في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، اجتمع بضعة أصدقاء للتدرب على موسيقى فرقتهم في يوم جمعة، المسماة على اسم اليوم الذي كانوا يجتمعون فيه. غيرت تلك الفرقة الإنجليزية الصغيرة اسمها لاحقًا قبل إصدار ألبومهم الطويل الأول إلى راديوهيد. مرت الفرقة البريطانية المغمورة برحلة بدأت بنجاح تجاري متواضع في مشهد الروك المحلي إلى نجاح على الصعيدين النقدي والتجاري على مدار التسعينيات، جعل البعض يطلق عليهم ألقابًا مثل “بيتلز القرن الواحد والعشرين“.
من الآلت روك إلى نهاية البريت بوب
اتسم مشهد الروك عمومًا بين نهاية الثمانينيات وأول التسعينيات بالهيمنة الأمريكية، وبعد غياب البَنك عن الساحة حل الغرانج محله في بدايات ظهور الروك البديل. يمكن اختصار تلك الفترة في هيمنة نيرفانا على مبيعات الروك في مطلع التسعينيات. إثر ذلك، بدأت بعض فرق الروك في المملكة المتحدة بالرد على تلك الهيمنة الأمريكية بسرديات مضادة، حيث الموسيقى متأثرة بالفرق البريطانية وبالثقافة البريطانية، وتتناول الحياة اليومية للشاب البريطاني. من هذه السرديات ظهر تيار البريتبوب ليهيمن على الفترة بين عامي ١٩٩٤ و١٩٩٧.
في ذلك المشهد متعدد الديناميكيات أصدرت راديوهيد ألبومها الأول بابلو هاني، ليحقق نجاحًا متواضعًا أثبتت به الفرقة جدارتها، وإن كانت لم تزل متخبطة تبحث عن صوتها. كان صوت الألبوم حينها في ١٩٩٣ مجرد انعكاس لجماليات الفترة السائدة، لذا يفضل البعض اعتباره من ألبومات الآلت روك أو الجرانج العادية. لكن مع نجاح بابلو هاني المتواضع في بريطانيا حققت أغنية كريب نجاحًا ساحقًا في الولايات المتحدة، ما وضع راديوهيد على خريطة الروك ووضع ضغطًا كبيرًا على مستوى الصوت الذي يتوقعه الناس منهم لاحقًا.
لكن ذلك الضغط، والخوف من أن يصبحوا “فتية كريب”، أثمر خطوةً أكثر ثقة في ألبومهم التالي ذَ بِندز. ما زالت الفرقة تبحث عن صوتها، ومازالت متأثرة بالسائد، حيث شهد عام صدور الألبوم ١٩٩٥ أوج شعبية البريتبوب والمعركة الإعلامية بين فرقتي بلور وأوايسِس. لكن ذَ بِندز رسم صورة أكثر وضوحًا للفرقة، حيث يلعب التجريب والتعبير الفني دورًا في موسيقاهم يفوق دور التوقعات التجارية. في نفس الوقت بدأ يظهر دور أهم للكلمات؛ فبينما كانت موسيقى البريتبوب تتمحور حول مواضيع سطحية وفي سياق محلي، كانت كلمات راديوهيد مليئة بالقلق والارتباك من تغير العالم بفعل التكنولوجيا.
بينما كان بابلو هاني وذَ بِندز مجرد ألبومات جيدة في وقتها، جاء ألبوم الفرقة الثالث ليغير مشهد الروك. حين أصدرت الفرقة أوكيه كمبيوتر في ١٩٩٧ حقق الألبوم نجاحًا تجاريًا فريدًا في أوساط الروك الجاد حينها وحتى الآن. في الوقت ذاته حقق الألبوم نجاحًا نقديًا غير متوقع. وصفت تسجيلات إي إم آي الألبوم بالانتحار التجاري. امتلأ الألبوم بنقد الثقافة الاستهلاكية والتوجهات التكنولوجية التي تنبئ بمستقبل مظلم، تحقق جزءٌ كبيرٌ منه اليوم، وجاء في الوقت المناسب. كان الألبوم المسمار الأخير في نعش البريتبوب وتسطيح الموسيقى، والأمل الزائف لحكومة العمل الجديدة وتوني بلير الذي استغل البريتبوب في حملته الانتخابية. إلى جانب سوداوية مواضيع الألبوم والكلمات معبرة، استطاعت الفرقة تحقيق صوت مرضٍ وفريد لهم، يعطي التجريب أهمية أكبر من إنتاج أغانٍ قصيرة وجذابة صديقة للراديو، كما في مقدمة الألبوم بارانويد أندرويد التي تتجاوز الست دقائق.
بين التوقيت المثالي وقوة الألبوم التفتت أنظار المستمعين إلى الفرقة حديثة العهد وعملهم القادم. لكن حينما تصل إلى الذروة، أين تذهب؟
المزيد من التجريب
كانت الإجابة صعبة بالنسبة لراديوهيد. أيًا كان العمل التالي لا مفر من المقارنات بأوكيه كمبيوتر، وعاد شبح أن يتحولوا من “فتية كريب” إلى “فتية أوكيه كمبيوتر” يطاردهم. انقسمت الفرقة حول الاتجاه الذي ينبغي للألبوم القادم اتخاذه حتى كادوا ينفصلون تمامًا. كان إد أوبراين – أحد عازفي الجيتار – يريد عمل ألبوم جديد يركز على الجيتار وينزع المؤثرات الصوتية وتأثير البروجرِسيف روك الواضح على أوكيه كمبيوتر، ألبوم يكون اللحن فيه أهم أركانه. على الجانب الآخر أراد توم يورك تجربة شيء جديد، موسيقى تركز على الإيقاع.
بدا الأمر وكأن الفرقة ستنفصل مع الإعياء الناتج عن الحفلات المستمرة، والحالة النفسية المتدهورة ليورك. لم يعد يورك يحتمل الضغط الذي وضعته الصحافة عليهم باعتبارهم “منقذي موسيقى الجيتار والروك”. كان من الممكن للفرقة إصدار أي ألبوم روك تقليدي وكان سيحقق نجاحًا منقطع النظير. حينها قرر يورك أن يتخذ الألبوم التالي الاتجاه المعاكس تمامًا، بهدم جماليات الروك والبدء من جديد، متأثرًا حينها بموسيقى تسجيلات وارب، أحد أهم شركات الآي دي إم والتي نشرت أعمال آيفكس توين وأوتكر.
احتاج عازفو الجيتار الثلاثة إلى التأقلم مع التوجه الجديد وتعلم آلات أخرى مثل السنث وإمكانية أن يأخد الجيتار مكانه وسط العينات الصوتية أكثر من الأداء الحي. في النهاية أنجزت الفرقة عددًًا من الأغاني يكفي ألبومين، هما كيد إيه (٢٠٠٠) وأمنيزياك (٢٠٠١). ابتعد الألبومان عن طابع البروجرِسيف روك وبواقي الجرانج لتحل محلها الموسيقى الإلكترونية والتأثر بالكراوت روك والجاز الحر. كعادة راديوهيد، كانت مخاطرة إبداعية جسيمة. انقسم النقاد حينها حول كيد إيه، ما بين اعتبار الألبوم من أفضل الألبومات وبين اعتباره خطوة خاطئة. أصاب الألبوم المستمعين بالارتباك، ربما لأنه لم يكن متوقعًا، وربما لأن قطاعًا منهم كان يستمع إلى تلك الموسيقى للمرة الأولى. تعدّى الأمر مجرد التجربة بالنسبة ليورك وراديوهيد؛ إذ منح الألبوم الفرقة اتجاهًا وشغفًا جديديْن للموسيقى، وحررهم من قيود الجنرات. كان الألبوم بمثابة صفعة لكل التوقعات التي حاولت قولبة راديوهيد كفرقة روك بسبب نجاح أوكيه كمبيوتر.
رغم الاتجاه الموسيقي المعاكس، يعد كيد إيه استكمالًا لأوكيه كمبيوتر. فبينما كان أوكيه كمبيوتر مليئًا بالتوقعات للمستقبل، كان كيد إيه يرسم مشهدًا من ذلك المستقبل بأجواء صوتية كثيفة. يتخيل الألبوم – كما يقول يورك – الموسيقى التي سيستمع إليها كيد إيه، أول طفل مستنسخ.
بقي التمرد على الجنرات أهم مميزات موسيقى راديوهيد. جاء كل ألبوم لاحق بتجربة جديدة، كما في الأسلوب والكلمات الأكثر غضبًا في ألبوم هيل تو ذَ ثيف. أما إن راينبوز فيشهد الفرقة بعد انتهاء عقدهم مع شركة إي إم آي وإصدارهم لألبومهم الأول بشكل مستقل، ويشهدهم أكثر راحة في الصوت الذي يقدمونه، بأصوات أكثر دفئًا وكلمات أكثر شاعرية، ومجموعة من العناصر المختلفة من ألبوماتهم السابقة. يمكن تلخيص ذلك كله في أول دقيقة من الألبوم حيث يبدأ بإيقاع درَم ماشين يجاوبه جيتار نظيف بلا مؤثرات على أغنية ١٥ ستِبّ.
لكن بعد العودة إلى الجيتارات والتجربة في الكلمات والمواضيع، جاء ذَ كينج أُف ليمبز ليشهد محاولات الفرقة المتعثرة لكتابة ألبوم جديد. بينما كان إن راينبوز نتيجة التسجيل بين العروض وتجربة الأغاني الجديدة على المسرح، لم ترد الفرقة تكرار التجربة كما قال جوني جرينوود: “لم نرد أن نمسك الجيتارات ونكتب تسلسل كوردات، لم نرد الجلوس أمام كمبيوتر أيضًا. أردنا شيئًا ثالثًا يجمع ما بين اللعب والبرمجة.” حينها اقترح منتج الفرقة منذ أوكيه كمبيوتر – والعضو السادس للفرقة بشكل غير رسمي – نايجل جودريتش حلًا مناسبًا، استخدام أجهزة تشغيل الفاينل وبرامج محاكاة الفاينل لخلق لووبس من موسيقى الآلات تشكل عماد الألبوم، بينما يضيف إليه أعضاء الفرقة الألحان والغناء وبعض الآلات الحية.
أنتج ذلك الأسلوب طابعًا صوتيًا يغلب عليه التكرار والرتابة، ما جعل الألبوم أقل أعمال راديوهيد شعبية، خصوصًا بسبب طول الألبوم القصير والانتظار الطويل الذي سبقه. خلق هذا التوجه مشكلة أخرى غير آراء المستمعين، وهي محاولة إعادة إنتاج ألبوم مصمم حول اللوبس في صورة حية للعروض. أسفرت تلك المشكلة عن أحد أفضل عروض راديوهيد الحية، ذَ كينج أُف ليمبز لايف فروم ذَ بايسمنت؛ حيث احتاجت الفرقة إلى تعلم الأغاني مرة أخرى واستعانوا بكلايف ديمر – عازف الدرَمز المستقل والذي شارك من قبل مع بورتيسهِد وغيرهم – ليستطيعوا تأدية أجزاء الإيقاع، ومجموعة من لاعبي الآلات النحاسية. يظهر في ذلك العرض الحي الألبوم بشكل أكثر نضجًا ويفقد طابعه الأحادي الرتيب.
ربما جاء آخر ألبومات راديوهيد، آ موون شيبد بوول، استجابةً لهذه التجربة في العرض الحي، فغلب عليه طابع أوركسترالي، بين الآلات الوترية والجيتار القوسي في برن ذَ ويتش، والاستعانة بكلايف ديمر مرة أخرى.
علاقتهم بالإنترنت والمستمعين
حينما حققت الفرقة نجاحها في نهاية التسعينيات وطفرة المواقع الإلكترونية ووصول الإنترنت إلى قطاع أكبر من المستخدمين، كانت الفرقة من أوائل متبني فكرة استخدام الإنترنت للتواصل مع المستمعين بشكل مباشر. لم يكن غرض موقعهم بيع تذاكر وأسطوانات في المقام الأول بقدر ما كان مدونة شخصية للفرقة كصورة بدائية من التواصل الاجتماعي. كان موقع ديد آير سبيس وصلة ممتدة من الرسائل الضمنية التي تشير إلى أعمالهم القادمة، عينات صوتية وصور من الاستوديو وكلمات أغانٍ لم تصدر بعد.
تفاعلًا مع هذه الرسائل ظهرت مواقع يزورها عشرات الآلاف للاطلاع على آخر أخبار راديوهيد مثل سيتيزن إنساين وجرين بلاستيك. شجع ذلك العلاقة التي تفتقر إلى الشفافية بين الفرقة والمستمعين، حيث ظهرت محاولات لأرشفة وتتبع الأغاني غير الصادرة لراديوهيد وتوقع صدورها، مثل أغنية مان أُف وور التي كُتبت أثناء العمل على ألبوم ذَ بِندز، وأدتها الفرقة في بضع عروض حية تتوافر تسجيلات قديمة منخفضة الجودة منها. لكن لم يجرِ إصدار نسخة استوديو بشكل رسمي منها لأكثر من عقدين، حيث جرى إصدارها مع نسخة احتفالية مرور عشرين عامًا على أوكيه كمبيوتر. حيلة كررتها الفرقة مرة أخرى في كيد أ منيزياك، الذي صدر الشهر الماضي احتفالًا بعشرين عامًا على حقبة كيد إيه وآمنيزياك.
لكن بينما تبخل الفرقة على المستمعين ببعض الأغاني لعقود، فالعلاقة فيها شيء من العطاء أيضًا، مثل طرح الفرقة لألبوم إن راينبوز للبيع بالسعر الذي يختاره المشتري، وإن كان مجانًا. كان ذلك عقب انتهاء عقدهم مع إي إم آي ورغبتهم في استكشاف طرق جديدة لمشاركة الموسيقى مع المستمعين بشكل مباشر. على الرغم من إمكانية الحصول على الألبوم مجانًا اشتراه عدد كبير من الناس، يقدر بـ ٣٨٪ ممن قاموا بتنزيل الألبوم، ما أثار شيئًا من الضجة في أوساط الموسيقى، حيث كانت تجربة راديوهيد تلك المرة عن التلاعب بالوسيط نفسه. انقسمت الآراء بين اعتبارها حركة شجاعة أو اعتبارها حركة فيها شيء من الغرور، وترسل الرسالة الخاطئة لصغار الفنانين الذين لا يمتلكون شعبية راديوهيد وتاريخهم من النجاح التجاري.
لا تنبع أهمية راديوهيد كفرقة روك من عمل محدد، أو من أسرهم لجماهير الروك في إحدى فتراته الأكثر نضجًا في الآونة الأخيرة. أظن أن أهمية تلك الفرقة في الأساس تكمن في علاقتهم الندية بالروك، علاقة لا تعترف بقيد الجنرا. أي ألبوم كان سيتلو أوكيه كمبيوتر كان سيصنع للفرقة مكانة مرموقة، لكن الأمر لم يكن بشأن المكانة، ولا بشأن أن تصبح راديوهيد ذَ سميثس الجديدة، الأمر يتلخص في الإجابة على سؤال: أين نذهب الآن؟ لذا أعتبر ألبومًا مثل ذَ كينح أُف ليمبز رغم قصوره في بعض الأوقات ألبوم روك شديد الأهمية، لأن فيه مخاطرة صوتية سمحت لأعمالهم التالية بالظهور في ضوء مختلف، وسمحت للروك بالحياة لفترة أطول في خيال المستمعين، وكتابات النقاد.