يحاكَم المخرج الإيراني أصغر فرهادي بتهمة السرقة الأدبية، وانتهاك الحقوق المادية والفكرية لفيلم وثائقي صنعته تلميذته آزاده مسيح، بسبب فيلمه الجديد بطل الحائز على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كانّ. يستطيع المشاهد العادي مقارنة قصة الفيلمين ليجد بسهولة مدى التطابق. في حالة الحكم بالإدانة، سيُجبر فرهادي على التنازل لآزاده عن جميع عائدات فيلمه المقدرة بـ ٢٫٥ مليون دولار في أنحاء العالم حتى الآن.
يزداد الأمر تعقيدًا لإثبات التعدي على موسيقى أو كلمات أغنية، وتدخل فيها حسابات الشهرة بعض الأحيان. يتحول النزاع للقضاء بسهولة لو كان النزاع بين قطبين غنائيين، مثل النزاع القانوني حول ألحان أغنية بيج بيمبين لـ جاي زي، التي تعدى فيها على لحن أغنية خسارة لـ بليغ حمدي، ولم يذكر فيها اسم بليغ. حضر جاي زي أمام المحكمة الامريكية بسببها، واضطر لتسوية الأمر وديًا مع شركة إي إم آي أرابيا للإنتاج الموسيقي، مالكة الحقوق.
كيف يتعامل القانون مع المزيكاتي؟
ليس الأمر كذلك دائمًا. لو كان النزاع بين نجم وفرقة مستقلة بالتأكيد لن تستطيع هذه الفرقة تحضير نفس جيش المحامين المتخصصين في حماية حقوق الفنانين، الذين يستطيعون إنهاء النزاع قبل تحوله إلى المحاكم وأخذ وقت طويل وتكلفة عالية.
نجد ذلك واضحًا في قضية دوا ليبا، حيث رُفعت ضدها قضيتان في مارس ٢٠٢٢ أمام القضاء الأمريكي. تنظر الدعوى الأولى محكمة مانهاتن الفيدرالية، والتي اتهمت فيها المغنية الأمريكية بتطابق كلمات أغنيتها لِفيتايتينج مع أغنية ويجل آند جيجل أول نايت للشاعران الغنائيان إل راسل براون وساندي لينزر، وتعدّيها على حقوقهم المالية والأدبية. رُفعت دعوى أخرى تخص نفس الأغنية تتحدث عن تطابق في اللحن أيضًا بينها وبين أغنية ليف يور لايف لفرقة آرتيكال التي تعزف الريجي في ولاية فلوريدا الأمريكية. تستطيع أن تكتشف ذلك بنفسك بواسطة فيديو للمنتج الموسيقي ريك بياتو، كشف فيه تطابق المفاتيح الموسيقية واللحن الغنائي.
لا تزال القضية متداولة أمام المحكمة، ونستطيع تخيل قدر الضغط الواقع على الفنانين من محامي دوا ليبا الذين سيحاولون إنهاء النزاع قبل صدور حكم نهائي ضدهم، بترهيب الفنانين وإقناعهم أن العمل ليس أصليًا، أو بتطويل أمد التقاضي ليكون فوق احتمالهم. أول نصيحة يتلقاها الفنان إذا حاول الدفاع عن حقه هي “خلي بالك إنت كدا المنتجين هيقولوا عليك إنك بتاع مشاكل ومش هتلاقي شغل.”
تقف أمام هؤلاء الفنانين عقبة أخرى وهي وصم أي فنان غير معروف بكونه قد قام برفع الدعوى راغبًا في الشهرة، والتعويض العالي دون حق. أضف إلى ذلك الإثبات القانوني بالاعتداء نفسه، وهو أمر شديد الصعوبة والتعقيد، فبحسب القانون الأمريكي لابد أن يكون العمل الفني أصليًا، حيث يرى آخرون بأن من ادعوا اعتداء دوا ليبا على لحنهم هم أنفسهم قد اقتبسوا هذا اللحن من أغنية أخرى صدرت في ١٩٩٨، وهي أغنية روزابارك، وأن الأخيرة ليست أصلية أيضًا، فقد أخذت نفس اللحن من أغنية مايكل جاكسون بلايم ات أون ذَ بوجي الصادرة عام ١٩٧٨.
في أحيان كثيرة تصعّب موازين القوى على الفنان تتبع حقه المالي إذا جرى الاعتداء على ألحانه، أو كلماته، مثل التعدي الذي قام به الرابر كانيه وست عندما استعان بعينة من تراك فرش لكريم لطفي، والذي لم تشهده ساحات المحاكم، ولم يُذكر تعويض الفنان المصري لطفي ولو حتى بذكر اسمه.
إن كان الوضع كذلك في القضاء الأمريكي فدعنا نخمن لو أن مثل هذه الدعاوى رفعت في مصر، كيف سيكون التعامل القضائي معها؟ ما هي الأمور الفنية التي ينظر إليها القاضي بعين الاعتبار؟ وهل له أن يُعمل حقه في أنه الخبير الأعلى بحيث يرجح دليلًا على الآخر؟ أم أن هناك أدلة لا يمكن أن يغفل عنها، بحيث لو وجدت وجب الحكم بالتعدي على الحقوق المالية والأدبية للفنان؟
الوضع في مصر
الحبس ثلاث سنوات هو السبب وراء فيديو اعتذار حسن شاكوش وعمر كمال عن اعتدائهما على ألحان أغنية حاجة مستخبية، للملحن مدين ومحمد حماقي. في حالة ثبوت التعدي، فالقانون المصري لا يزال مخالفًا لنص الدستور الذي يحمي الفنان من أية عقوبة سالبة للحرية ويقصر العقوبة على الغرامة.
يعرّف القانون الفنان بأنه المؤلف، ووضع له حقان هما الحق المالي والحق الأدبي؛ الحق الأدبي قائم للأبد وهو عبارة عن نسبة العمل الفني لصاحبه، أو ذكر اسم الفنان (الكرِديت). منع القانون التعامل في الحق الأدبي بحيث لا يمكن التنازل عنه، ولا ينتهي بموت صاحبه، ولايمكن للفنان نفسه أن يتنازل عنه.
أما الحق المالي فهو الحق في الاستخدام، والاستغلال والنشر وإعادة الإنتاج، والتحوير والنسخ والتتبع والندم، وغيرها من الحقوق التي تتعلق بالعمل الفني نفسه، وتجعل الفنان قادرًا على بيع جزء منها لمدة معينة بمقابل مالي. يمتد حق الفنان المالي في بعض الحالات إلى خمسين سنة بعد وفاته، وهي الحماية التي أعطاها قانون حماية الملكية الفكرية المادة ١٧٧ للشعراء والملحنين فقط؛ أما غيرهم مثل المطرب فتكون الحماية لمدة ٥٠ سنة من تاريخ نشر العمل الفني وليس من تاريخ وفاته. بعد هذه المدة يدخل العمل الفني الملكية العامة ويكون من حق أي مواطن استخدامه بمقابل رمزي لا يتعدى ألف جنيه للعمل الواحد.
القاضي هو الخبير الأعلى
المحكمة المختصة بنظر الدعاوى المتعلقة بحقوق المؤلف والملكية الفكرية هي المحكمة الاقتصادية، وطبقًا للمادة ١٧٩ يكون من حق القاضي الاستعانة بخبير موسيقي، تكون تكلفة تعيينه على الفنان الذي يطالب بحقه.
يقوم هذا الخبير بوضع تقرير استرشادي يستعين به القاضي في قضائه، ولا يُجبَر القاضي على الأخذ برأي الخبير، حيث ينص المبدأ القضائي على أن “القاضي هو الخبير الأعلى” وله بحسب ما يرى في مجريات الدعوى أن يقدّر حكمه، آخذًا في الاعتبار شهادة الشهود وما يُطرح أمامه من أدلة في الدعوى.
يحتوي تقرير الخبير على وصف تفصيلي للعمل الفني، والعلاقة بين طرفي الخصومة، وتاريخ نشر العمل لأول مرة، ووجه الشبه والاختلاف، ثم رأي مُفصّل للخبير لأسباب التعدي على الحقوق، والمسؤول عن التعدي، مع بيان قيمة الضرر المالي الواقع على صاحب الحق، وللخبير أن يسمع شهودًا. خلال هذه المرحلة يستطيع القاضي أن يأمر بوقف نشر الأغنية، أو عرضها أو نسخها أو صناعتها، ويمكن أن يوقع الحجز على الأغنية.
في أحد القضايا الشهيرة قام المطرب محمد فوزي برفع قضية ضد أغنية يا مصطفى لبوب عزام، التي جرى نشرها في فرنسا، متهمًا عزام بسرقة لحنه، حيث ندبت المحكمة خبيرًا قام بتقديم رأيه بوجود تعدي على لحن فوزي، وبالفعل أصدرت المحكمة قرارها لصالح فوزي، إلا أنه في الاستئناف تقدم المطرب محمد الكحلاوي للمحكمة وقال أن الاثنين، فوزي وعزام سرقا اللحن، وأن هذا اللحن خاص به، ثم تقدم محمد سيد درويش ليؤكد أن اللحن خاص بوالده، وانتدبت المحكمة خبيرًا موسيقيًا لفحص اللحن والقضية، فأكد الخبير أن زكريا أحمد أيضًا استخدم هذا اللحن مرتين فى أغنيتين، وأن مؤلفًا موسيقيًا آخر اسمه محمد الصبان استخدم نفس اللحن.
يظهر من قضية بوب عزام و دوا ليبا أن إثبات أصالة اللحن هو الأساس في إثبات التعدي على حقوق المؤلف، في نفس الوقت الذي أصبح فيه شبه مستحيل إثبات تلك الأصالة، فطوال الوقت هناك اقتباسات في الألحان، وذاكرة جمعية تربطنا بأغانٍ ومقامات هي الأقرب إلى آذان الملحنين ومن الطبيعي إعادة استخدامها بوعي أو دون وعي؛ وتكون في هذه الحالة جميع الأطراف صادقة. ما يفسر فيديو يوضح ارتجال دوا ليبا لدى تأليفها لحن لِفيتاتينج.
سياسة الاستخدام العادل أسطورة قانونية تمثل ملاذًا آمنًا لكل عشاق إطلاق التصريحات غير القانونية، إذ لا يوجد قانون – على الأقل في المنطقة العربية – يسمح باستخدام ثانية واحدة من عمل فني، ونحن لا ننكر حق الفنان في حماية حقه المالي والأدبي. لكن عند سعي نفس الفنان لاستخدام أجزاء من أعمال فنية أخرى لا يتخيل أنه سيدفع مبلغًا ماليًا إذا استخدم سامبلز، أو مدة لا تتعدى ثواني قليلة، أو استخدم جزءًا بسيطًا في اللحن تكرر في أكثر من عمل فني، خاصة الفنانين المستقلين ومنتجي الأعمال قليلة التكلفة. ما يحدث عمليًا هو محاولات لطمس هوية العمل الفني الأصلي، أو استخدامه وترضية صاحبه إذا أدرك حقه وسعى لأخذه.
وجهة نظري في ذلك أن دور الدولة والمجتمع المدني لا يمكن أن يكون أحد النقيضين، إما تجريم الفنان وحبسه وتغريمه بما لا يطيق، أو ادعاء أن المشاع الإبداعي هو الحل، فلا ينال الفنان حظًا من خلقه وابتكاره. لكن على الدولة والمجتمع المدني كفالة وجود سامبلز مفتوحة المصدر، يحق للجميع استخدامها والعمل بها تجاريًا وكسب الأرباح، وعلى الدولة أن تصدر منصة أو موقعًا تضع فيه الأغاني التي تخطت مدة الحقوق المالية، ودخلت الملكية العامة ووضع مقابل مالي بسيط لها، لدعم الموسيقى.