يصعب فصل مسيرة مسلّم هديب عن التحولات في حياته الشخصية. اقترن أول ألبوم رسمي من إنتاجه، الخطوة الأخيرة، بتحول كبير في حياته، حيث أراد منه أن يكون الصرخات الغاضبة الأخيرة التي يلفظها دفعةً واحدة قبل أن يترك وطنه الأردن. لكن هذا التحول لم يكتمل، وبقي مسلّم في الأردن عامين إضافيين، أنتج في الأشهر الأخيرة منها ألبومه الثاني ما بعد الاستعمار، بعد أن تغير مسار رحلته من الإمارات إلى روسيا؛ وبذلك شكّل الألبوم وداعه الثاني لبلده. ذلك هو الحال دائمًا، فلا يخطو مسلّم خطواته الفنية الكبرى إلا في اللحظات التي تسبق المنعطفات المفصلية في حياته، ولا يعتبر ألبومه الأخير ديسلكسيا (عسر القراءة) استثناءً، إذ صدر قبل أيام من زواجه.
يتابع مسلّم شراكته الإنتاجيّة مع أيمن الصالحي، الملقّب بالأركديوسر، بعد أن عملا سويةً على ألبومي مسلّم السابقين؛ كما يعد ديسلكسيا أوّل إصدارات مسلّم مع شركة التسجيل الأردنيّة كيف ريكوردز. يتجاوز ديسلكسيا، بأغانيه العشر، حاجز النصف ساعة بقليل، ما يجعله أقصر ألبومات مسلّم حتّى اليوم وأكثرها زخمًا.
“سامع قلبك بيخفق ممكن أعمل منه بيت”
يحافظ مسلّم على لازماته الغنائيّة المحليّة المميِّزة لأسلوبه، ويستمر باعتماده على العيّنات لإعادة تدوير أغاني بوب عربية قديمة عالقة في ذاكرة المستمعين، ليستخدم في ألبومه الجديد أغانيًا لعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفيروز. يظهر الكوميديان المصري سعيد صالح في سامبلز أغنية أنا كان معايا، بعدما ظهر في الألبومين السابقين في أغنيتي سنتنضنوا وأنا بمسي التماسي. فيما تمشي أغنية الألبوم الضاربة دشّر حصرمنا على خطى الأغنية الضاربة من الألبوم السابق إجرمن عنهن، من حيث استخدام الموسيقى الفولكلوريّة الراقصة وأساليب الغناء والتصويت المحليّة. أخيرًا، عاد مسلّم في الأغنية الافتتاحية فيردي إلى الاقتباس من أغاني الأطفال، مظهرًا تطورًا بالمقارنة مع تجربته السابقة الشبيهة، أرنب بالملعب.
يشكّل الزواج، أو الارتباط العاطفي، الضلع الأوّل ضمن مثلث الثيمات الرئيسية التي يتناولها مسلّم في ألبومه. قد يشير الضلع الثاني، والذي يمكن قراءته في عنوان الألبوم، إلى صعوبات مسلّم في التعامل مع روسيا واللغة الروسيّة وهو يعيش في مدينة لا يتقن لغتها، تجرده كشاعر من إحدى أهم ملكاته. أما الضلع الثالث فامتداد طبيعي للفكرتين المهيمنتين على ألبومي مسلّم السابقين، الانتماء والتغريب.
كان لثيمة الزواج سطوة في الأغنيتين اللتين طرحهما مسلّم تمهيدًا للألبوم، دشّر حصرمنا وعارف إنّك. في فيديو الأغنية الأولى، يظهر شخص قادم من المستقبل أمام مسلّم ويخبره بأنّ البشريّة ستنتهي إن لم يقدم على الزواج، ليوحي بأنّ تقدّمه على الزواج يعد تلبيةً لواجب من نوعٍ ما. تزداد الأغنية غرابةً عندما ترافقها موسيقى فولكلوريّة توحي بأنّ مسلّم يرى زواجه من عين الإرث الثقافي والعادات والتقاليد. تكشف الأغنية جانبًا مرتبكًا من راب مسلّم وشخصيته، كان محجوبًا في الأعمال السابقة وراء بارات راب خشنة، ساخرة وأحيانًا سوقيّة.
تبدو أغنية عارف إنّك، حيث تعاون مسلّم مع عدن واكيم واستخدم عينة من علشان ماليش غيرك لفريد الأطرش، أكثّر رقةً من سابقتها عند الانطباع الأوّل، حتى تتضّح ملامح المعادلة المقلوبة التي يشير إليها مسلّم في بار: “سامع قلبك بيخفق ممكن أعمل منه بيت”. في الأغاني العاطفيّة الرائجة، بما فيها علشان ماليش غيرك، يستفيد الموسيقيون من شاعريّة الموسيقى في تقديمهم لمشاعرهم، بينما يرى مسلّم إمكانيّات تقنيّة في المشاعر من الممكن استثمارها في صناعة الموسيقى.
“أنا ياما ببكيلك وفاكرني بغنيلك”
تتجلى ثيمة الديسلكسيا في الألبوم بعدّة أشكال، من بينها أغنية باء ميم واو لام (Pu*** money weed). يعدد مسلّم المواضيع الأكثر شيوعًا في أغاني الهيب هوب، ويقتطع أحرفها الأولى ليشكل اسم الأغنية، مرددًا لازمة الأغنية على شكل تعدادات شبيهة بالأساليب العلاجية التي تهدف لتبسيط التعلم. تتضمن الأغنية عيّنة من نعم يا حبيبي لعبد الحليم حافظ، الذي يحضر صوته فيها بمقطع واحد: “أنا ياما ببكيلك وفاكرني بغنيلك”. تبدو هذه الكلمات، مقتطعةً من سياقها الأصلي، اختزالًا مجازيًا لديسلكسيا مسلّم في مدينة لا يتقن لغتها: “حيي معي حالك إذا بتحكي عربي / من التشاد للسنغال / بدي تحكي عربي حتى لو بسينيقاق”.
تكتسب الأغنية طبقة أخرى من المعنى عندما يقتبس مسلّم من الفلكلور العراقي: “مات الولد ولولي، هاد الحلو ما أبيه”؛ وهي أغنية رددها العراقيون إبان الاحتلال الإنجليزي لبلادهم، تعبيرًا عن قبولهم بعودة المستعمر العثماني الذي يتصل معهم ثقافيًا، ورفضهم للاحتلال الإنجليزي. تكشف اللازمة عن الازدواجيّة التي يحملها الراب العربي بين الهويّة المحليّة مقابل الثقافة الغربيّة: “بوسي موني ويد بلاد، بوسي موني ويد أرض / بوسي موني ويد ولاد، بوسي موني ويد عرض”.
كما يبدو في لازمة الأغنية إذَا، تقود كل الخطوط التي يبعثرها مسلّم في نهاية المطاف إلى الثيمة الرئيسيّة، الوطن والتغريب، بدايةً من أغنية فيردي، التي ينسلخ فيها عن السياق فجأة ليطرح تساؤلات حول تناقضات الواقع الذي نعيشه مع الأفكار الوطنيّة / الثوريّة التي كبرنا عليها: “ماشي وشايف طوابير على سفارات دول ثانية يابوي / ولك مش محتاج المقادير / مهو ماحد بيعرف الصح كلها تفاسير / ياهو بدهم صورتي تضلها دم وسواطير”.
“هالبعد الكوني وطني مش فيه”
ترد في معظم الأغاني جمل اعتراضيّة تعبّر بشكلٍ واضح عن رغبة بالانسلاخ عن الواقع، مثل “بدي ابحر فيك مش كلاجئ” في باء ميم واو لام؛ ويبدو أن هذه الاعتراضات تنبع من إدراك لضعف وجودنا على خارطة العالم. يصارح عدن واكيم بذلك في أغنية عارف إنّك: “هالبعد الكوني وطني مش فيه”. في المقابل، يمر مسلّم على بعض الوسائل الدفاعية النفسية كالنكران، كما هو الحال في أغنية مايد إن ماما، التي يحرّف فيها مفهوم الوطن والانتماء: “ما بحزن على يتيم أرض لأنه حمل كلشي منها فيو / بحزن أنا على يتيم الأم لأنه مشافش أرضه فيها”.
في الأغنية الختامية أنا كان معايا، يعيد مسلّم ترتيب الحكاية وتنسيقها ما بين اقتباسين لهما مرجعيات ترتبط بسعيد صالح: العيال كبرت، عنوان المسرحية التي يقتبس منها مطلع الأغنية، والعيال ماتت، وهو هاشتاج أُطلق في مصر عقب وفاة سعيد صالح؛ ليكوّن هذان الاقتباسان حدود رحلة مسلّم في البحث عن مكان في هذا العالم، والتي نراه في هذا الألبوم يقطع خطوة جديدة منها.