بعد انقطاع لبضعة سنوات، يشهد ألبوم طقوس عودة قوية وصوتًا طازجًا للمنتج والرابر الفلسطيني جلمود. يجمّع جلمود خبرة اكتسبها على مدار سنوات من خلال مجموعة السالب واحد ومشاريع تعاونية أخرى، مركّزًا إياها في ألبوم مثير للفضول ومتماسك إنتاجيًا. يطغى على الألبوم طابع تجريبي يسهل هضمه، حيث يبعد عن أي بيتات جاهزة كالتراب والدريل وغيرها – باتت مستهلكة على مستوى المنطقة، ليصعّب التوقعات على المستمع ويشكّل تحديًا على صعيد إنتاج الراب.
يحتفظ جلمود كعادته بأسلوبه الدقيق وحسن اختياره للسامبلز التي يرتكز عليها الألبوم، ويعلن في الوقت نفسه عن مرحلة جديدة أكثر نضجًا بفضل ديناميكية تراكاته وامتلائها بالتفاصيل. نتعرف من التراك الأول بسملة أننا مقبلون على طريق ملتوٍ بفضل إيقاع مترنّح يتحول إلى إيقاع ثلاثي متشابك، مع أنسجة صوتية معدنية زاحفة. على مدار التراك تسيطر ألحان غامضة يمتصّها جلمود بنبرة عنيفة، تلخّص طقوسه الإيقاعية وطريقة بصقه لباراته الصلبة: “طقوسي بالطبل انا / حروفي هاي تفتفة / اضرب انا كم كاس لحال / انشف كلوح هسا ندهن / العب فالنار هبي اه هبي.”
تكشف أجزاء أخرى عن الطابع السياسي الذي لازم السالب واحد منذ بدايتها / كما في فلنكمل “بفلوس شرى صمتك بدوس على كرامتك / روحك تخمرت قد مهي مكبوتة اساليب ملعوبة / بشوفك ما اشطرك / لما بدهم فرض القوى عطهم حد من جوا” مضيفًا سطرًا لعوبًا يعلّق في الأذن “لا يخي انا مش هيك راسي / انا من الكيف طافي / عارف انو البيك طاغي بس مش رح اساعدك لانو الـ minimum wage واطي.”
تتعدد مصادر عينّات الألبوم لتكشف عن محيط ثقافي غني وخبرة سمعية متنوعة، يوظفها جلمود بشكل ناعم ومتسلل. يمكن تبيّن ذلك في تلاعب جلمود بالزمن في تراك حرس الجبل حيث تقفز الذاكرة بين ثلاث حقبات. يعتمد التراك على سامبل من أغنية لعلي عبد الستار منذ نهاية الثمانينيات وأخرى سبعيناتية لإدوارد أرمينييف أعاد بي بي كاي تدوير لحنها في تراك ريزُرّكشن في بداية الألفية. يصهر جلمود عيناته وسط الإيقاعات والبايس وبعض سطور السنث الخفيفة لتنسجم بسلاسة معًا مشكّلة جسمًا مائعًا دائم الحركة.
يتلاعب جلمود بذاكرتنا ويكشف عدم دقّتها وضبابيتها، بفضل تلاعبه بطبقات السامبلز ومطّها لتعطي أثرًا منوّمًا مسترخيًا يغني عن أيّة مواد مخدّرة. يغطس بنا تارة تحت الماء في كالماء بعينة مهزوزة الملامح من تراك سول منسيًا، وتارة يحلّق بنا عاليًا في سريع الذوبان مستعينًا بسامبل ثمانيناتية من ألحان حميد الشاعري للمغنية هالة هادي. نستمر في التحليق إلى مستويات أعلى مع عينة من إليسا في جواي، ليزداد الأمر غرابةً ومرحًا في الوقت ذاته عند مفاجأتنا بجانغل بريك.
نسقط أخيرًا في البرزخ مع واحد من أفضل تراكات الألبوم، إشي هوائي الذي يبث القشعريرة في الأذن. نذوب في التراك وسط الخشخشات والسب بايس العميق الذي يحتضننا بدفء، إضافةً إلى إيقاعات مقرمشة وأسطر غنائية متمددة، لنتذكر هنا أسلوب ومصادر دايف ريفلكس سرفيس.
على عكس الطابع الرخو في التراكات السابقة، يكشف الألبوم عن جزء أكثر حدّة، تسيطر عليه الإيقاعات الصناعية (industrial) بجودة خاماتها المعدنية الصدئة، كما في فلنكمل وتغير ثابت وكسّارة. لا شيء يضاهي قوّة إيقاعات كسارة وتشبعها بالدستورشن إلا إيقاعات ١١٢٧ وزولي المضغوطة والمشوّهة. يعطي ذلك تباينًا وتنوّعًا في التلقّي على مدار الألبوم، ليظل أسلوب السمبلة هو العامل المشترك الذي يربط المزاجين معًا.
أخيرًا نتبين مزاجًا آخرًا حيويًا يسلط الضوء على الجانب التراثي أو الشعائري، كما في تراكات مرحلة أعلى ومولانا وتشكل آسي، والتي يسيطر عليها طابع تكراري يتخلله تنويعات طفيفة على مستوى البنية والإيقاعات والمؤثرات المستخدمة لتعطي تجربة سماعية متجددة باستمرار. يأتي تراك حارتي الأكثر وضوحًا بمثابة يقظة وسط تراكات الألبوم، حيث يسيطر عليه غناء جذّاب بطبقة رقيقة يضاف إلى جودة بارات الراب المشحونة سياسيًا “اصليتن شو المغزة من اللحن هاد غير لما تشوف شباك و موساد تحط عينيك في عينيهم.”
كما في غلاف ألبوم داكن شوي كتير بعيد، يستمر روان أبو رحمة وباسل عباس إضافةً إلى استوديو موني في اللون الأزرق، وتأثير النيجاتيف على الصورة مع خط ملتوٍ ثلاثي الأبعاد، ليؤكدوا على هوية بصرية ضبابية تلائم مزاج الألبوم. مع ذلك نستطيع تبين لونٍ برتقاليٍّ فاقع مثلما نستطيع تبين العديد من التفاصيل موسيقيًا على مستوى الإنتاج والألحان والأمزجة.
ألبوم طقوس مميز في تدفّق تراكاته السلس وجاذبيته العالية. نقطة تلاقي ما هو تجريبي ومرح، درس متقن في السمبلة وجرعة منعشة في صناعة البيتات على مستوى المنطقة وعالميًا.