منذ بداية الألفيّة الجديدة أصبح مصطلح “الموسيقى المستقلة” متداولًا في الأوساط الثقافية بمصر ومحط اهتمام الفئة العازفة عن الموسيقى الجماهيرية. وبعد مرور ما يقرب من أربعة عشر عامًا على انتشار ذلك المصطلح ما زال حتى الآن غير واضح المعالم والتعريف، فإذا قمنا بسؤال عينة عشوائية مكونة عشرة أشخاص من المهتمين بهذا الاتجاه الموسيقى “ما هى الموسيقى المستقلة؟” لتباينت الآراء، وذلك نظرًا لأن التجربة حديثة نسبيًا بمصر، وإن وجدت على نطاق ضيق في الماضي. لذلك من الواجب البحث عن أصل الموضوع ونشأته في بلدان أخرى ذات مشهد مستقل متأصل حتى نقوم بتكوين فكرة عن مشهد الموسيقى المستقلة بصفة عامةً ومدى جديته في مصر وإسهامه وتناقضاته، لنصل في النهاية إلى السؤال الأهم وهو: هل هناك جدوى من وجود هذا المسمّى؟
نشأة الموسيقى المستقلة كنتاج لثقافة فرعية
المقصود بهذا الاستقلال هو الاستقلال عن الموسيقى السائدة (mainstream) أو الجماهيرية. في النموذج الأوروبي الغربي والأمريكي هناك ثقافة جماهيرية تقتاد جمهورها وفي المقابل ينشأ خط ثقافي موازٍ لها يطلق عليه ثقافة فرعية (subculture). بذلك تصبح الموسيقى المستقلة نتاج طبيعي للثقافة الفرعية ذات الطابع الخاص في الشكل والملبس وأسلوب الحياة والفكر والفن والمفرادات المنتشرة بين أفرادها. وكنتيجة مباشرة لتلك الثقافة يعتمد الفنانون المستقلون على آليات مختلفة وبديلة عن الآليات التقليدية التابعة للخط السائد للدولة ورجال الأعمال وشركات التسجيل والإنتاج (Record Labels) الضخمة من حيث الإنتاج والتوزيع والدعاية وأماكن العروض الحيّة. يكون الإنتاج المستقل منخفض التكاليف وبمجهودات ذاتية (DIY) من خلال شركات تسجيل صغيرة، أما الدعاية ووسائل الإنتشار فتبعد عن الإعلانات الجماهيرية الضخمة لتحتفظ الموسيقى المستقلة بخصوصيتها. ومن الأمثلة على تلك التجارب: موسيقى البانك روك التي كانت بمثابة التجربة المستقلة الأكثر راديكالية في السبعينيات، ومشهد موسيقى الجوثيك والريف والأسيد والمادشستر بإنجلترا، وفنانو اللا موجة والهيب هوب والانداستريال روك والجرانج في بداياتهما بالولايات المتحدة.
فريق Sonic Youth، أحد فرق الموجة المستقلة في الثمانينيات
فريق Happy Mondays أحد فرق موجة المادشستر بإنجلترا
تفكك المفهوم
منذ بداية التسعينيات بدأ مفهوم الموسيقى المستقلة في التفكك بعد احتواء شركات الإنتاج الضخمة وهى الآن: يونيفرسل ميوزك، وورنر ميوزك وسوني ميوزك، بعد دمج الشركات الست الكبرى في ثلاث شركات لموسيقى الغرانج منذ تجربة فريق نيرفانا في ألبوم (Nevermind). تخلت الفرق الناتجة عن ثقافات فرعية عن كونها مستقلة وطال هذا التخلي فرق البريت روك (Brit-Rock) بإنجلترا مثل فرق Oasis, Blur, Suede, Pulp وإن بقيت بعض الفرق مستقلة جزئيًا واعتمدت على الشركات الضخمة فقط في عملية التوزيع أو على شركات تسجيل صغيرة تم شراؤها جزئيًا من شركات ضخمة. وبذلك تحولت الموسيقى المستقلة إلى أحد أنواع (genre) الموسيقى السائدة رغم اختلافها. ولكن سرعان ما ذاب هذا الاختلاف بعد انتشار نوعها الموسيقي بين الجماهير والفرق الصاعدة واستخدامها من قبل شركات الإنتاج الضخم وانتشارها في أماكن العروض الحية الأكثر شيوعًا.
لا تزال هناك في أوروبا وأميركا نماذج إنتاج مستقل ولكنها أصبحت غير مرتبطة بالثقافة الفرعيّة، ويمكن الاستدلال عليها من خلال بعض فرق وشركات تسجيل وإنتاج ما يطلق عليه موسيقى البوست الروك. ولكن من الواضح حدوث تفكك للمفهوم ولم يعد الاستقلال الموسيقي حكراً على الثقافات الفرعيّة، بل أصبح مجرّد اختيار الفريق أو الفنان لآليّة الإنتاج بغض النظر عن المنتج. بالإضافة إلى ذلك هناك الكثير من الموسيقى التي يمكن اعتبارها “مختلفة” عن الموسيقى السائدة ولكن يتم إنتاجها والدعاية لها من خلال الشركات الضخمة، وعادة ما تكون الفرق غير معنيّة باستقلاليّتها أو شيوعها أو حصريّتها لفئة صغيرة من الجمهور أو خضوعها لأي تصنيف.
فريق Nirvana أهم فرق الجرانج
فريق Blur وأغنية For Tomorrow
مشهد الموسيقى المستقلّة في مصر
انتشر المصطلح في مصر في بداية الألفيّة الجديدة بفضل ظهور مساحات ومؤسسات ترعى الفرق والفنانين المستقلين مثل: مؤسسة المورد الثقافي وغيرها. ومنذ ظهوره في مصر، لم يقترن المصطلح بأية ثقافة فرعيّة (حيث إنها شبه منعدمة منذ الماضي وحتى الآن) وهو ما انتهت إليه الموسيقى المستقلة بالخارج. وذلك باستثناء فرق موسيقى المهرجانات التي يمكن اعتبارها مزيجاً من الثقافة الشعبيّة والفرعيّة، والتي اعتمدت في بداياتها على الإنتاج المستقل ثم سرعان ما تحولت إلى فرق جماهيريّة بعد احتوائها من المنتجين الكبار وشيوع موسيقاهم. ليس من الواضح إذا ما كنّا بصدّد العبور بنفس التحوّلات التي طالت الإنتاج الموسيقي وارتباطه بالثقافة الفرعيّة في أوروبا وأميركا في السبعينيّات، أم أننا قد تعدينا مرحلة لم نمر بها من الأساس.
ظهر الكثير من الفرق المستقلة فعليًا مثل وسط البلد، ورسالة، ومسار إجباري، ونغم مصري، وكايروكي، وفرق أخرى من الوطن العربي تمت استضافتها مؤخرًا بمصر. بداية هذه الفرق كانت مستقلة من حيث وسائل الإنتاج والدعاية والانتشار وأماكن العروض الحيّة. أما القالب الموسيقى فيتكون من موسيقى غربيّة أساسها موسيقى الروك بآلاتها الغربيّة مع وجود بعض الآلات الشرقية، ويصاحبها غناء كلمات من التراث أو لشعراء معاصرين بالعامية بخليط من طريقة الغناء الغربي والشرقي. لقيت هذه الموسيقى الاهتمام بسبب اختلافها عن القالب الموسيقى الشائع لمغنيين مثل أليسا، هيفاء، شيرين، تامر حسني، عمرو دياب وغيرهم.
احتواء الموسيقى المستقلة من قِبَل التيار السائد
لم يستمر الأمر على ذلك الخط وسرعان ما انفتح الطريق التجاري للكثير من هذه الفرق. يظهر ذلك من خلال رعاية شركتي كوكا كولا وبيبسي لفريقي كايروكي ووسط البلد، ومشاركة هؤلاء وغيرهم في إعلانات لشركات استهلاكيّة ضخمة ليتم بالتبعية الترويج للفريق كسلعة هو الآخر. ذلك علاوة على الاعتماد على منافذ بيع ضخمة مثل فيرجن ميغاستورز وغيرها. ولعل مشاركة هذه الفرق المصريّة والعربيّة (مثل فريق مشروع ليلى وأتوستراد) في برنامج “البرنامج” لمقدّمه باسم يوسف على قناة أون تي في ثم على إم بي سي خير مثال على انتشار هذه الفرق في المساحات التجاريّة التي تستضيف في نفس الوقت برنامج لفيفي عبده وهشام عباس وبرامج منوعات وبرامج حواريّة جماهيريّة أخرى. بالإضافة إلى مشاركة الفرق في فعاليّات لشركات استهلاكيّة مثل: مشاركة وسط البلد وكايروكي في إحدى فعاليّات Red Bull وفريق مسار إجباري وفرق أخرى في فاعلية لشركة بيبسي واستضافة فريق مشروع ليلى ببورتو كايرو مول المملوك لشركات عامر غروب. كل ما ذُكر هو نفس الآليّات التي يستخدمها الفنان أو الفريق التجاري للانتشار والربح، وهكذا ليس هناك أى تميّز أو اختلاف إلا نوع الموسيقى المقدّمة. من هنا يمكن تبيّن أن الاستقلال الموسيقى بمثابة مرحلة انتقاليّة أو اختيار مؤقت للصعود إلى الوسط الجماهيري وتحوّل موسيقى الفنان إلى موسيقى شائعة، مع وجود استثناءات. وهذا يفسر مشاركة الكثير من الفرق والفنانين في عروض حيّة بأماكن مملوكة لبيروقراطيّة الدولة مثل مكتبة الإسكندريّة أو دار الأوبرا أو غيرها من الأماكن المملوكة لوزارة الثقافة، وإن كانت حجة بعض الفرق أن هذه الأماكن ملك “للجمهور” وليس للدولة. ومع ذلك فالكثير من هذه الفرق وجمهورها يستمر في التمسك بتصنيفها كفرق “مستقلة” فقط بسبب اختلافها من حيث النوع والطابع عن الموسيقى السائدة. لكن هذا الاختلاف ظاهري وسرعان ما يتلاشى بعد احتوائه داخل المنظومة التجاريّة ليصبح إحدى أشكال الموسيقى السائدة. فإن الإختلاف الموسيقي وحده هو لون أو تصنيف موسيقى (genre) وكون الفنان يقدم موسيقى مختلفة لا يعني أنه مستقل، وإلا صح اعتبار محمد منير مستقلًا وهو ما ليس حقيقي.
مشاركة دينا الوديدي في أحد العروض الحية بمكتبة الإسكندرية
التمسّك بالتصنيف المستقل
ليس هناك حرج أو عيب في تخلي الفريق عن استقلاليّته واتباعه نفس الآليّات التجاريّة كليًا أو جزئيًا، ولكن من الغريب أن يتمسك بتصنيف مائع وفضفاض ويحتوي على الكثير من التناقضات. وغالبًا ما تتمسّك الفرق بذلك التصنيف لضمان نفس قاعدتها الجماهيريّة، ومن ناحية أخرى يتمسك البعض من جمهور الموسيقى المستقلة بذلك المسمى لما يضفيه من اختلاف وتميّز وحصريّة عن كل ما هو شائع وتجاري، ما يعزّز من خصوصيّة المتلقي وانفراد ذوقه وشخصيّته. نتيجة لذلك، يسعى البعض إلى التعرف على فرق “مستقلة” جديدة غير منتشرة وغير متعارف عليها وينصرف عن الفرق القديمة التي أصبحت أكثر انتشارًا، رغم أن أى فريق يسعى للانتشار وهذا لا يعيبه في شيء. وفي ظل هذا التصنيف والجدل الدائر حوله قد يتغاضى الجمهور عن المعيار الحقيقي لتقييم العمل الفني وهو أصالته وإبداعه وجودته.
يفسر البعض اعتماد الفرق على نفس الآليّات الإنتاجيّة والدعائيّة التقليديّة، ويبرّره على أنه سعى “لنشر الثقافة المستقلة“. لكن ذلك المفهوم في حد ذاته متناقض، إذ أن نشر “الموسيقى المستقلة” بنفس الوسائل التجارية يجعلها فنًا جماهيريًا موازيًا. وبذلك يغفل صاحب هذا المفهوم عن عملية احتواء الموسيقى السائدة للـ“موسيقى المستقلة“، حيث يتلاشى تدريجيًا هذا الاستقلال حين تصبح الموسيقى واسعة الانتشار بين الأغلبية الجماهيريّة، وذلك ما حدث بالفعل لموسيقى الغرانج في بداية التسعينيّات بأميركا. وهكذا فإن التطور الحتمي “للموسيقى المستقلة” هو أن تصب في الموسيقى الجماهيريّة وهذا ليس عيباً، إلا إذا تعلّق الفريق بالمفهوم الراديكالي للاستقلال الموسيقي.
فريق كايروكي وإعلانات كوكا كولا
مشاركة وسط البلد في فيلم عودة الندلة
ما يطلبه الجمهور
بعد رصد التناقض السابق نجد تناقضًا آخر: وهو علاقة شركات الإنتاج والمساحات المستقلة وغير مستقلة بالجماهير وذوقهم السائد، ولعل أفضل مثال على ذلك هو موسيقى المهرجانات. انتشرت الموسيقى الشعبيّة وموسيقى المهرجانات في بداية الأمر في دوائرها ومجتمعاتها الخاصة محتفظة بكامل استقلالها، ثم سرعان ما انتشرت في المدن وعلى المنتديات الإلكترونيّة ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن ثم تهافتت شركات الإنتاج الكبيرة على فنانيها وتم استخدامهم في الأفلام والإعلانات واحتوائهم كنتيجة طبيعية لاهتمام الجمهور بهم. ولكن من ناحية أخرى، تهافتت عليهم أيضًا المؤسسات المستقلة مثل المورد الثقافي في حفلاته بمسرح الجنينة وشركة ١٠٠ نسخة ومهرجان دي كاف وتم الترويج لهم كمنتج ومزيج شعبي/ ثقافي يقدّم حسب رغبة جمهور هذه الأماكن. وفي هاذين المثالين، تتضّح عملية الترويج لهذه الفرق كسلعة للجمهور، فلا يوجد فارق بين المحتوى الذي تقدمه الكيانات الجماهيرية والكيانات المستقلة والهدف أصبح واحدًا، مع الأخذ في الاعتبار أن فناني المهرجانات غير معنيين بكونهم تجاريين أم مستقلين. يتكرر نفس المنطق في التعامل مع الفرق المستقلة الأخرى، فجمهور الموسيقى الجماهيريّة أصبح بفضل مواقع التواصل يطلب مشاهدة “فرق مستقلة“، ولذلك تسعى الكيانات التجاريّة لاحتوائها وتقديمها لجمهورها، بينما تقوم الكيانات “المستقلة” بنفس الشيء. ذلك سيقودنا في النهاية إلى انصهار الجمهورين في بوتقة واحدة، وبذلك يتحلل مفهوم “الموسيقى المستقلة” تدريجيًا، ويساهم الإنترنت في ذلك بعد لجوء الفرق المستقلة والشائعة في الخارج والداخل إليه كوسيلة للانتاج والدعاية.
جزء من حفلة أوكا وأورتيجا بمسرح الجنينة
أغنية من فيلم عبده موتة (إنتاج السبكي) لأوكا وأورتيجا
تقمص دور الشركات التجارية
رغم وجود الإنترنت كوسيلة للتعرف على الفرق والفنانين، تمارس شركات الإنتاج والتسجيل المستقلة وكيان مثل مؤسسة المورد الثقافي (اللذان يقومان بدور فعّال في رعاية “الفرق المستقلة“) نفس الدور الذي تلعبه الشركات التجاريّة؛ وهو كما ذكرنا تقديم ما يريده الجمهور، بالإضافة إلى امتلاك ختم جودة الفرق الجديدة. فيصبح هم الفريق هو المشاركة في فعاليّات ومهرجانات تلك الأماكن والعروض الحيّة بها أو التعاقد معها، وهي التي من المفترض أنها تفتح أبوابها للجميع، وذلك ليكتسب ثقة ومصداقيّة الجمهور الذي قد يقيّمه على ذلك الأساس. وبذلك تنشأ علاقة معقدة بين هذه الشركات والأماكن والفرق والجمهور مثل ما يحدث في الوسط التجاري. يرجع ذلك إلى قلة هذه المساحات بمصر بسبب احتكار أو انفراد هذه المؤسسات والشركات بمشهد الموسيقى المستقلة، أو امتلاك كيان واحد ضخم لهذه المساحات مثل شركة الإسماعيليّة بمنطقة وسط البلد (القاهرة)، وعدم ظهور كيانات أخرى بمناطق ومحافظات مختلفة تقوم بنفس الدور. وإن كانت هناك مجهودات صغيرة من قبل بعض الكيانات مثل مهرجان “حل بديل” الذي أقيم العام الماضي بتاون هاوس أو فعاليّات “الفن ميدان“، ووجود بعض الأماكن الصغيرة التي تسعى لكسر هذا الاحتكار وفتح المجال.
عملية التنميط
بعد الحديث عن عملية احتواء الموسيقى المستقلة من قبل الكيانات التجاريّة والجماهيريّة، يأتي الحديث عن عملية تنميط الموسيقى المستقلة. نسبة كبيرة من الموسيقى التجارية بطبعها منمّطة وخاضعة لقوالب موسيقية واحدة بصرف النظر عن الفنان الذي يقوم بالغناء. ومع مرور الوقت وكثرة الفرق المستقلة من الممكن ملاحظة أن موسيقاها وقعت أسيرة لنفس عملية التنميط. فإذا قمنا بحذف صوت المغني من الكثير من أعمال هذه الفرق يتّضح هذا النمط الواضح الخالي من التنوّع وإن وجدت فروق طفيفة. وذلك يوضح أننا بصدد قالب موسيقي واحد ذي صوت وخصائص واحدة بغض النظر عن الغناء. أما من حيث الكلمات فهي تتشابه في المواضيع التي تمس المستمع وتتواصل معه والتي يغلب عليها صفة التمرّد، وهذا ما يفسر انجذاب بعض الجمهور لهذا النوع من الموسيقى. لكن هذا تعميم لا يسري على بعض الأعمال المتفردة من ناحية القالب مثل أعمال كميليا جبران وفريق الألف وغيرهم. يمكننا القول إذن إنه هناك قالب شائع داخل “الموسيقى المستقلة” ولكن صوت المغني هو العامل الذي يميزها عن بعضها، وهو نفس الشيء الحاصل بالموسيقى التجاريّة.
التجرّد من التصنيف
في نهاية الأمر ينبغي أن ترجع عملية تقييم العمل الجاد إلى أصالة وهوية العمل وقدرته على التجديد والإضافة من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى المتلقي وذوقه الذي يتشكل بشكل تراكمي. إذ أن الموسيقى المستقلة ليست بالضرورة جادة. وهناك أعمال مستقلة كثيرة لا تتحلى بأقل أنواع الأصالة والإبداع والتجديد وتقوم على استنساخ صور وتجارب موسيقية أخرى، أو تعتمد على كسب مصداقياتها من خلال المساحات التي ذكرناها. هذا ما يبرر عدم وجود تنوع في هذه الموسيقى من حيث الكلمات والألحان والقالب إلا في حالات قليلة. فلا يقتصر التجديد والعملية الإبداعية على الفن المستقل فحسب، فهناك فرق وفنانين تجاريين بالخارج قاموا بعمل نقلة في الموسيقى وطرق تسجيلها وإنتاجها؛ مثل الأعمال التي أنتجها براين إينو لفنانين آخرين وأعمال ديفيد بووي وبيتر غابريل وفريق البيتلز وكينج كريمسون وناين إنش نيلز، وذلك علاوة على الأعمال الكلاسيكيّة الحديثة لستيف رايش وفيليب غلاس التي نقلت الموسيقى الكلاسيكيّة من الخانة النخبويّة إلى الخانة الجماهيريّة ولها تأثير واضح وكبير على الفنانين التجاريين والمستقلين. أما على المستوى المحلي فهناك أعمال جادة قديمة ما زالت حية حتى الآن لفنانين جماهريين غير مستقلين مثل أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم، وفي الكفة الأخرى هناك تجارب مستقلة مثل أعمال الشيخ إمام وغيره. اتفقنا على هذه الأعمال أم اختلفنا، لا يمكن أن ننكر مدى جديتها بصرف النظر عن كونها جماهيريّة أم مستقلّة.
إننا الآن أمام مفهوم يتفكك ويشوبه الكثير من التناقضات والشكوك من حيث جدواه، لذلك من الأفضل تجاوز هذا المفهوم والبعد عن تلك التصنيفات والمسميات، أو البحث عن مصطلح جديد يلغي ما قبله في حالة إصرارنا على المسميّات.