بات في خاطره وسواس | حسين الجسمي والأغنية الخليجية المبسّطة

كتابةعمر بقبوق - October 1, 2021

أصدر حسين الجسمي عام ٢٠١٨ أغنية حبيتها، ذاكرًا في توصيفها أن اللحن من التراث الإماراتي؛ ليتعرض إثر ذلك إلى حملة من الانتقادات والتعليقات الجارحة، لأن اللحن من التراث اليمني لا الإماراتي. نتيجةً لذلك حذف الجسمي أغنيته، ليعيد نشرها بعد يومٍ واحد مرفقةً باعتذار وتوضيح يبين مصدر اللحن.

كانت هذه الحادثة الغريبة هي ثاني أكثر موضوع تطرق له الإعلام العربي فيما يتعلق بحسين الجسمي، بعد موضوع فقدانه للوزن وتغير شكله. لم أعثر خلال بحثي على أي مقال يحاول قراءة ظاهرة حسين الجسمي، الذي تحقق أغانيه أرقامًا قياسية بعدد الاستماعات على المنصات الرقمية. الأمر الذي لفت انتباهي فعليًا لدى القراءة عن هذه الحادثة هو العلاقة السطحية التي تربط حسين الجسمي برصيده الفني، لتكون مدخلًا للتفكير بعلاقته بالموسيقى واللهجات التي يستخدمها في أغانيه.

لم تتزعزع مركزية الأغنية المصرية في مشهد الأغنية العربية حتى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، عندما بدأ عصر الأقمار الصناعية وصحون الديجيتال، وبعد أن بدأت دول الخليج تفرض سيطرتها على الإعلام العربي وتدخل إلى كل منزل عبر قنوات إم بي سي وإيه آر تي وروتانا، وغيرها من القنوات التي بذخت بشكل كبير بالإنفاق على البرامج الإعلامية والفنية، لتجعل الفنانين من مختلف البلاد العربية يتهافتون وراءها. 

عبر هذه القنوات، بدأت اللهجة الخليجية تتسلل إلى كل منزل في العالم العربي بأغاني نبيل شعيل وراشد الماجد وعبد المجيد عبد الله وأحلام، الذين أصبحوا جزءًا راسخًا من الثقافة العربية الفنية العامة؛ لتبدأ حينها موجة فنية جديدة وتهاجر العديد من الأصوات العربية نحو الخليج. 

لا شك أن المساهمات التي قدمها المغنون من خارج دول الخليج العربي كان لها دور في تطوير الأغنية الخليجية من جهة، وتأخيرها من جهة أخرى. أدت هذه التفاعلات الثقافية إلى خلق نسخة بيضاء عن الأغنية الخليجية، أبرز سماتها البساطة؛ السمة الرئيسية لكل الفنون أو اللهجات البيضاء الناجمة عن عمليات المثاقفة حول العالم. عادةً ما يحاول الغرباء تبسيط الفن الذي يرغبون بممارسته قدر الإمكان؛ وفيما يتعلق بالأغنية الخليجية التي تحمل إرثًا ثقافيًا معقدًا، مشبعًا بروح الصحراء والحياة القبلية والترحال، وتخلط بشكل مثير بين المشاعر متضاربة بشجنها وإيقاعاتها الراقصة، نجد أنه قد جرى اختزالها في النسخة البيضاء إلى أبسط قوام ممكن.

اختزلت الإيقاعات الخليجية على كثرتها بإيقاعين فقط، هما: الشرقين والدوسري، وفي بعض الأحيان يُلوى عنق هذين الإيقاعين ليصبحا أكثر شبهًا بإيقاعات الشام ومصر، كبعض الأغاني التي نسجت على إيقاع اللف ٤\٢ ويضاف إليها أصوات الجلجلة والتصفيق فقط. أما النغم، فقد كان مزيجًا من الموسيقى العربية السائدة في الأغاني المينستريم ونغمات الوتريات التي تعكس إحساس الوحدة في الليالي الباردة في الصحراء. تكتمل القطعة الفنية بالغناء باللهجة الخليجية وأصوات الكورس، التي تكرر اللازمة بطبقة أدنى وبأصوات جماعية خافتة، تشعر في بعض الأغاني أنها قد تتلاشى.

في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، ظهر جيل فني جديد في الخليج العربي احتل صدارة المشهد؛ جيل بدا متأثرًا بالنسخة البيضاء من الأغنية الخليجية، يمكن الإشارة إلى محمد المازم وجواد العلي وشمس الكويتية وحسين الجسمي بوصفهم أبرز نجوم هذا الجيل؛ إلا أن الجسمي تميز عنهم بأنه الوحيد الذي تمكن من مقاومة عامل الزمن والاستمرار على القمة لما يقارب العشرين عام. 

الأمر الذي يمكن أن نلاحظه عند الاستماع إلى الأغاني القديمة التي ساهمت في شهرة حسين الجسمي وانتشاره عربيًا، كأغنية ما يسوى وبودعك ويا صغر الفرح في قلبي، أنها كانت بسيطة للغاية، تتلاشى فيها تعقيدات الأغنية الخليجية وتذوب فيها بعض الفوارق التي كانت تميز الأغاني الخليجية البيضاء عن باقي الأغاني العربية الدارجة، من خلال تخليه عن الإيقاعات الخليجية وكورسها؛ علمًا أن الألبومات الأولى التي تضمنت هذه الأغاني تضمنت أيضًا أغانيًا أخرى بإيقاعات خليجية أكثر أصالة وتعقيدًا، لكن الجمهور كان ميالًا إلى الأغاني الأبسط التي يختزل فيها الجسمي بصوته الحاد والكلمات الخليجية الشائعة بيئة الصحراء ومشاعر الشجن.

تضمن ألبوم الجسمي ٢٠٠٤ معظم الأغاني التي ساهمت في تكريسه نجمًا في العالم العربي. كانت ما يسوى هي الأغنية الأيقونية التي جعلت صوته يعبر الحدود. إلا أن النقطة المفصلية في مسيرته كانت في عام ٢٠٠٥، عندما بدأت المحطات التلفزيونية والإذاعية تبث بشكل مكثف أغنية الشاكي الموجودة في الألبوم ذاته، لكنها مختلفة عن النسخة التي طورها الجسمي عن الأغاني البيضاء الخليجية. 

كانت كلمات الأغنية صعبة الفهم على الجمهور من خارج منطقة الخليج العربي، لكن لحنها توافق مع معايير الأغاني البيضاء، لا سيما الإيقاع الذي صيغ من خلال المزج بين إيقاع اللف وإيقاع الدوسري ونُسج بطبقتين مختلفتين. كانت أغنية مختلفة عن كل ما عاصرها فعلًا، وفيها اختبر الجسمي وصفة النجاح التي ستلازمه في السنين التالية بالتوزيع الموسيقي، أكثر مما يجب. 

ما كان يميز الأغنية عن باقي أغاني الجسمي الإيقاعية المعدة للجمهور المحلي أنها تبدأ بمقطع يحافظ فيه على أسباب نجاح أغانيه الأولى، الإيقاع فيها غير ظاهري ولا ترافقه سوى بعض النغمات الموسيقية التي لا تزاحم صوته الحاد على صدارة الموسيقى. هذه الوصفة بالضبط هي التي لازمت حسين الجسمي في سنوات مسيرته التالية إلى أن وصل إلى ذروة نجاحه مع أغنية بالبنط العريض / الطبطبة العام الماضي. 

شهد عام ٢٠٠٥ أيضًا العديد من التجارب المثيرة للاهتمام في الموسيقى الخليجية، أبرزها بدء موجة جديدة سبح بها المغنون الخليجيون عكس التيار ليغنوا باللهجات المصرية أو اللبنانية. ما تسبب بولادة هذه الموجة فعليًا أن المحطات الخليجية التي كسرت المركزية المصرية لم تقدم بديلًا فعالًا عنها، لذلك تسببت باللا مركزية، من خلال توزيع عدة نقاط مبعثرة لتدور حولها نجوم الفن، لتكون مشاهد المواهب الغنائية التي درجت حينها تجسيدًا للأمر. 

من سوبر ستار جاء الإماراتي سعود أبو سلطان الذي غنى باللبنانية سر العذاب وتبعه إبراهيم الحكمي بـ شو بني، قبل أن يغني حسين الجسمي بحبك وحشتيني وستة الصبح وباقي أغانيه المصرية. رغم أن هذه الأغاني بلهجة مختلفة، إلا أن حسين الجسمي حافظ فيها على الوصفة ذاتها، فالأغاني الرومانسية سيصدح بها صوته بذات الشجن، والأغاني الإيقاعية ستبدأ بصوته الطاغي قبل أن تكسره الطبول. في هذه الوصفات سيتلاشى كل إرث ثقافي ولن يعود مهمًا إن كانت الألحان مقتبسة من الإرث اليمني أو الإماراتي، وليس مهمًا إن كان الإيقاع مصريًا أو خليجيًا؛ المهم أن يصدح الجسمي بصوته عاليًا ليمهد الأجواء للطبول والرقص.