وجدتُ مصدرًا ممتازًا للموسيقى الجديدة الربيع الماضي خلال فترة الحجر الصحّي: سلسلة واتس إن ماي باج؟ التي أصدرتها أميبا ريكوردز. جذبتني السلسلة إلى تشكيلة واسعة من الفنانين والجانرات والمشاهد التي غفلت عنها أو لم أطّلِع عليها من قبل، مثل تروبيكاليا أو تروبيكاليسمو؛ حركة فنية قصيرة العمر بالغة التأثير صعدت في برازيل الستينيات. استمرت أغاني الحركة في الظهور ضمن اختيارات الفنانين على مدار السلسلة.
تلخّصت معرفتي بالموسيقى البرازيلية قبل ذلك في آمون توبين، ورقص البرازيليين على السامبا، والبوسا نوفا كجانرا يُمكن استخدامها في ريميكسات المنتجعات وأماكن الاسترخاء. أعتقد أن هذا هو الحال عند أغلبية غير الناطقين بالبرتغالية والجنوب أمريكيين. أمرٌ مُفاجِئ كون البرازيل صاحبة سادس أكبر تعداد سكاني في العالم، وكون صورتها لطالما ترافقت في أذهان الناس مع الخيالات الرومانسية والنابضة بالحياة.
تعتبر تروبيكاليا من أقصر الحركات الفنية المؤثرة عمرًا، إذ استمرت لأقل من عام. ولدت تروبيكاليا عام ١٩٦٧ في باهيا شمال شرقيّ البرازيل، وشملت موسيقيين وشعراء وصانعي أفلام وكُتّابًا مسرحيين، ممن لم يرتاحوا لأيٍّ من الطيفين السياسيَّين: اليمين العسكري متطرف القوميّة الذي أفرزته فترة ما بعد الإنقلاب، واليسار المتثاقف.
بحسب الموسيقي والملحّن توم زي – أحد روّاد حركة تروبيكاليا: “كان هنالك ثلاثة أنواع من الأشخاص: من على اليمين، ومن على اليسار، وأولئك الذين انغمسوا في الجماليات والفضول وحسّ الابتكار.”
دفعهم انتصارهم للفضول والابتكار إلى أن يتطوروا ويتجاوزوا البوسا نوفا، دون الحاجة إلى تقليد الروك آند رول الأمريكي، كما فعل آخرون مثل روبرتو كارلوس في جوفيم جاردا وقتها. سعى التروبيكاليون، مستلهمين من بيان أنتروبوفاجو مانيفستو لـ أوسوَلد دي أندريد [ناقش أندريد في المانيفستو فكرة أن أكبر نقاط قوة الثقافة البرازيلية تكمن في قدرتها على التهام وهضم الطيف الواسع من التأثيرات والثقافات التي شكّلتها، مثل الإفريقية والكاريبية والأوروبية.]، إلى التهام الموسيقى القادمة من أمريكا والمملكة المتحدة، تحديدًا روك البيتلز السايكدلي، ودمجها مع أصوات وآلات برازيلية.
تبنى التروبيكاليون الجيتارات الكهربائية وبدّالات الفَز، في بلد تظاهر فيه الناس، واليسار بشكل رئيسي، ضد استخدام آلات كهذه في الموسيقى، لارتباطها المباشر بالنظم الإمبريالية التي سعت إلى استبدال التراث البرازيلي. أخفى التروبيكاليون أيضًا المعاني الثورية والمناهضة للحكم العسكري داخل كلماتهم، عبر تبنّي الشعر الملموس والتعاون مع شعراء مثل توركاتو نيتو وكابينان، في الوقت الذي كان لا بد فيه من موافقة الرقابة على كل أغنية قبل تسجيلها أو أدائها. لقد ابتدعوا موسيقى نابضة ومبتكرة، غنيّة بالمعاني وفريدة بالكامل.
قاد المشهد المغنّيان وكاتبَي الأغاني جيلبرتو جيل وكايتانو فيلوسو، إلى جانب الملحّن روجِريو دوبرات – أو كما يشار إليه: جورج مارتن التروبيكاليا، وفرقة هاوس التروبيكاليا أوس موتانتيس والموسيقيين البارزَين توم زي وجال كوستا. صنع هؤلاء موسيقى تمزج الروك والسايكدلك والبوسا نوفا والسامبا والرومبا والبوليرو والباياو. أطلقوا رؤيتهم إلى العالم عام ١٩٦٨ على شكل ألبوم تجميعي، تروبيكاليا: أو بانيس إي سيركنسيس، من توزيع دوبرات وكلمات كتب معظمها جيل وفيلوسو، وبتعاونات مع جميع روّاد الحركة، تناوبوا فيها على الكتابة والأداء. حدد الألبوم بوضوح التطلعات الصوتية، وجمع أفضل لحظات الحركة التروبيكاليسمية.
تبدو أغنية بايبي لـ جال كوستا، بالوتريات الجارفة وسطر البايس المتحوّر والأداء الصوتي المهيب، كأفضل ما يمكن أن تكونه أي أغنية بوب؛ وما زالت بديعةً حتى اليوم. تقفز أغنية جيل الافتتاحية ميزِريري نوبيس بين سرعات الإيقاع والموازين والآلات، متنقلةً من فواصل الجاز المرحة إلى الجيتارات المحمومة، في حين تغطّي أصوات الكورس مساحة صوتية شاسعة في أقل من أربع دقائق. على كل حال، يتصدر تراك أوس موتانتيس، بالإيقاع المتسارع والترومبِت المنطلق بحرية غازلًا خيوطه حول كل شيء. يوجد تأثر واضح بـ البيتلز باستخدامهم الميلوترون، أمّا تفجّر الأصوات والطاقة في خاتمة الألبوم فمن إبداعهم بالكامل.
قد يكون ألبوم ١٩٦٨ لـ فيلوسو، وألبوم جيل الذي حمل إسمه، أول ما يُذكر لدى الحديث عن تروبيكاليا، إلا أن أوس موتانتيس كانوا هم من قدّموا للحركة ألبومها الأكثر اكتمالًا وتقدميةً، والذي صدر في ذات العام وحمل اسمهم أيضًا. يجمع الألبوم بين السرف جيتار، والنغمات الضخمة المشوّهة بالفَز، والتسجيلات الميدانية والعينات الصوتية والأنغام الغنائية الغريبة. تُعدّ تراكات مثل أ مينها مينينا وسِنهور إف أفضل أمثلة على ذلك. تضمّن الألبوم أيضًا نسخة الفرقة الخاصة من الأغنية المذكورة سابقًا، بايبي؛ لتلحق التقليد المتبّع بين أعضاء الحركة في تقديم استعادات مختلفة من أعمال بعضهم.
أتت استعادة أخرى للأغنية كمُجاملة من دوبرات نفسه في ألبومه المنفرد، أ باندا تروبيكاليستا دو دوبرات، الذي لخّص صوته المرتكز على دمج توزيعات أوركسترالية مع توزيعات روك وسايكدليا، لتحقيق أثر ملفت. دمج توم زي أيضًا في جراندي لِكويداكاو السايكدليا والكلاسيكية، إلا أنه أضاف زاويةً درامية إلى كل شيء؛ عنصر أقرب إلى الموسيقى التصويرية. أطلقت الفرقة التي عملت مع زي في ألبوم أوز برازويس ألبوم سايك بوب قوي، احتوى على أغنية تاو لونج دي ميم التي تعيد إلى الأذهان موسيقى فرقة الإندي المعاصرة ذَ شينز. يمكن سماع نسخة برازيلية أكثر تقليدية للتروبيكاليا في موسيقى جورج بين ونارا ليو، مع تقاطعات أكبر مع البوسا والسامبا.
توقّف كل شيءٍ فجأة نهاية ١٩٦٩. تمادت الحكومة البرازيلية إلى حد سجن ونفي فيلوسو وجيل. أُعلن موت التروبيكاليا كحركة، لكن استمر أبطالها في صناعة الموسيقى؛ وبعضهم حتى اليوم. عكست الحركة الثقافة البرازيلية، الوعاء الذي مزج بين الإثنيات المتعددة والثقافات والألوان التي جعلتها فريدة؛ وقُدِّمت للبرازيل وسط حالة اضطراب. طوّرت التروبيكاليا المشهد الموسيقي للبلاد، وقدّمت أصواتًا جديدة جرى تبنّيها لاحقًا من الموسيقيين؛ كما تركت أثرًا دائمًا على البوب البرازيلي.
خارج البرازيل، تحظى هذه الموسيقى بجيش من المعجبين من الفنانين والفِرق. كان كيرت كوبين معجبًا بموسيقى أوس موتانتيس، ودعاهم إلى جولة مع نيرفانا. غنّى بيك أغنيته المستلهمة من البوسا نوفا ميوتايشن تقديرًا (Tribute) للفرقة، وأشار باندا بير إلى الملحّن كايتانو فيلوسو كأحد ملهمي ألبومه بيرسون پيتش. أما دايفيد بيرن فأعاد طباعة ألبومات أوس موتانتيس، بالإضافة إلى تجميعة ﻷفضل أعمال توم زي. كما لعِب شون لينون، مع آرنالدو بابتيستا من فرقة موتانتيس في مهرجان روك إن ريو.
ما زالت الألبومات التجميعية التي تستكشف إمكانيات التروبيكاليا مستمرة، في حرص على أن يعيش إرث تلك الفترة ويصل جماهيرًا جديدة. قد يكون مجرد عام واحد فقط عاشت فيه الحركة، لكن أثرها كان عميقًا وواسعًا، على الفنانين قبل المستمعين.