لماذا لم يمنع هاني شاكر مغنين مثل عمر كمال وسيف مجدي وحودة بندق وعمر الكروان من الغناء في جملة من منعهم؟ لماذا استحقّت مهرجانات هؤلاء عفو النقيب، وربما لاحقًا، مباركته؟
بالتزامن مع انفجار شعبية موسيقى المهرجانات في الشارع المصري، كانت نقابة المهن الموسيقية تعيش حالة من التخبط، إذ تولى المنصب إيمان البحر درويش عقب ثورة يناير، وشهدت حقبته خلافات داخل النقابة بينه وبين الأعضاء الذين أصروا دائمًا أنه يعطل مصالحهم ادعت شيرين أن درويش يحاربها لأنها رفضت المشاركة في حفل أقامته النقابة وقتها اسمه رد الجميل، وكانت تصريحاتها بأن النقابة أصبحت في وضع أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة، بسبب إيمان البحر درويش. رفع الأخير دعوى ضد شيرين، حيث كان يلجأ دائمًا للقضاء للتدخل في حرب التصريحات الإعلانية، ما زاد استياء الفنانين منه وقتها. لكن المشكلة الأساسية التي أنهت أيام إيمان البحر درويش في رئاسة النقابة كانت مع مصطفى كامل. اتهم درويش كامل بأنه فاسد وأراد وقف عمله في النقابة، ورد عليه مصطفى كامل بأنه مختلس. بعد انتهاء المشكلة بأن أصبح مصطفى كامل النقيب مكان درويش، تابع درويش في نفس النهج ورفع دعوى اتهم فيها مصطفى كامل بأنه كان يحمل مسدسًا وأراد قتله، الأمر الذي ثبت عدم صحته. استمر درويش في عمل مشاكل داخل النقابة لفترة طويلة اضطرت مصطفى كامل وهاني شاكر بعده أن يتجنبوا فتح جبهة جديدة ضد المهرجانات والأغاني الشعبية.، لتُسحب الثقة منه، ويُنتخب مصطفى كامل خلفًا له عام ٢٠١٣. ازدادت حدة الانتقادات بين أوساط الفنانين الذين ارتأوا أن هذا المنصب الرفيع، الذي شغلته أم كلثوم في الأربعينيات وتعاقب عليه مجموعة من أعظم الشخصيات في الفن المصري، فضفاض على مغنٍ شعبي مثل مصطفى كامل.
بقي النزاع بين مصطفى كامل وبين إيمان البحر درويش، الذي رفع دعوى بخصوص لا شرعية إبعاده قبل استكمال مدته، قائمًا إلى ما بعد استلام هاني شاكر المنصب عام ٢٠١٥. صدر الحكم لصالح درويش بأحقيته في استكمال مدته القانونية عام ٢٠١٦. بيّن هذا الحكم أن استلام هاني شاكر للمنصب ليس شرعيًا واستمر الجدل، ومع ذلك حافظ شاكر على منصبه حتى اليوم، بل وأعيد انتخابه للمرة الثانية على التوالي عام ٢٠١٩.
سمحت الحروب الداخلية التي شهدتها النقابة، منذ اندلاع الثورة وحتى عام ٢٠١٩، بخلق حالة من الفوضى الفنية؛ فوضى يمكن وصفها بالخلاقة، ليتعاظم في هذه الفترة شأن موسيقى المهرجانات ويكتسح فنانوها السوق المصري، رغم عدم اعتراف النقابة بهم ورغم كل الانتقادات التي طالتهم من “حماة الفن الأصيل”. لا يمكن أن ندعي أن الانتقادات التي وجهت لأغاني المهرجانات لم تكن محقة بالمطلق، لكن المشكلة فيها أنها كانت انتقادات مبنية على أساس طبقي، على الاستخفاف بصناع هذا النوع من الفن واحتقار البيئة التي جاؤوا منها؛ لتساهم هذه المعركة غير المتكافئة، التي شنها أصحاب المكانة المرموقة على المغنيين الشعبيين، بخلق حالة من التعاطف مع موسيقى المهرجانات وممارسيها.
بعد أن استقرت النقابة إثر إعادة انتخاب هاني شاكر نقيبًا لها، وصلت المعركة بين منتجي المهرجانات والنقابة إلى نقطة جديدة، تحولت فيها الانتقادات إلى تهديدات وتوعدات أدت إلى قرارات متشددة وأكثر حزمًا، بالإضافة إلى الضغوطات الإعلامية التي كرست الشعور بالدونية الثقافية، كما في مقابلات حلمي بكر ومواجهاته مع مغني المهرجانات. بالنتيجة بدأ منتجو موسيقى المهرجانات يحاولون إيجاد أساليب جديدة لتدعيم نتاجهم واكتساب نوع من الشرعية.
انقسمت هذه المحاولات إلى مسارين متباينين؛ تمثّل الأول بتجارب تقرّب بين المهرجانات والراب، كالتي قام بها علاء فيفتي. أما الثاني فتمثل في خلق تيار جديد مهادن، يقرب أغاني المهرجانات خطوة من الأغاني السائدة التي تكرسها النقابة، من خلال الاستعانة بشباب يمتلكون خامات صوتية أكثر نعومة ويؤدون مقاطعهم برومانسية مفرطة؛ أبرزهم عمر كمال، ليلعبوا في مهرجانات حسن شاكوش وحمو بيكا وغيرهم بعض المقاطع الناعمة، وتكون هذه المقاطع هي حجر الأساس الذي بني عليه ما يمكن تسميته بالمهرجان الكيوت. أبرز هذه الأغاني بنت الجيران التي أسالت الكثير من الحبر والتعاطف، بعد القرارات القمعية التي اتخذت بحق منتجيها.
في هذه الأثناء بدأ يصعد اسم جديد في إنتاج المهرجانات كان وما زال بعيدًا عن كل الجدل، هو سلطان الشن، شاب سعودي شغوف بالمهرجانات وراغب بأن يكون له نصيب من أرشيفها. بدأت مهرجانات سلطان الشن كغيرها، خشنة وشوارعية ودون قيود مجتمعية، مع حملها دومًا عبارات التمجيد له وللسعودية: “السعودية دي منبع خير / فيها اللي يغلط إيده تطير”، وحتى للخليج: “الخليج أرض الجبابرة”، ودورانها حول الأصحاب الخونة والنفوس الخبيثة.
بدءًا من نجاح وجدل مهرجان بنت الجيران، بدأت تحدث تغييرات كبيرة في إصدارات الشن، فمن “اشرب خمرة وانسى الشاي” إلى “الشيطان عامل ولي / والخير مبقتش اشوفه / خمرة سُكر الناس أبالسة”، ومن “خلق سافرة كافرة عايزة زق” إلى “عيشتوني سنين بكلم في الجدران / أخطاءكم كتير والدفتر مليان”؛ مع بضعة استثناءات من وقت إلى آخر، كما في هشتكة. أيضًا، بدأت محاكاة الشن لنجاح بنت الجيران، كاستخدام لحن بوب رائج في عم عشم مات، ثم الإغراق في الغزل الدبق في كيكة.
لم تقتصر مهادنة الشن على الموسيقى والكلمات، بل بدأ بانتقاء أصوات أكثر رومانسية وقربًا من بوب أنغام وتامر حسني، مثل حودة بندق وعمر الكروان وسيف مجدي – الذي اشتهر بغنائه ابن الشهيد طفلًا، وبحيث يتمتعون بهيئات يحققون بها صورة فتى أحلام المراهقة الكلاسيكي. تتبنى مهرجانات هؤلاء لونًا ناعمًا من موسيقى المهرجانات، لا يعكس طبيعة هذا الفن الشعبي ولا ينسجم مع المعايير الأولى التي ارتسمت، عندما أحدث رواده هزّة بالجودة وأفرزوا بخامات صوتهم وألحانهم وكلماتهم الخشنة فنًا يتعارض مع كل ما كان سائدًا قبله شكلًا ومضمونًا. ميّعت النعومة الكلمات والتوزيع واللحن “سجّلتك ع التليفون هارتي / إنتي نوتيللا بطعم الحب / أيوا زمان كنت اعرف درتي / بدعي يخليكي ليا يا رب”، ورمنست الإطلالات الوسيمة “الخلوقة” صورة أغنية المهرجانات، مع الاستغناء شبه الكامل عن المودلز الإناث في الكليبات.
بالمقارنة بين مغنين من أمثال حسن شاكوش ومجدي شطة وأوكا وأورتيجا من جهة، مع مغنيين مثل عمر الكروان وسيف مجدي وعمر كمال وحودة بندق من جهة أخرى، يتضح وجود خطين متعارضين في موسيقى المهرجانات اليوم، يلتقيان أحيانًا في بعض الإنتاجات الوسطية، كما هو الحال في بنت الجيران.
المشكلة أنه بتتبع مهرجانات معظم هؤلاء ومسيراتهم قبلها يتضح أنهم على الأرجح لا يستسيغون المهرجانات أساسًا، وربما يعتقدون أنهم بتنقيتها من أبرز ميزاتها ينقونها من الدنس. في حالة عمر كمال مثلًا، كان يقتدي بمحمد فؤاد منذ بداياته، لدرجة أنه كان يقدم نفسه لفترة باسم عمر محمد فؤاد. تعود بداية عمر كمال إلى عام ٢٠٠٧ عندما قدم عدة كفرات لأغانٍ رومانسية حزينة، قبل أن ينتج في عام ٢٠١٣ ألبومه الأول كلام ميهمنيش، وبدا الألبوم محاكاةً رديئة لأغاني قدوته. كانت مسيرته غارقة بالفشل، لكنه تمكن من اكتساب عضوية في نقابة المهن الموسيقية حينها.
في عام ٢٠١٤ جرب عمر كمال حظه في أغاني المهرجانات لعله يحقق من خلالها الانتشار، لكن دون جدوى؛ ليعود إلى خطه الأول بألبوم حاجة صعبة في العام التالي. في جميع هذه التجارب، لم تتخطَّ عدد الاستماعات لأغاني عمر كمال حاجز الخمسة آلاف، قبل أن يصل إلى ضربة الحظ التي انتشلته من القاع إلى النجومية بشراكته مع حسن شاكوش في بنت الجيران. سجلت الأغنية أرقامًا قياسية بعدد الاستماعات، وكان لها دورٌ كبير في اكتساب المهرجانات جرعة جديدة من التعاطف المحلي والعربي، كما كان لها دور في التأسيس لنمط أغاني المهرجانات الكيوت، من خلال المقاطع التي قدم عمر كمال فيها كلمات خفيفة برومانسية مغرقة بالميوعة، والتي كانت تتباين بشكل واضح مع المقاطع الخشنة التي يصرخ بها حسن شاكوش. أثارت مقاطع شاكوش حفيظة النقيب هاني شاكر، ليصدر قراراته التعسفية التي جاء في جملتها إلغاء عضوية عمر كمال في النقابة.
إلا أن العقوبات الجماعية لم تكن سوى حالة مؤقتة، تم تعديلها مؤخرًا بما يتوافق مع العقلية النمطية لحماة الفن الأصيل؛ حيث أعيدت عضوية عمر كمال في نقابة الفنانين وصدر قرار بسحب ترخيص الغناء من حسن شاكوش؛ لتوحي هذه القرارات أن نقابة المهن الموسيقية بدورها تخطو خطوة لاحتضان الخط الجديد المهاود في المهرجانات، ولتشير إلى أن المهرجانات الكيوت التي بدأت تتجلى بصورة واضحة ومستقلة مع أمثال عمر الكروان وسيف مجدي ليست في مرمى سهامهم.
إذا ما كانت أغاني المهرجانات التي شارك فيها عمر كمال تحافظ على جزء من خشونة أغاني المهرجانات الشعبية ولا تفقد جميع خصالها كلماتًا ولحنًا وتوزيعًا؛ فإن هذه الملامح جميعها تختفي تمامًا مع أغاني عمر الكروان وسيف مجدي، اللذان شكلا ثنائيًا فنيًا وأنتجا خلال عام أكثر من عشرة مهرجانات كيوت، ساروا فيها على طريق اقتباس ألحان البوب. في أغاني الثنائي تضرب الرومانسية أطنابها وتضبط كل الأصوات في المقامات البسيطة وتمسح عن اللغة كل المفردات الإشكالية.