ذاكرة الكومبيوتر. نتج عن الجهاز صوت مميز وضخم للكيك أشبه بالساين وايف، وجاء الهاتس والسنير أقرب للضجيج الأبيض، والرِّم شُت أشبه بصوت النقر. تميز الجهاز أيضًا بصوت صناعي للكاو بل Cow Bell وصوت المراكاس كصوت فرّ الورق. أما صوت الكراش فهو إعادة لإنتاج صوت نتج بالصدفة بعدما سكب أحدهم شايًا بالخطأ على لوحة تجارب الجهاز. تلك الأصوات وبقيتها لا تمت للأصوات الحقيقية بصلة، باستثناء صوت السقفة والكلايف الذي احتفظت به رولاند في جهاز الـ 909 الذي تلى الـ 808 عام ١٩٨٤. وفقًا لكاكيهاشي، يرجع صوت الجهاز الفريد إلى صدفة ناتجة عن عيب تصنيع في الترانزستور. أنتجت رولاند ١٢٠٠٠ قطعة، ثمن الواحدة ١٢٠٠ دولار تقريبًا، ما جعلها رخيصة نسبيًا مقارنة بالـ LM-1، ومع ذلك لم يكن في متناول الجميع. كان الغرض الأساسي من الجهاز أن يحل محل عازف الدرامز للتسجيل المبدئي للأغاني. بعد ثلاث سنوات يئس كاكيهاشي بسبب سوء المبيعات وتمسك العديد من الفنانين بعينات الأصوات الحقيقية. قبل إيقاف الإنتاج تم إدراك خطأ التصنيع، ولكن كاكيهاشي لم يستطع إعادة إنتاج صوت الترانزستور المعيب مرة أخرى، واقتصر الـ 808 وكل ما فعل على ذلك الإصدار الأول.
يمكن تتبع استخدامات الجهاز الأولى في اليابان من فريق ريوشي سكاموتو، يِلو ماجِك أوركسترا، عام ١٩٨٠ في تراك 1000 Knives، وفريق ذ بلاستيكس في ألبوم وِلكم باك. كما يظهر دوره المميز في ألبوم ذ سبايس بيتوين لكريس كارتر وفي ألبومي هارتبيت وترانس لكريس وكوزي (كريس كارتر وكوزي فاني توتي من ثروبينج جريستل).
الـ 808 وجيل الهيب هوب الأول
بالرغم من فشل الجهاز تجاريًا إلا أنه أسّس شكلًا إلكترونيًا جديدًا من الهيب هوب. في عام ١٩٨١ أطلق فريق أفريكا بامباتا تراكًا بعنوان بلانِت روك، مستعينًا بالـ 808 وعينة صوتية لتراك ترانس يوروب إكسبرس لـ كرافتفرك. جاء التراك بإيقاع سريع على غير المعتاد لأعمال الهيب هوب السابقة التي تأثرت بالفانك، كما ساده طابع إلكترو شديد الصلة بكرافتفرك من حيث شكل الإيقاع. انتشر الـ 808 وسط الجيل الأول من الهيب هوب، حتى أصبح من الصعب حصر كل الفنانين الذين قامت موسيقاهم على الـ 808، فهناك فنانو الهيب هوب في نيويورك التابعون لشركة دف جام، مثل رن دي إم سي وتي لا روك وإل إل كول جي وبابلك إينيمي وإيريك بي & راكيم وبيج دادي كاين وبيستي بويز في ألبوم لايسِنسد تو إيل، وغيرهم مثل مان باريش وايجبشن لافر ومجموعة نيوكليوس ووورب ٩ وبلانت باترول ومانترونيكس.
في نفس الفترة الزمنية ظهر في جنوب أمريكا نوع جديد قائم أيضًا على الـ 808، وبالأخص صوت الكيك، باسم ميامي بايس (وهو ما يعتبر أساس نوع الكرانك والراب الجنوبي فيما بعد)، حيث لعب الإيقاع الراقص والبايس الضخم والعميق الدور الأساسي في هذا النوع. ولقد تأثر فريق تو لايف كرو، وهو من مؤسسي هذه الموجة، تأثرًا كبيرًا بتراك بلانِت روك، ويمكن القول إن آفريكا بامباتا لو لم يستخدم الـ 808 لاختلف صوت الميامي بايس كثيرًا. من خلال هذا النوع قام داينميكس II بدوزنة صوت الكيك في تراك جست جيف ذ دي جاي أ برايك للحصول على نغمات منه، ويقال إن ريك رُوبن (المنتج الشهير ومؤسس دف جام) أول من قام بهذا التكنيك الذي أصبح لاحقًا حجر أساس أنواع موسيقية أخرى، مثل الدرام آند بيس والدبستب والجرايم والتراب والعديد من تراكات البوب في السبعة أعوام الأخيرة.
بداية التكنو والهاوس
لم يتوقف دور الـ 808 هنا فحسب، فبعدما أوقفت شركة رولاند إنتاجه انخفض سعره تلقائيًا إلى ١٠٠ دولار، ما حفّز بعض المنتجين من شيكاغو وديترويت على استخدامه لتأسيس الهاوس والتكنو في النصف الأول من الثمانينيات. فكان هناك المنتج خوان آتكنز، المتأثر بموسيقى كرافتفرك وجورج كلينتون، والذي انتهز الفرصة ليؤسس التكنو مع فريقه سايبوترون، وكذلك جيسي سوندرز وفرانكي ناكلز وسليزي دي الذين قدموا أول تراكات هاوس. ولذلك نجد أن التكنو والهاوس يقومان على التكرار والبحث عن صوت مستقبلي للإيقاع، ما يوضح إلى أي مدى لعب الـ 808 دورًا في تشكيل هذه الأنواع الموسيقية.
الآسيد هاوس
على مستوى الإعلام والنقد الموسيقي الغربي، ينحصر التركيز غالبًا على تطور المشاهد الفنية في أمريكا وغرب أوروبا، وتُغفل إسهامات فنانين ومشاهد من بلدان أخرى. في أحيان قليلة قد يأتي ذكر هذه الإسهامات، ولكن في إطار الإكزوتيكية والهوس المفرط أو التعالي. من أبرز الأمثلة على ذلك تشارانجيت سينج، الهندي الذي أسس صوت الآسيد هاوس. أطلق سينج عام ١٩٨٢ ألبوم تِن راجاس تو أ ديسكو بيت، الذي تخلى فيه عن الإيقاعات والآلات الهندية الشعبية مستخدمًا الـ 808 على إيقاع راقص 4/4 وجهاز TB-303 بصوته المميز وJupiter 8 التابعين لشركة رولاند. مازال البعض يُنسب الآسيد هاوس إلى آدونيس والثنائي الأمريكي فيوتشر وتسجيلهما Acid Tracks الصادر بعد نحو أربع سنوات من ألبوم سينج. اكتسب الآسيد هاوس شعبية واسعة في مانشستر بإنجلترا على يد الثنائي 808 ستيت، اللذين نسبا اسمهما إلى الجهاز تحيةً لدوره، وتشكّل بذلك مشهد موسيقي راقص امتد لسنوات. لسنوات عديدة لم يدرِ أحد بدور سينج، حتى ظهرت مؤخرًا بعض الأصوات لتربط بينه وبين نشأة الآسيد هاوس، ولكن على استحياء. ففي مقال في الجارديان ذُكر أنه اكتشف هذا النوع بالخطأ، وعلى موقع ثامب قيل إنه فعل ذلك بالصدفة، دون أن يقول ذلك هو نفسه. أي أنهم قرروا حدوث الصدفة عنه. والسؤال هنا “هل كان سيكون الأمر صدفة لو كان 808 ستيت أو فيوتشر هم أول من أطلق صوت الآسيد هاوس؟”
البوب والنيو ويف والبوست بنك
يمتد استخدام الـ 808 إلى البوب أيضًا، ويعود الفضل في استخدامه الأول إلى مارفين جاي، حيث وظفه في أغنيته Sexual Healing بدلًا من عازف الدرامز. ينطبق نفس الأمر على فيل كولنز وويتني هيوستن ومادونا وآريثا فرانكلين وغيرهم، لكن استخدامه لم يدُم في البوب لتمسك فنانيه بأصوات أكثر “واقعية” كما ذكرنا. وفي إيطاليا قدمه الثنائي كلاين & إم بي أو إلى الإيتالو ديسكو. كما استعانت به فرق النيو وايف والبوست بنك في الثمانينيات، وعلى رأسها توكينج هدز في ألبوم سبيكنج إن تانجز، وفرقة نيو أوردر وكريس وكوزي وكوكتو توينز (ألبوم جارلاندز بأكمله).
الـ 808 في شرق أوروبا
لم يقتصر استعمال الـ 808 على غرب أوروبا وأمريكا وإنجلترا فقط، بل بلغ صيته بلدان الكتلة الشرقية أيضًا. ولكن كما ذكرنا في مثال سينج، ما زال الغرب حريصًا على احتكار الموسيقى الإلكترونية وتجاهل أو تهميش تاريخ الآخرين، ويساعده في ذلك سيطرته على وسائل الإعلام. تبقى المصادر المتاحة عن دور الكتلة الشرقية في الموسيقى الإلكترونية قليلة، فيُصور السنث على أنه منتج غربي من العالم الأول وحسب، بالرغم من وجود سنثات وآلات إيقاع من الكتلة الشرقية، كما أن إسهامات الروس في التجريب في العقدين الأولين من الثورة البلشفية لا يستهان بها. يذكر منها إسهامات آرسيني آفراموف في الموسيقى الحسية والمستقبلية مثل عمله Symphony Of Factory Sirens عام ١٩٢٢، بالإضافة إلى التجارب الموسيقية لإيفيجيني شولبو على جهازه، ما يعرف بالفريافون. أيضًا هناك أعمال نيكولاى فوينوف على الشرائط الممغنطة. ولعل آلة الثيريمن الخاصة بليون ثيريمين تعد من أكثر الإنجازات التي لقيت اهتمامًا بسبب إعادة إنتاجها من شركة موج (الأمريكية) فيما بعد. مع البحث توصلت إلى فرق من شرق أوروبا تصدر جهاز الـ 808 موسيقاها في الثمانينيات، وقد يكون الانفتاح النسبي وقتها وبعض المراجعات السياسية سهلت الوصول إلى الآلات الموسيقية الغربية. فمثلًا يأتي ألبوم فريق بيوجراد اليوغوسلافي عام 1982 وفريق فيديو سكس مواكبًا، إن لم يكن سابقًا، للعديد من أعمال السنث بوب والنيو وايف بالغرب. ويسري الأمر نفسه على بنكو لازلو المجري وألبومه لِكسيكون في العام نفسه، والموسيقي البولندي الساخر فرانيك كيمونو والثنائي السوفييتي آندري روديونوف وبوريس تيخوميروف. بشكل عام كانت هناك موجة لا بأس بها من الإلكترو والكولد وايف والسنث بوب في الاتحاد السوفييتي لا ينبغي أن تغفل، خاصةً أن لها دلالة تاريخية، حيث تشير إلى تطلع شباب السوفييت في ذلك الوقت إلى الموسيقى والصيحات العصرية بعد يأسه من الشيوعية.
التسعينيات ومشاهد الدرام آند بايس والآى دي إم
مع ظهور جهاز العينات الصوتية وأجهزة إيقاع أخرى من رولاند وشركات أخرى، تراجع استعمال الـ 808 في مشاهد عديدة منها الهيب الهوب في الساحل الشرقي والغربي. أما في التكنو والهاوس فقد خطف الـ 909 الحديث الأضواء من الـ 808، وإن استمر تواجده قليلًا كما الحال في بعض أعمال ديريك ماي وبلاستك مان (المشروع الأول للمنتج الشهير ريتشي هوتن). أما في إنجلترا، تشعب مشهد الرقص بعد أن خفت نجم الآسيد هاوس تدريجيًا، وحل محله الهاردكور الذي اعتمد على الـ 909 وعينات صوتية للفواصل الإيقاعية. وفي نفس الفترة ظهر الجانغل والدرام آند بايس، وقد اعتمدا بشكلٍ أساسي على إيقاعات متشابكة وعلى الفواصل الإيقاعية والتركيز على المدى المنخفض المتمثل في السب بايس. استغل منتجو الدرام آند بايس مثل جولدي وإل تي دجاي بوكم صوت الكيك الخاص بالـ 808 بشكل جديد للحصول على السب بايس وصوت عميق لملء المدى المنخفض، مع دوزنة الكيك للحصول على نغمات مختلفة، بالإضافة إلى بعض الأصوات كطبقة إضافية تلعب بالتوازي مع الفواصل الإيقاعية.
في النصف الأول من التسعينيات ظهر نوع جديد من الموسيقى الإلكترونية في إنجلترا، الآي دي إم، وهو نوع غير راقص (مثل الدب تكنو) يُحيل إلى الاسترخاء. على خلفيته صُممت في بعض النوادي الراقصة غرف صغيرة بهدف الاستماع والراحة من الموسيقى الصاخبة في القاعة الرئيسية. لا يمكن المبالغة بالقول إن الـ 808 كان سببًا في ظهور الآي دي إم مثل العديد من الأنواع الموسيقية التي ذكرناها من الثمانينيات، ولكنه كان حاضرًا بقوة ضمن آلات الإيقاع التي استخدمها الفنانون التابعون لشركة وورب، وهي من أهم شركات إنتاج الآي دي إم. فقد تصدر العديد من تراكات ألبومها Artificial Intelligence بجزئيه، وهو الألبوم المدشن لهذا النوع. كما استعان به الثنائي أوتكر (من رواد الآي دي إم) في أولى مراحلهم مثل في ألبوم إينكونابولا، وكذلك إيفيكس توين. وقد انقطع فنانو الآي دي إم عن استخدام الـ 808 في العقد الأول من الألفية، حيث ساد الكومبيوتر وصوت الضجيج والخلل الرقمي الصادر منه، وأخذ الآي دي إم اتجاهًا أكثر تقليلية وتجريدًا. ثم عاد مؤخرًا صوت الـ 808 مرة أخرى دون الجهاز نفسه، بعدما أصبحت هناك برامج وأجهزة إيقاعات تحاكي صوته. في أعمال روبرت هنك، فنان آي دي إم وأحد مطوري برنامج آيبلتون، نجد مثلاً صوت الجهاز حاضرًا دون استعماله فعليًا كما في ألبوم جوستس. ويقول هنك إن “الـ 808 قطعة فنية … صنعت بشكل جميل … وآلة عبقرية”.
الألفية الجديدة ومشهدا الدبستب والجرايم
أخذت الموسيقى الراقصة بإنجلترا أشكالًا عديدة مع الزمن. فمع نهاية التسعينيات ظهر الجراج الذي اعتمد على العينات الصوتية للإيقاع. ومع بداية الألفية نشأ مشهدان نابعان عن الجراج، وهما الدبستب والجرايم. تعددت أساليب الإنتاج في هذين النوعين وعادت الـ808 بعد انقطاع عن المشهد الراقص (الصوت دون الجهاز في معظم الأحيان). فأعمال سكريم وبنجا وكودناين تقدم ال808، بالأخص كودناين في أعماله بالسنوات الأخيرة. أما الجرايم فظهر فيه صوت الكيك والتلاعب بنغمتها بالإضافة لصوت الهاتس والسقفة في أمثلة عديدة، من ويلي وديزي راسكال ويانج ستار في أول الموجة وحتى ألبومي ستورم زي وسكيبتا الأخيرين، كما تأثر فريق ماسيف آتاك بهذا الاتجاه في آخر عامين.
الكرانك راب والبوب المعاصر
بعد احتواء الساحل الشرقي للراب في أمريكا لسنوات، تحول التركيز إلى الجنوب مع بداية العقد الماضي على يد فنانين مثل ليل جون وثري سيكس مافيا وكرايم موب. فقامت موجة بأكملها على صوت الـ 808 تحت اسم كرانك راب. وحين نقول “صوت” الـ 808 فلا يعني ذلك بالضرورة أن فناني الراب لعبوا بالجهاز نفسه، ولكن في حالة الكرانك كانوا يستخدمون برنامج فروتي لوبس لإنتاج أصوات تشابه تلك التي صنعها الـ 808، هكذا تعددت وسائل الإنتاج وبقي الصوت ذاته. انتقلت عدوى الـ 808 حتى طالت الموسيقى الجماهيرية، فأطلق كانيه وست عام ٢٠٠٨ ألبوم راب تقليلي أنتجه كله بالـ 808 اسمه 808s and Heartbreak، وظهرت في أغاني آشر وبيونسيه وريهانا ونيكي ميناج ودريك وغيرهم وصولًا إلى كندريك لامار، الذي يعد ألبومه DAMN الأخير أفضل مثال على ذلك. في السنوات الثلاث الماضية لم تعد هناك أغنية بوب تخلو من صوت الـ 808، حتى أصبح هناك أسلوب واحد في بناء الأغاني يعتمد على الكيك كأساس للإيقاع ولعب الهاتس بشكل أقرب لموسيقى التراب، ويظهر صوت السنير بشكل مكثف ليصل التراك إلى قمته ويعقبه دروب في الإيقاع.
الـ 808 أساس التراب
منذ بداية هذا العقد ومع وجود موجة التراب النابعة من الكرانك، بات من المؤكد أن صوت الـ 808 قد طغى. فلا يخلو تراك لـ جوتشي مين أو ميجوس أو كاردي بي أو فيوتشر أو ليل ياتي أو يانج ساج منه. ما يميز أسلوب هؤلاء أنهم تعاملوا مع صوت الجهاز بشكل مختلف كليًا عن الأجيال السابقة، فالكيك تلعب دور الكيك والبايس في نفس الوقت، والهاتس تُلعب بشكل معقد وغير منتظم، يختلف ميزانها من بار إلى آخر لزيادة التناغم بينها وبين سرد الكلمات. والآن أصبح التراب بإيقاعه البطيء، وبالتالي الـ 808، صوتًا أساسيًا في الهيب هوب، حتى أن فناني الهيب هوب في أوروبا والبلدان العربية لا يستغنون عن صوت الـ 808، كما يظهر في أعمال علاء وأبيوسف والناظر وPngwng، ومعظم منتجي التراب في مصر والمغرب.
الموسيقى الإلكترونية التجريبية والإلكترو المعاصران
في الآونة الأخيرة عاد صوت الـ 808 لنجده في أنواع موسيقى البايس والإلكترونية الأكثر تجريبًا بشكل أكثر تفكيكًا، مثل أعمال رينيك بل ولانارك آرتفاكس على المستوى العالمي، وأعمال أنسي وزولي والشريف طرخي واسماعيل حسني في مصر. أما في الإلكترو فنجده حاضرًا في أعمال سيجناس ودز ويليامز ومورفولوجي وبيب ويليامز والعديد من إصدارات شركة سي بي يو. كما ما زال صوت الجهاز يحتل مكانة خاصة لدى بعض فناني التكنو، مثلما يظهر في أحد العروض الحية لـ توبياس.
المصنعون وعلاقتهم بالـ 808
لا يقتصر وجود صوت حاليًا الـ 808 على البرامج الرقمية والعينات الصوتية، فهناك شركات مثل إلكترون لا يخلو أي موديل لآلتها الإيقاعية من صوت الـ 808، مثل الماشيندرام والأنالوج ريذيم ومؤخرًا الديجيتاكت. وفي السنوات الأخيرة طرحت عدة شركات أجهزة تستنسخ الـ 808، مثل شركة إم إف بي ونوفيشن وآسيد لاب وجوموكس وكورج وآرتوريا ووحدات سنث لشركة تيب توب. كما أطلقت رولاند مؤخرًا أجهزة جديدة للـ 808 كال TR-8 ضمن مجموعة آيرا والـ TR-08 العام الماضي.
إن برهن لنا كل ما سبق على شيء، فهو أن عودة الـ 808 غير نابعة من النوستالجيا، فكل مشهد على مدار أربعة عقود تعامل معه بشكل مختلف ومبدع، لينتج عن هذه العملية نوع وصوت فريد. وهكذا لا يستمد وجوده الآن من صيحة استعادية قد تخفت سريعًا، بل هو استمرار وإعادة توظيف لصوت يفرض نفسه بقوة الآن وسيستمر لأعوام قادمة. لا أجزم بأن جميع هذه المشاهد لم تكن لتظهر لو لم يكن هذا الجهاز موجودًا (باستثناء التكنو والهاوس والإلكترو)، ولكن لا شك في أن صوتها كان سيختلف.
في النهاية، ورجوعًا إلى حيث بدأنا، لا تنشأ الأشكال الجديدة والثورية من خلال الثورات الاجتماعية والثقافية وحسب، بل إن التكنولوجيا والصدفة قادرتان على ذلك أيضًا. بدأت قصة الـ 808 بالصدفة والفشل، وانتهت بنجاح واستمرارية ومرونة ساهمت في تشكيل مشاهد موسيقية متعددة لا تربطها صلة.