كتب المقال وأعدّ القائمة نور عزّ الدين وشب جديد. صورة الغلاف من حساب مغني المجرودة خليل الطرشان.
دخلت المجرودة إلى غزة قبل حوالي عام رغم الحصار. تسللت مع المهرّبين بين سينا وغزّة، إلى جانب أكياس الطحين والأدوية المهربة، وتابعت رحلةً بدأت في ليبيا قبل سنوات، لتشهد ذروة رواجها في فلسطين في الأشهر الأخيرة.
تنتمي المجرودة إلى أسرة من أشكال الشعر البدوي الذي يؤدي في المناسبات الاجتماعيّة وأحيانًا بمشاركة الحضور، مثل الغناوة أو أغنية العلم كما تسمى في ليبيا، والمكونة من بيت شعر واحد مجهول المؤلف يتداوله المجتمع القبلي مشاعًا. يتبع الغناوة شطر شعر منفرد يسمّى الشتيوة، يؤديه الحضور بتكرار ويرتبط مضمونه بموضوع الغناوة.
تتميز المجرودة وسط الشعر البدوي الليبي باعتمادها على مقطوعات مثلّثة أو مربعة (ثلاثة أو أربعة شطور). تمشي الأبيات الأولى من كل مقطع على نفس القافية، ويتلاعب الشاعر بقافية البيت الأخير التي غالبًا ما تنتهي بألف ونون (بدوان، غزلان، رعيان)، كما يردّد الحضور أو الكورال البيت الأخير في بعض الحالات. كذلك تمتاز المجرودة باتباعها نمطًا لحنيًا موحدًا على طول جلسة الإلقاء.
“واحنا أساس التهريب
سيناوي جاكو بالجيب
بيحمل حمول الذيب
وتشهد عليه الوديان”
تبدأ المجرودة بمقدمة ترحيبية ثم يمر الشاعر على مواضيع مترابطة يتنقل فيما بينها بسلاسة. عادة ما تدور هذه حول حياة البدو وقيمهم، كالفخر بأمجاد العائلة ومآثر القبيلة والأجداد والتباهي بصفات الكرم والفروسيّة والشهامة. بإمكان الشاعر التنقّل بين عدّة ثيمات خلال المجرودة، مثل الهجاء والرثاء والغزل الحسي الصريح، قبل أن ينهي بالتحيات والسلامات.
لسنوات طويلة، بقيت المجرودة حبيسة أعراس ومناسبات البدو التي يحضر فيها الغناء، وأخذت شكلًا موحدًا في الإلقاء لدى قبائل متناثرة حول العالم العربي، حيث تقف مجموعة من الرجال على شكل قوس ليتسنى للحاضرين رؤيتهم. تتراص أكتافهم وتعلو صفقاتهم عند نهاية كل بيت. تقف أمامهم راقصة، تسمى الحاشية عند القبائل المصرية، لتحمسهم وتثني بحركات جسدها على كلام الشاعر، ويعني توقفها عن الرقص أن الكلام لم يعجبها أو أن حركة الصف غير متزنة. لا يغازل الشاعر الراقصة مباشرةً، بل يتوجه إليها بقدراته في استحضار مأساته أو الحديث عن نسبها.
في السنوات الأخيرة، بدأ الفارق بين مجاريد (جمع تكسير متداول لمجرودة) الشعراء الكبار والشباب بالاتساع، وفتح الباب أمام تيارات التجديد في المجرودة. يهتم الشعراء الكبار بمجاريد قديمة ذات لهجة بدوية صعبة ومعاني مبهمة لا يعرفها سوى كبار القبيلة، بينما يتجه الشباب إلى مجاريد مستحدثة ذات لغة أسهل وعناصر موسيقية أوضح.
الهجرة من ليبيا
إذا حملتم نوكيا الدبدوب في بداية الألفية، فعلى الأرجع وصلتكم كثير من الفيديوهات الكوميدية المتداولة وقتها، مثل حمود حبيبي حمود. يعود الانتشار الخجول الأوّل للمجرودة إلى أحد هذه الفيديوهات، قادم من ليبيا، لطفل كارتوني راقص ومجرودة الخطوبة للفنان الشعبي جمعة الشوماني. انتشر بعدها بسنوات فيديو من بداية التسعينات للشاعر البدوي جمعة بوخبينة الزوي من مدينة الكفرة، يظهر طقوس المجرودة عند القبائل ويلقي الضوء على قوة الشاعر في استحضار القوافي ورصّها بدون موسيقى، معتمدًا على تصفيق صفٍّ من الرجال.
صار حضور المجرودة بشكلها الحديث مألوفًا على القنوات التلفازية الليبية مع بداية الألفية، بفضل الفنان الشعبي مصطفى البدير الذي نقل المجرودة إلى مستوى جديد عبر رفع جودة الإنتاج ونزعته الطموحة للتجريب. أدى مصطفى البديل نسخته من المجرودة للمرة الأولى مع فرقة أنغام الشلال في أغنية مرحبتين، حين نظم كلمات عاطفية وأضاف طبقة من الصيحات المحمسة “عايش في الوجدان خيالك ساكني ليوم الدين”. أعطى البدير للإيقاع مساحته، وترك طبقة من الآلات الوترية تتلاعب بلحن المجرودة المعروف. صدرت مرحبتين لاحقًا كأغنية مصوّرة أظهر فيها البدير طريقة أداء المجرودة عند القبائل.
استمرّت المجرودة بالانتشار والتطوّر بعد البدير، واتجهت أحيانًا نحو الأغنية السياسيّة مثلما حصل مع سعداوي القطعاني في مجرودة اللواء التاسع. يتغنى سعداوي في البداية بابن مدينته ترهونة أحمد المريض، وهو أحد أبطال القرن الماضي المعروف بنضاله الشجاع ضد الغزو الإيطالي. ينتقل القطعاني بعدها للثناء على شهامة الجيش الليبي ويحذّر من داعش “وداعش لابسين عفاريت وذبّاحة للبني آدمين.”
دخل سعداوي القطعاني عالم المجرودة من خلفيّة أدائه أغانٍ بدويّة مثل تيوتا، ومع تطوّر مسيرته اتسعت شهرته لتبلغ قبائل بدويّة على امتداد العالم العربي. زار قبائل مطروح في مصر وغنّى في حفلاتٍ إلى جانب زميله الشاعر عبد الكريم المالكي، ليعلّم مرحلة جديدة من انتشار المجرودة عبر الحدود.
في السنوات الماضية، ومع انتشار الهواتف الذكية، عاشت المجرودات الليبية موجة جديدة من الانتشار والتبني، ودخل عليها الكثير من المستمعين الجدد ممن لا يعرفون تاريخ المجرودة وسياقها البدوي. كثيرًا ما نجد تعليقات على يوتيوب من سمّيعة وموسيقيين ليبيين يؤكّدون بحماس على دور بلادهم بالحفاظ على المجرودة وإطلاقها إلى العالم مجددًا، ويحدث كثيرًا أن تشتعل خلافات واتهامات بـ سرقة إبداعية، يعاني الليبيون لتوضيحها بسبب حاجز اللهجة عندما تنتشر المجرودة عبر الحدود.
في مصر وإلى سينا
تتغنى الشاعرة البدوية رنا محمود في هذه المجرودة بمحافظة البحيرة في مصر وهي مسقط رأسها، لتكون واحدة من أولى النساء اللواتي قدمن المجرودة بخلاف الأعراف. بدأت مسيرة رنا محمود بعد أن شاركت أغانيها على اليوتيوب نهاية العام الماضي، واستعادت أغانٍ من التراث الليبي مثل فارق واهرجرني يا طير.
تبدأ مجرودة رنا كالعادة بالترحيب بالموجودين والمستمعين. تُبقي على لحن المجرودة التراثي نفسه، إلا أن التوزيع الجديد يعطي الأغنية هويتها المصرية بأصوات الكيبيورد الشعبي المرافق للمزمار. ينفرد صوت رنا بالراحة التي تتدفق بها كلماتها، وترسل التحيّات إلى مطروح والاسكندرية والمحافظات المجاورة. صدرت هذه المجرودة كأغنية مصورة لاحقًا، حيث تقف رنا محاطةً برجال قبيلتها الذين يضربون كفوفهم على الإيقاع.
“وعمري ما ننساكم وأنا واش نكون بلاكم
لولاي مولاي ولولاكم ما سمعوا بيا ملايين
وبفضل الجمهور الغالي كل العرب مشكورين”
ساهمت رنا وغيرها من مغني المجرودة بانتشارها بين قبائل البدو في مصر. شارك عرب الجيزة أيضَا بموجة المجرودة في السنوات الأخيرة، فقدّم بسام أبو عواد مجرودة عاطفية يروي فيها كيف تعرف على فتاة من المدينة، عن اختلافه عنها باللهجة والإنتماء العروبي، وعن حديثه معها عن تميّزه بكتابة الشعر وسكنه البعيد عن المدينة وكرهه للملابس الجديدة.
“شوق العاشق يا محلاه حبينا ما حنا ناسيين
حبينا بنت حضرية زينة تدرس بالكلية
وأنا حالتي ما عادية نعاني من مرّ السنين”
وصلت المجرودة إلى سينا مع الشاعر سيد المعازي من قبيلة بني عطية المعازة، المعروفة بتنقلها الدائم بين محافظات مصر بدافع التجارة منذ القرن التاسع عشر. يعدد سيد المعازي في مجرودة القبائل العربية جميع العائلات المنتشرة على طول العالم العربي، ليرحب بكل العشائر ويؤكد على وحدة البدو رغم البعد والحدود.
إلى فلسطين عبر رفح
كثرت المجاريد الصادرة في فلسطين هذا العام حتّى بدأنا نسمع عن ظهور فنانين مختصين بالمجرودة. في البداية، التقط شعراء البدو في غزة أسلوب كتابة المجرودة ذات اللحن الموّحد ورصّوا أبياتهم المتقنة عليه. ثم أصبح بدّيعة الدحية أوّل من التقط هذا الصوت من عالم الموسيقى، حيث وجدوا في المجرودة مكانًا مناسبًا للتجريب بالكلمات نظرًا لسعتها الشعرية والسردية.
تخرج معظم الدحيّات من الأعراس، ما يلزمها بمواضيع محدودة مثل تحيات العرسان والقبائل الحاضرة، وأحيانًا الدعوة لتحرير فلسطين. خرجت في الأعوام الماضية محاولات خجولة للغناء عن ثيمات مختلفة، مثل دحية يا ستي لشادي البوريني وقاسم النجار من غزة، إلا أنّ هذه المحاولات لم تنتشر لتصبح موجة واسعة. يعود ذلك إلى تشابه الدحيّة بشكلها الشعري مع الغناوة البدوية أو الهجيني، حيث تتكون من أبيات طويلة مقسمة تفصل بينها موسيقى دبكة حماسية.
اختارت فرقة نجوم النقب المختصة بتراث الدحية والهجيني التجريب بكتابة أولى المجرودات، وظهرت القدرة الشعرية الإبداعية لأعضاءها فؤاد ابو بنيه وخليل الطرشان في كتابة مجرودة وبعيني شفت المهرّب. أبقوا على صوت الأورغ الشعبي في الخلفية ودخلوا بإيقاع معتدل السرعة يعطي للشاعر مساحته برص الأبيات. تدفق فؤاد وخليل الطرشان بأربع أبيات تتكرر بعد كل لازمة موسيقية لمدة ثماني دقائق دون أن يتكرر بيت واحد.
“أعجبني لحن المجرودة
ومعاني فيها موجودة
وهيذي من لساني معدودة
وقاريها ع ملوك الجان”
يتنقل أعضاء الفرقة بين ثيمات مختلفة وكأنهم يروون لنا كل ما يجول في رؤوسهم. أدخلوا في أبياتهم ثيمة التغني بثقافة التهريب والتي هي موضوع معظم المجرودات الفلسطينية. يتم تناول المهربين في هذه القصيدة بطريقة تتماهى مع تناول أبطال البادية في القصائد القديمة، فيرث المهرّبون عنهم صفات الشجاعة والعزم: “بعيني شفت المهرب / مع درب الجنزير مغرب / مركن ع جيبه ومكرب / ومعطل فيه الضيان.”
في مجرودة احنا أساس التهريب وهي عمل مشترك بين بدوان سيناء والسبعاوية، يمدح عمر أبو عيادة قبيلة محمد البصيلي الذي يشاركه التداور على إلقاء الأبيات بصحبة أورغ هادئ: “اخيك ملص صندوقه / والبزر يرشق من فوقه / العز بيمشي فعروقه / ما همّه طخ الخوّان.” تتعمق المجرودة في عالم التهريب وتتغنى بالسيارات التي تساعد المهربين، لتصبح اللاندكروزر والباجيرو سفن البادية الحديثة: “تسوقه على بلاد سيناء وموجه مثل السفينه”.
أصدر فراس أبو جرابيع مجرودة يلي تهرب ع فلسطين مع استوديو ديجيتال ساوند في غزّة، الذي دخل ساحة المجرودة مؤخرًا بعد اختصاصه عادةً بالدحيّة والهجيني. يأتي صوت فارس غارقًا باللهجة البدوية السبعاوية عندما يتغنى بأصوله من منطقة بئر السبع المحتلة “في السبع لينا غاليين وفي الأصل هذه ديرتنا.” هُجِّرَ بدو السبع من منطقتهم إلى غزة سنة ١٩٤٨، تاركين وراءهم محاصيلًا زراعية وبيوتًا ورثوها عن أجدادهم. وصل معظمهم إلى غزّة وسكنوا في مخيم البريج حيث قامت وكالة الغوث بإحصائهم وتسليمهم بطاقة تموين، وشرعوا وقتها ببناء البيوت التي يسكنوها اليوم.
صار شائعًا أن تؤدي المجرودة وظائف سياسية بين القبائل، خاصةً بين بدو غزّة وسينا. يرد فراس هنا على مجرودة البصيلي الذي يتهمه بعدم تسليم الحمولات المهربة، يقول له: “يلي تهرب عفلسطين حمولك لا ما وصلتنا / و ما احنا بحاجة الطحين بايدينا نرمي بزرتن”، ثم يتوجّه بالحديث إلى قبيلته: “بدال الحمل حملين وعساكركم ما شافتنا.”
يعزف فراس موسيقاه المرتكزة على ضربات إيقاع ثابتة توحي بالكبرياء. يرافق بعض الأبيات أصوات ضرب رصاص بينما يعلّق: “هذا واحنا محاصرين، كيف لو تتحرر دولتنا.”