دخل أبيوسف مشهد الراب في النصف الثاني من عشريناته بحمولة سوداوية رافقته من خلفيّته في الميتال، واقتحم الحلبة بأسلوبٍ لاسع وكلمات تقرص آذان المستمعين. حكى لنا أبيوسف خلال العقد الماضي عن حياته كشاب مصري في شوارع القاهرة، شهد وحمل شيئًا من هزيمة ما بعد ثورة يناير، التي تسببت – إلى جانب أمور أخرى – باكتئابٍ واسع لدى أبناء جيله. قدّم خلال ذلك شخصياته البديلة، من مازن محمّد المؤذي إلى هاني المكتئب وحارس المرمى رعد. في ألبومه الجديد الصادر يوم عيد الحب الماضي، حبّك برص، يكتب أبيو فصلًا جديدًا من ملحمته الشخصيّة، ويقدّم شخصيّة هيثم السنتياجو.
تعرّفنا على هيثم للمرّة الأولى في فيديو يجمع أغنيتين من الألبوم، قطّة وتجيلي الصبح. يلعب أبيوسف في الأولى دور شاب رومانسي يقوّس يديه على شكل قلب أمام الكاميرا، ويشبّه نفسه ببطل قصص بوليسيّة مصريّة يجيد مختلف فنون القتال، أدهم الرجل المستحيل. اعتمد ليل بابا في الإنتاج على إيقاع هادئ تحرّكه عيّنة جيتار كهربائي تتكرّر في حلقات (لووب)، فيما لا تتوقف آدليبس أبيو في الخلفيّة (سنتياجو / يا سلام).
ينتقل الفيديو إلى أغنية تجيلي الصبح، حيث تظهر “قطّة” أبيوسف دون أن تسحب بقعة الضوء منه. تركّز بارات أبيوسف على الحديث عن نفسه، في مزاج لا يخلو من سوداويّة “خفافيش وما بنشوفش”، فيما تهزّ الصبيّة رأسها وتبتسم موافقةً على كل ما يقوله أبيوسف، فتحصل على ذكر في الأغنية كل حينٍ وآخر “خدودها بينك زي السلمون”. يحافظ ليل بابا على وصفته المعروفة باستخدام بيت تراب نظيف ودقيق، يستمد شخصيّته من عيّنة أو اثنتين تتكرران طوال الأغنية، لتذكّرنا الأغنية بتعاونات سابقة بين الاثنين، خاصةً همج.
في مقابلة أجراها أبيوسف مع معازف قبل ستة أعوام، تحدث عن روتينه اليومي في الكتابة، وأشار إلى أنه لا يزال يستخدم نفس الهاتف منذ أربع سنوات “بكتب عالتلفون، نفس التلفون ابن المتناكة من أربع سنين”. تبدل وضع أبيو ليتحدث في تراك بريمو عن راحته الماديّة “الفلوس محطوطة في بلاطة جوا الحيطة / بنك انا مالي مكاني”، يقولها بصوتٍ منخفض وكأنّه يتحدث الساعة الرابعة صباحًا ولا يريد أن يسمعه أحد، ويحيط به سنث فاقع ونقرات إيقاع ثابتة تدخلنا جّوًا من السريّة والبرودة.
إلى جانب القفزة الطبقيّة الصغيرة، أصبح لأبيوسف عصابة من عدّة رابرز ومنتجين بعد أن وقف في الساحة لوحده لسنوات. يرسل تحيّة لشلته، ويربط اسم الأغنية بهم: “إحنا البريمو، هيثم ليل بابا وميمو (أبو الأنوار)”. عندما يتذكر أبيو ثيمة الألبوم العاطفية أخيرًا، يمرّ عليها بثقة وعدم اكتراث: “إنتي بتاعتي خلاص هنهاتي ليه؟”
لأبيوسف أرشيف طويل من الموسيقى التي تختلط فيها مرارة علاقاته المتعثّرة مع الإيجو تريب وخصومات الراب، بشكلٍ لا يختلف كثيرًا عن كانيه وست، لينتج الاثنان بعضًا من أنجح أعمالهم وأكثرها قسوةً ضمن هذا المجال. خذوا على سبيل المثال أغنية سوبرمان من ألبوم واحد واحد، حيث ينتقل خلال ثوانٍ من “أول ما الاقي عقارب ع القارب بقلبه” إلى “كل دا لسا ببتدي، نامي على الشوك واتمددي.”
تضيف أغنية لايون كينج إلى هذا الأرشيف، وهي أطول أغاني الألبوم وآخر واحدة من إنتاج ليل بابا. يؤدي أبيو الكورس على طريقة الآر آند بي فيما يسنده سنث بيانو حريري يذكّرنا بموسيقى التأمل: “كل شيء قدامك بوضوح / عايزة السلسلة دا مرفوض / عايزة نفضل كدا دا المطلوب / لمي شعرك كدا مزبوط”، وكالعادة، يدعونا إلى الانغماس في حديثه مع حبيبته ساعة ومع أخصامه ساعتين: “بعقّم البلطة من بعدك”.
يصف أبيو في أغنية هادية المزاجَين اللذَين يتراوح بينهما في شخصيّاته العديدة. تشير داليا (على ما يبدو) إلى مزاجه المكتئب الخانق، فيما تصف هادية حالته بعد أن ارتاحت نفسيته دون أن يتأقلم مع حالة الهدوء: “عارفة انتي لو جيتي مش هنشوف مسلسلات (…) بس عشان ما ببقاش ببالغ ساعات إحنا بنتخانق.” يندمج أبيوسف مع اللحن الترابي الذي أنتجه بنفسه، ونسمع في الخلفية أنماط سنث تقترب بالأغنية من التكنو والكلب راب (club rap).
تظهر ملامح أبيوسف الخشنة في على ما يدوب التلج، التي يتحدث فيها عن الوحدة وقلق الفراق (separation anxiety)، وهو نائم على السحاب، غير مهتم بما سيحصل في المستقبل. يتمادى في استخدام كليشيهات من الحياة اليومية “آمنت لديابة / صدقتك كذابة”، لكنه يطمئننا بأن ما حققه في هذا الألبوم مخفي تحت الثلج، قد يكون مرجًا أخضرًا أو أرضَا قاحلة. علينا أن ننتظر.
“شايل على كتافي هم الدنيا ونفسي ارتاح” – التلج
مرّ أبيو بدورة حياة الرابر مرّة كاملة وربما مرّتين، تدرج خلالهما من كتابة الإعلانات إلى الظهور فيها. في إحدى أغانيه القديمة المحذوفة، خمسة مواه، يقول: “لو الشات عن الراب في مصر، فاهم؟ ببقى فيه”. يلعب مع جمهوره، يأخذهم ويرجعهم دون أن يخبرهم عن الوجهة. ربما لا تعجبهم شخصيّة هيثم السنتياجو، إلّا أنّ الاتفاق، كما قال أبيو سابقًا في أغنية عزرائيل: “أنا السجّان، بقفل الباب اما ابقى حابب … متفقين؟”