اشتعلت مشاهد الروك الفرعية مطلع العام الماضي بالألبوم الأول لفرقة بلاك كَنتري، نيو رود، وسارع الكثير من المستمعين والنقّاد لوصفه بأنه ألبوم كلاسيكي وبحجز مكانه في قوائم أفضل ألبومات الروك لـ ٢٠٢١. وسط ذلك الاحتفاء تقدمت إلى الواجهة تكهنات حول مستقبل الفرقة، سادها شيء من التشاؤم وترجيح اختفائهم لبضعة أعوام، كما حصل في السابق بعد إصدارهم أغنيتي آثينز، فرانس وسن جلاسز المنفردتين في ٢٠١٩. فاجأت الفرقة الجميع بإصدار أولى الأغاني منفردة من ألبومهم القادم في تشرين الأول / أكتوبر الماضي والإعلان عن ميعاده في شباط / فبراير ٢٠٢٢.
تسود النقاشات حول الألبوم عبارة “فعلوها مجددًا”، متنبئة بمكانة مرتفعة للألبوم في قوائم الروك للعام الثاني على التوالي؛ وليست هذه مبالغة.
للوهلة الأولى يبدو وكأن الألبوم أخذ منحًى مختلفًا تمامًا عن سابقه؛ حيث تقفز في مقدمة الألبوم الآلاتية النفخيات والوتريات الناعمة، ممهدة لألبوم أكثر دفءًا ومرحًا. يحافظ الألبوم على العناصر التي ميزت أول أعمال الفرقة: الصوت المركب الكثيف الذي تتداخل فيه الآلات مع بعضها البعض، والذي مازال يذكرنا بأعمال البوست روك، بالإضافة إلى غناء أيزاك وود الأقرب إلى إلقاء الشعر المعاصر من الغناء في كثير من الأحيان، وتأثير الجاز الحر الذي يبرز في النصف الثاني من الألبوم. لكن يتضح اختلاف المشاعر التي حفزت كتابة هذا الألبوم.
بعد تراك المقدمة، تفتتح الألبوم أغنية كايوس سبيس مارين، ليبدأ الحديث عن أحد أشهر ألعاب التمثيل، Warhammer 40K، حيث يتناول أيزاك وود صورة من صور الهروب من الواقع، لاعبًا دور شخصية محارب من الفضاء في درع معدني. لكن رغم هروبه من واقعه لا ينفك يذكر علاقته التي يهرب منها:
“Oh, I’m a chaos space marine \ So what, I love you \ Darling, will you take my metal hand \ It’s cold.”
تفشل محاولاته في الهرب ويظل يدور في دوامة علاقة مرهقة لتصبح محور الألبوم. يشبّه أيزاك حبه بالطائرة الكونكورد في الأغنية التالية؛ الصورة التي يزورها مرارًا على مدار الألبوم. حينها نفهم معنى اسم الألبوم، حين يتحدث عن الركض إلى قمم الجبال لخطف لمحة من طائرته المفضلة، وعن كونه وكون عالمه ضئيلًا مثل النمل من ارتفاعها الشاهق. في مقابل ثقة الآلات التي تتطور بمرور الأغنية وتزداد عفوية، يرتعش صوت أيزاك حين يتحدث عن مقابلة أخيرة لحبيبته على طاولة عشاء.
قد تكون أنسب طريقة لوصف صوت أيزاك هي أنه “صوت بريطاني فج”. يتبادر ذلك للذهن عند سماع الباريتون وحس الدعابة البريطاني الجاف والمميز، والذي تزيده الرعشة عفوية وصدقًًا.
نشهد في بريد سونج لمحة من الحالة التي خلقت الألبوم القديم، شيء من التردد يظهر في صوته المرتعش وإلقائه النثري المباشر في النصف الأول من الأغنية. ثم ينقلب المشهد إلى حالة من بهجة الموسيقى رغم غناء أيزاك عن عدم تقبل حبيبته لعيوبه، ومحاولاته المستميتة للحصول على شيء من الحميمية حين يبدي مواطن ضعفه.
يستمر الألبوم على هذا المنوال، مشهدًا تلو الآخر من تلك العلاقة التي استنزفت أيزاك، ما بين ملامح الجمال المعذب حين يصف حبيبته وبين واقعية الحديث عن تلك العيوب وتلك الهشاشة، دون شائبة ملل؛ إذ يشحن الألبوم ديناميكية تركيب الأغاني وتوزيعها.
تتحرك الآلات ما بين المقدمة والخلفية لتتبادل أدوار البطولة والأدوار الداعمة. تسيطر الوتريات في الأغاني الأولى، ثم تتقدم الدرَمز في المزج ليصبح الإيقاع أكثر وضوحًا، يكاد يحجب الغناء في آخر أغنيات الألبوم. ثم تعود عناصر الجاز للهيمنة على النصف الثاني من الألبوم بعد أغنية ماركز ثيم الآلاتية والتي تهيئ المستمع لذلك التغيير بتخليها عن الغناء واعتمادها بنية تقليلية. كما تركت الفرقة الاضطراب والتخبط المتمثل في ضجيج النحاسيات المفاجئ وغير المنتظم والجيتارات المشوهة، نحو صوت أقرب إلى البالاد (ballad).
إن كان صوت الساكسوفون هو علامة الألبوم السابق المميزة، يتميز هذا الألبوم بأصوات الوتريات واليوكليلي المبتهجة والجيتارات النظيفة، مع بعض السنثات الدافئة.
النصف الثاني من الألبوم هو الأكثر مغامرة في سياق أعمال الفرقة في المجمل. الأغاني الثلاثة الأخيرة بطول السبعة الأولى، لكن فيها من الديناميكية ما يضاهي أعمال الفرقة كلها، ما بين صوت البالاد روك القوي في ذَ بليس وير هي إنسرتد ذَ بليد الذي يذكرنا بأقوى أعمال أركيد فاير، إلى تأثير البروج وبوست روك التسعينيات في باسكت بول شوز.
أثبتت الفرقة أن نجاحهم الأول لم يكن ضربة حظ، ويسعنا القول أننا نشهد مولد أحد أهم فرق الروك المعاصرة. لكن مع الأسف قبل صدور الألبوم بأربعة أيام، أعلنت الفرقة عبر تويتر أن أيزاك وود سيتركها لأسباب تتعلق بصحته النفسية. كما اعتذرت الفرقة عن عروضها الحية المرتقبة وأعلنوا امتناعهم عن تأدية الأغاني التي شارك فيها أيزاك احترامًا لرغبته، وأكدوا على أن الفرقة لن تنفصل وأنهم سيستمرون بدونه، وقد بدأوا بالفعل في تجهيز أعمالهم القادمة.
نجد الفرقة في مفترق طرق، ويبدو من المستحيل فصل أيزاك وود عن المستقبل الذي تخيلناه للفرقة. ربما يتقدم أحد أفراد الفرقة ليسد هذه الفجوة. ربما يشارك جيوردي جريب، عازف جيتار ومغني فرقة بلاك ميدي، في الأعمال القادمة. هو مجرد تكهن، لكن ما بين العلاقة الوطيدة بين الفرقتين اللتين لعبتا سويًا تحت مسمى بلاك ميدي، نيو رود سابقًا، وبين طرح جيوردي احتمالية التعاون في مقابلة سابقة، لا يبدو هذا التكهن بعيدًا.