يعد حي قومبيطا في سيدي بلعباس مدينة كولونيالية كوسموبوليتية تبعد عن الجزائر العاصمة بحوالي ٤٥٠ كلم غرباً أحد أقدم الأحياء الشعبية في المدينة. كان يطلق عليه الحي العربي تارة، وحي الزنوج تارة أخرى. هذا الغيتو كان الخط الفاصل بين وسط المدينة الكولونيالي حيث الرموز العمرانية لفرنسا الاستعمارية ذات الهجانة الأثنية المشكلة من الإسبان والمالطيين والالمان وأصلاء الجنوب الفرنسي والذين انتقل بعضهم الى سيدي بلعباس خلال المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر عبر ما كان يسمى باللفيف الأجنبي، لكن أيضاً من خلال المغامرين الأوربيين المعدمين الذين جاؤوا مرافقين للغزو الاستعماري رفقة الجنرالات الفاتحين ورجال الدين المبشرين باحثين عن الفردوس المفقود في أراضي كان يسكنها، كما كانوا يقولون، البدائيون والبرابرة.
نقلت فرنسا الغازية المدنية والحضارة الى الفضاء/المركز الذي جعلت منه مدينتها الحديثة، فأنشأت المعقل العسكري للفيف الأجنبي وحوله كانت الكنيسة والمسرح وساحة الاحتفالات والمحكمة والبنك وقاعات السينما ومتحف الموسيقى الكلاسيكية والحديقة العمومية ومختلف المقاهي والمطاعم والبارات على الطراز الفرنسي، بينما جعلت من قومبيطا وضواحيها وساحة الطحطاحة المدينة العربية الطرفية بشعبها الذي أطلقت عليه الطبقة الغربية الجديدة الوافدة وصف الأنديجان السكان الأصليين Indigineous. في أطراف المدينة العربية امتدت المساحات الخضراء والأراضي الزراعية التي أصبحت بيد الملاك الجدد للمدينة، حيث تحول أهلها الى عمال زراعيين موسميين لدى السيد الجديد.
تمرست قومبيطا وضواحيها داخل ثقافتها الشعبية وطقوسها ولغتها المحلية وموسيقاها لتشكل منها هويتها الجديدة وتتخذ من أشكال تعابيرها الموسيقية والشعرية الشعبية والجسدية ألوانا من المقاومة. كانت أغنية الراي أحد هذه الأشكال التعبيرية،وكان الحي عبارة عن منازل متراصة ومزدحمة، وبيوت من قرميد أحمر ورمادي ودروب ملتوية وضيقة وحوانيت متناثرة ومقاه مزدحمة برجال يرتدون العباءات والطرابيش البيضاء والعمائم الصفراء وحمامات على الطراز التركي يرتادها الرجال مساء والنساء صباحا وكتاتيب قرآنية تقليدية ومساجد بدائية وزوايا صوفية ذات قبب خضراء وبيضاء تؤمها النساء والرجال أيضاً لزيارة المرابطين والتبرك برجال الدين الصالحين. وكان منزل والدي في أحد دروب هذا الحي الذي كان مرتعا للراي، وكانت الشيخات بطلاته الأوائل.
الشيخة الريميتي مؤسسة الراي النسوي
ولدت السعدية بدياف الملقبة بالشيخة الريميتي في مايو ١٩٣٢ في قرية تسالة التي تبعد عن سيدي بلعباس حوالي خمسة عشر كيلومتر. انتقلت الى قومبيطا وعمرها لا يتجاوز الثانية عشرة. تزوجت وهي دون العشرين، ثم طلّقت وبدأت تغني في الأعراس التي كانت تقام داخل البيوت. غادرت سيدي بلعباس وأصبحت مغنية محترفة في ملاهي مدينة مستغانم وذاع صيتها في أوساط منظمي الحفلات في وهران وغيرها من مدن الغرب الجزائري. صدرت أول أسطوانة لها عند المنتج باثي ماركوني في ١٩٥٢، وسرعان ما أصبحت الريميتي نجمة الاغنية البدوية المنشقة والتي ستعرف فيما بعد بأغنية الراي. مست بجرأة لأول مرة الجسد في كل حالاته وأحدثت قطيعة جذرية في بنية القصيد الغنائي من خلال تمردها على أغنية الملحون السائدة آنذاك والتي كانت قريبة من حيث بنائها ولغتها الى قصيدة الفصحى الكلاسيكية. بدت الريميتي في أغانيها التي أصبحت شعبية صادمة للذوق السائد وللنزعة المحافظة للأغنية الجزائرية وذلك من خلال تناولها للخمريات بلغة غنائية حديثة وبسيطة بعيدة عن التكلف والتورية التقليدية. حولت الرميتي القصيدة الغنائية الى قصيدة نثرية أقرب الى الحياة اليومية وإلى هموم الناس ومشاكلهم اليومية، ورغم أنها حافظت خلال الخمسينات على الأدوات الموسيقية التقليدية من قصبة ناي وقلال دربوكة طويلة إلا أنها أضافت لها إيقاعاً وحيوية جديدة ومغايرة. لم تكتف الريميتي بتناول مواضيع الحب المألوفة بل تعدت ذلك الى المواضيع الملتزمة والمرتبطة بحرب التحرير الجزائرية، الأمر سبب لها المضايقة من الإدارة الكولونيالية واضطرها لمغادرة الجزائر والتوجه إلى مارسيليا. لكن بعد استقلال الجزائر عام ١٩٦٢ عادت رائدة الراي إلى غليزان وهران لتجعل من الراي لسان حال الفئات المهمشة. ركزت على وضع المرأة التي لم يتغير حالها بل أصبحت في مزيد من البؤس والتهميش، متسلحة بتجربتها الشخصية والنساء اللاتي تعرفت عليهن في حياتها. أذكر وأنا لا ازال طفلة كيف كانت الشيخة الريميتي التي كانت تربطني بها علاقة قرابة تأتي الى بيت عائلتي وتصغي إلى حكايات خالاتي وعماتي، لأسمعها لاحقاً في أغانيها. خلال الستينيات تمكنت الريميتي من أن تنشئ أسلوباً خاصاً أصبح نهجا لعدد كبير من الشيخات مثل الشيخات عيشوش العباسية والجنية والموشمة والزلاميت وغيرهن. لقد كان راي الستينات ظاهرة جديدة من حيث الجرأة في تفكيك التابوهات وتجاوز المحظور، وفي التعبير عن ذاك القلق الوجودي الذي انبثق في ظل جزائر ما بعد الحرب وتداعياتها عن تلك الصراعات الحادة بين القيم الذكورية التسلطية وقيم الحرية والتسامح. من خلال الراي النسوي طُرحت حرية المرأة كمسألة مركزية بلغة شعبية وصريحة، وظلت تتعرض للمضايقة والرقابة من قبل مختلف وسائل الاعلام.
من راي الشيوخ إلى راي الشباب
عشية استقلالها في يوليو ١٩٦٢، كادت الجزائر أن تدخل حربا أهلية بسبب الصراع على السلطة بين الأخوة الأعداء الخارجين لتوهم من الحرب التحريرية. حسم الصراع لصالح جيش الحدود الغربية الذي تمكن من الإطاحة بالحكومة الشرعية المؤقتة وإبعاد المتنافسين الآخرين من حملة السلاح وامتلاك هذا الفريق المنتصر بقيادة الكولونيل هواري بومدين، ليس فقط شرعية الحكم بل احتكر شرعية التاريخ والثورة باستخدام المسيرة الثورية ومواصلة التنمية وبناء الدولة الوطنية، وكان كل ذلك تحت هيمنة نظام الحزب الواحد والتوجه الاشتراكي الشعبوي. ظهرت جيوب مقاومة استخدمت أساليب عدة منها الإسلام الاحتجاجي وأغنية الراي. بالرغم من التناقض بين هذين التيارين الا أنهما كانا يتقاطعان في عدة سمات أساسية كالعفوية والهامشية والعنف اللفظي وقوة الرمزية المضادة. كان شيوخ الاسلام الاحتجاجي يعتمدون في خطابهم على اللغة الشعبية المباشرة والدفاع عن حرمة الجسد المنتهك وعن الحرية في الكلام، وكان شيوخ الراي يسجلون بغنائهم اعتراضاً على الرقابة ودفاعاً عن حرمة الجسد المكبل والمقهور.
اتسمت أغنية راي الشيوخ بنبرة احتجاجية حادة ولهجة قاسية لم توجه مباشرة الى السلطة، بل عبرت عن ذاتها من خلال تناول الحب والخمر والمرأة والرشوة والظلم الاجتماعي بأسلوب عنيف وصادم نظر إليه السلطة وممثلوها الايديولوجيون باحتقار، واصفين إياها بالابتذال والفحش، إلى درجة اتهامها وربطها بالنيوكولونيالية.
بينما اختار شيوخ الإسلام الاحتجاجي المصليات والجوامع لإعلان احتجاجهم لجأ الراي إلى الأعراس والاحتفالات غير المرخصة والملاهي، بالاضافة إلى الشرائط المسجلة التي سهل من تداولها شباب الخدمة العسكرية. وكما أضحى شيوخ الإسلام الاحتجاجي مثل العرباوي والحويذق وعبد اللطيف سلطاني ومحمد عثمان قادة لفئات عريضة من الناس، أصبح لشيوخ الراي أيضاً شهرتهم التي فاقت كل تصور. فمغني مثل المقلش صاحب الصوت الشجي والكلمة النقدية تحولت أغانيه مثل خلوني نبكي على راسي إلى شبه تميمة عند محبيه. نفس الامر كان للخياطي صاحب أغنية خلي طريق لبختة، خليها تفوت بحيث فاقت شهرته مغنيين كبارا يتمتعون برعاية السلطة مثل محمد العماري ورابح درياسة الذي عرف بأغانيه المشيدة بإنجازات الحكم. لقد كانت السبعينيات فترة الحلم الكبير للدولة الوطنية التي راحت تعد بالتقدم واللحاق بركب الدول الكبرى، ومن هنا اعتراها ذلك الهوس بالتحديث فاتجهت الى إعلانها ثوراتها الكبرى الثلاثة، وهي الثورة الصناعية والثورة الزراعية والثورة الثقافية. قامت بتأميم الأراضي وتوزيعها على صغار الفلاحين، كما أعلنت ديمقراطية التعليم ومجانيته وأنشأت المصانع الكبرى. هذا الخطاب التحديثي سرعان ما أوله الرايويون على طريقتهم ليقوموا هم الآخرون بثورتهم التحديثية فظهر جيل متمرد على الأجيال السابقة في مجال أغنية الراي، وكانت ثورة بلمو الذي ادخل آلة الساكسوفون على الراي وسيد أحمد زرقي الذي ثور أغنية الراي بالجيتار الكهربائي وخالد بالأوكورديون، وانتقلوا بالراي ذي الطابع البدوي إلى الحداثة، الأمر الذي جعل خصوم الراي ينتقدون موسيقى رأوا أنها دون مضمون هادف وتخلو من اللغة الشعرية الجميلة. لم يتوقف مغنوا الراي عند هذا الجانب المتعلق مباشرة ببناء الأغنية، بل تخلّوا عن مصطلح الشيخ واستبدلوه بالشاب، وكان ذلك تأثرا بموجة الأغنية الشبابية الوافدة من المشرق العربي.
ظهر مصطلح الشابفي لحظة معينة من تاريخ الجزائر، مباشرة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين المعروف بتوجهاته الاشتراكية، والمحاولات الأولى في عهد خليفته الشاذلي بن جديد بالتخلص من إرث البومدينية والانتقال الى الليبرالية واقتصاد السوق. لقد اتسمت هذه الفترة الانتقالية بالنقد اللاذع للسياسة السابقة وتوجه ايديولوجي يذكرنا بالفترة الساداتية في أيامها الأولى.
ظهرت أثناء المنتصف الأول من حكم الشاذلي بن جديد تناقضات مكبوتة تجلت من خلال قضايا مثل الهوية الجزائرية واللغة البربرية والدين والتعريب والمشكلة الفرانكوفونية. صعدكل ذلك إلى السطح دفعة واحدة، وفي ظل هذا المناخ المرتبك عادت أغنية الراي من جديد لتطرح نفسها بقوة. واجه الراي في البداية هجوما شرسا من الصحافة المعربة والتيار المحافظ الذي اتهم الراي بخدمة الاستعمار والمصالح الأجنبية، لكن هذه الأصوات سرعان ما بهتت عندما بادر التيار الليبيرالي باحتوائها من خلال تشجيعها وتوظيفها في مجال جذب الشباب الذي كان في توق شديد إلى الحرية. كان المهرجان الأول الذي أقيم في الجزائر العاصمة في المؤسسة التجارية الثقافية التي كان يشرف عليها عقيد مقرب من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بمثابة اعتراف رسمي بالراي. اعتقدت السلطة آنذاك أن الراي قد يشكل حاجزا أمام الإسلام السياسي الراديكالي الذي اصبح نفوذه يتعاظم بسرعة لافتة.
الراي في السياسة والدين
قابلت الشاب خالد في عام ١٩٧٩. كانت شهرته حينئذ لا تتجاوز حدود وهران وسيدي بلعباس وبعض مدن الغرب الجزائري، وكنت أنا في بداياتي الصحفية. أخذت القطار من الجزائر العاصمة إلى وهران، واتجهت الى حي الكميل حيث تقيم عائلته. لم أجده هناك. كان في خصام مع والده وبقيت طول النهار أبحث عنه. تمكنت أخيراً من لقائه بمساعدة شقيقه الأكبر بأحد الملاهي حيث كان يغني كل مساء. أتذكر أن والده لم يكن فخورا بنجله وقال لي وقتها إنه لا يرى أي مستقبل لابنه في الغناء، وكان يتمنى على الأقل أن يتجه بدل الراي إلى الاغنية الوهرانية النظيفة الخالية من الكلمات “البذيئة” كما قال لي، وكأنه كان يريد الاعتذار عن شهرة نجله. وعندما أخبرته انني لا أريد بمحاولة لقائي خالد الإساءة الى سمعة العائلة بل تبين ارتباط أغنية الراي بجذور الأغنية البدوية الأصيلة والثقافة الشعبية انفرجت أساريره، واعترف لي أنه هو نفسه كان يوماً ما من مرافقي سيدة الراي الشيخة الريميتي. كان مبنى عائلة خالد في الطابق الثالث على ما أتذكر، وكانت العمارة تقع في قلب الحي الوهراني الشعبي، وكان خالد صاحب السحنة السمراء والضحكة المجلجلة المتدفقة في طريقه إلى النجومية المحلية بأغنيات مثل يا الوليد والصادة، إلى جانب كوكبة من الأصوات الجديدة الصاعدة في سماء الراي مثل الشاب حميد الذي تميز عن زملائه بثقافته الجامعية، ومنحه لأغنية الراي شحنة صوفية شعبية، مما جعله في ذلك الوقت مقبولا حتى عند خصوم الراي. بالاضافة إلى حميد كانت هناك أصوات واعدة مثل الشاب صحراوي وبنصوار المعتاوي الذي اختفى وقيل إنه عاد إلى مسقط رأسه بوجدة المغربية وانعزل عن الغناء. كان أسلوب المعتاوي قريبا لأسلوب بلمو وبوطيبة الصغير والشاب الهندي والشابة فضيلة التي لم تكن تتجاوز السابعة عشر سنة، والتي لمعت بصوتها ذي حدة وتدفق مثير. جعلت منها أغنية البيرة عربية والويسكي قاوري نجمة الراي النسوي بدون منازع، وفتحت الطريق أمام بزوغ نجمة الشابة الزهوانية.
وبالرغم من التعتيم الإعلامي تمكن خالد وزملاؤه من تحويل الراي الى ظاهرة ثقافية وفنية ارتبطت بوهران التي أصبحت منارة للانفتاح والرفاهية وحرية المرأة. نظر المحافظون وسكان الشرق الجزائري إلى وهران بعين ساخطة، وتحولت في مخيلة الجزائريين إلى مدينة الإباحة والحرية الجنسية وأنواع الغناء المهدد للأخلاقية الجزائرية.
شكّل خالد (مواليد ١٩٦٠) وآخرون تيارا جديدا في الراي، مثّل قيم المدينة الحديثة والنزعة الفردية وتبجيل الحرية الجسدية، وجعل من الهجانة الثقافية في وهران ومشكلة مزج الثقافات المتنوعة المرجعية الفنية لأغنية الراي الوهراني، وراح ينافس بذلك تيارا آخر أكثر أرثوذكسية ونقاء داخل أغنية الراي كان يمثله راي محور سيدي بلعباس، عين تموشنت وسعيدة. هذا التيار حافظ على إرث الغنائية البدوية الممثلة في شعر الملحون وممثله شاعر قبائل بني عامر، مصطفى بن براهيم ١٨٠٠-١٨٧٠ والشيخ عبد المولى والشيخ المداني صاحب القصائد الشعبية الأقرب الى شكل القصيدة العربية الكلاسيكية.
تنازع التياران على السلطة والصدارة، وادعى كلاهما سلطة الريادة التاريخية للراي ورواية التحديث في آن واحد، ما جعل فرقة تنتقل من البلوز الى تحديث الراي متكئة في ذلك على الموروث الشعري الشعبي التقليدي، وأن تشدد في نفس الوقت على امتلاكها للراي الأصلي والحقيقي. كان اعادة استثمار قصائد كلاسيكية وإضافة الطابع العصري والتجديدي عليها مثل يا الزينةوخلوني نبكي على راييويا ميمونة ضياف ربي بمثابة اعلان هذا التوجه الثوري مما جعل من الراي الذي عانى الإقصاء والنبذ فنا مقبولا يُقدَّم في الإعلام الرسمي في الثمانينيات.
تأسست فرقة راينا راي من طرف مجموعة من المغنيين والموسيقيين المحترفين بين سيدي بلعباس وباريس، ولعب الثلاثي لطفي عطار وإخوته والهاشمي جلولي ومغني الفرقة قادة ثم فيما بعد الجيلالي، دورا مهما في تطوير أغنية الراي والارتقاء بها الى مستوى جعل منها ظاهرة ذات صيت تجاوز الحدود الجزائرية.
أحدث مهرجان الراي الثاني بوهران في المنتصف الثاني للثنانينيات، ومهرجان لوبيني بفرنسا انتقالاً بالراي من ظاهرة محلية إلى ظاهرة فرانكو-جزائرية. تزامن هذا الانتقال مع بروز نقاش صاخب في فرنسا حول مسائل ذات صلة بالهوية الجزائرية وهوية المغاربة والجزائريين على وجه خاص المهاجرين، او الجيل الجديد من الفرنسيين من ذوي الأصول المغاربية. كان هذا الجيل الثاني من الفرنسيين من ذوي الأصول المغاربية يعيش حيرة هوياتية ونزاعا وجوديا على مستوى الانتماء الثقافي وقد نعت هذا الجيل بـ beur، وتجلى ذلك من خلال الكتابات الأدبية والتوظيف المغاير للفرنسية نتج عنها لغة هجينة متمردة تشدد على تميزها عن اللغة الفرنسية الرسمية. كان هذا الجيل جيل الضواحي والأطراف يسعى من خلال تمرده اللغوي والثقافي الى تدشين هوية خاصة به، هوية ترفض الذوبان والاندماج الشكلي داخل المجتمع الفرنسي الذي ظل يتعامل مع ذوي الأصول المغاربية على أنهم أجانب. من هنا لم يعد الراي تعبيرا عن مهمشي الجزائر وحسب بل اصبح تعبيرا مزدوجا لهذا التهميش، التهميش هنا والتهميش هناك.
مثلما سعى التيار الليبيرالي في الجزائر إلى احتواء الراي ودمجه في استراتيجيات هادفة سياسياً واجتماعياً، لجأ أنصار الهجانة الثقافية في فرنسا إلى اعادة انتاج الراي كعنوان جديد لهوية الفرنسيين من ذوي الأصول المغاربية وذلك من أجل تنشيط عملية الإندماج ضمن الرؤية الكوسموبوليتية للمواطنة الفرنسية التي لا تشمل الثقافة والفن وحسب، بل تشمل الدين أيضاً، ليندمج هو الآخر ضمن الرؤية الفرنسية ذات الطابع العلماني.
كان استيعاب خالد وإعادة صناعته وفق شروط السوق الفرنسية أحد فرسان هذا الإدماج. بدأ ذلك مع أغنيته الشهيرة عيشةالتي كتب نصها غولدمان، أحد الأسماء الشهيرةفي سوق الاغنية الفرنسية، وانتهاء بأغنية cest la vie هاذي هي الحياة، بحيث تمازجت العربية بالفرنسية والأصالة الوهرانية بالحداثة الفرنسية.سار على درب الشاب خالد الشاب مامي الى جانب أحد مواليد فرنسا من أصول مغاربية وهو فضيل.
أدى اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر في بداية التسعينيات بالهجرة شبه الجماعية لعدد من مغني الراي، بحيث حلت باريس ومارسيليا محل وهران وسيدي بلعباس لتصبح العاصمة الحقيقية للراي وتحوله من سلعة جزائرية محلية الى سلعة عالمية ذات رواج كبير.
في الوقت الذي اصبح الراي ذو الصبغة العالمية يعيش مغامرته الجديدة، راح يبتعد شيئا فشيئا ليس فقط عن أصوله بل عن بيئته الحقيقية، لكن ذلك لم يحل دون انبثاق طريق محلي آخر للراي، راي اتصف بازدواجية لافتة تراوحت بين النزعة العاطفية الرومنسية القائمة على العنف المضاد والحثالة اللغوية، ويعتبر حسني شقرون المدعو الشاب حسني، ممثل تيار النزعة العاطفية لأغنية الراي بامتياز وهو من مواليد شهر شباط ١٩٦٨ وقتل عن عمر يناهز السادسة والعشرين في حيه قومبيطا بوهران في عام ١٩٩٤ على يد مجموعة إسلامية مسلحة، في سنة كانت ذروة الحرب الأهلية الجزائرية.
في خضم الحرب الأهلية وشراسة المد السلفي الجهادي وتعرض المؤاخاة الجزائرية الى تمزق تراجيدي وحقيقي وانهيار مشاريع الأمل وسيادة الذعر والرعب، كانت أغاني حسني تشيد بحياة فوق موج الكراهيات. الحب في هذه الأغاني كان محاولة عنيدة لإعادة ترميم الحياة بكل ما تحمله من نقاء وتوق إنساني الى التوحد. تحولت الحبيبة إلى بديل لوطن ممزق سكنته الحرب، وكانت الحبيبة من لحم ودم يتلاقى فيها كل تلك الرغبة الجامحة المليئة بإرادة العيش. لم تكن الحبيبة مجرد حلم هلامي بل حقيقة ملموسة، جسد يتحرك، يتنفس، يشرق بأشعته الباعثة للدفء والأمل والقدرة على التهكم من مجانين الحكم والدين.
في الوقت الذي انكمشت فيه الأغنية على نفسها وتدثرت النخب بخوفها وصمتها، امتلكت الأغنية الرايوية العاطفية ليس فقط قلوب الشباب، بل الفضاء الذي رفض الإذعان لمنطق الخوف والموت.كان الغياب والشوق الى الحبيبة والإصرار على الرحال لملاقاتها يمثل الحلم المجنون لهذه الفئة الشبايية التي فتحت عيونها على حرب شرسة. مقابل أخبار الموت والاقتتال والفراق والتردد على المقابر لدفن الأحبة والجيران، كانت أغنية الراي العاطفية تطرح نفسها في ركام ذلك الصمت كبديل إنساني من خلال لغة شعرية شفافة جعلت من اليومي الحميمي طريقها الى تحقيق سعادة فردية أمام الجنون الجماعي. لقد واجهت هذه الأغنية الحرب والإرهاب على طريقتها، ليس بالكراهية بل باقتراح الحب وتعميمه. رومانسية راي حسني النابعة من الأحياء المدينية الشعبية حولته من مغني رومانسي إلى قديس حقيقي احتل قلوب الشباب الجزائري. كان يوم مقتله بمثابة نهاية هذا الحلم، حلم تجاوز الموت ومنطق البرابرة الجدد.
بعد موت حسني ظهر تيار جديد داخل أغنية الراي قام على صناعة خطاب عنفي مضاد. مثّل هذا التيار المازوني والشابة جنات اللذين شكلوا عودة الى بدايات الراي الاولى، أي توظيف اللغة الصادمة كتعبير عن رفض مطلق وجذري للمجتمع المعترف به وسيادة منظومته الأخلاقية. الارتداد الى مثل ذلك الوضع كان يعكس حالة تفكك البنى الاجتماعية والأخلاقية في ظل تعاظم المذابح التي وصلت حد إبادة مئات القرويين والعزل على يد جماعات اسلامية غامضة.في ظل تلك الظروف تحولت حياة السراديب الى العالم الحيوي الذي راح يتنفس فيه هذا النوع من الراي العنيف لم يعد الجسد في متنه الا مرادف للعنف نفسه. مرادفا بليغا لكن في نفس الوقت مخربا كذلك النظام الرمزي الذي أصبح في نظر مغنيي هذه النزعة متهما ومطالبا بالزوال باعتباره مصدر الشقاء الجحيمي الذي أصبح يعذبهم ليل نهار.
أهم ميزة مثلت هذا التيار هو تحرره ليس فقط من المحظورات التقليدية، بل تجاوزها الى المحظورات التي ظلت لوقت طويل في طي الصمت بالنسبة لراي الثمانينيات أو ما قبله، منها المثلية الجنسية، حيث راح هذا التيار لا يغني فقط المثلية الجنسية والتغزل بالحبيب الذكر بل مكن المثليين ليصبحوا نجوما ويغنون حياتهم الجنسية والغرامية دون الخضوع لأي رقيب. يعتبر هواري منار ومقلدوا الشاب عبدو من أشهر ممثلي هذه الموجة من الري العنيف او الهارد-راي.
من ملحمة الهامش إلى سنوات الدهشة والحيرة
ربط الانتروبولوجيين حميدة بن نعوم ومسعود بن يوسف بين الراي وجذوره الهلالية، أي بداوته العربية العنيفة، وذلك من خلال الصلة القديمة بينه وبين الشعر الشعبي المسمى بالملحون. اعتبر الراي نتاجا من نتاجات الأزمة الجزائرية عبر مختلف الأعقاب مرورا باللحظة الكولونيالية التي دخلت في ظلها المجتمع الجزائري أزمة عميقة تتخللها صراع بين القيم التقليدية وقيم الحداثة.
كجزء من ثقافة الهامش، عبّر الراي بشكل أكثر تعقيدا عن حالة الصراع المجتمعي الجزائري، لكن هذا الصراع لم يتخذ شكلا واضحا ودقيقا في فترة بناء الدولة الوطنية وما حدث من نزاع حول مسألة تحديد الهوية الجزائرية وظل ذلك خاضعاً للعبة السياسة وتجاذباتها الأيديولوجية، ولهذه الأسباب ربما ظل الراي، رغم افتخار الجزائريين بالعالمية التي اصبح يحظى بها، يشكل جدلا بين مناصريه وخصومه وتيار الوسط الذي يدعو إلى أخلقته أي اعادة صياغته وفق المنظور الأخلاقي الرسمي، وهو ما ظهر جليا في مهرجانات الراي التي تشرف عليها وزارة الثقافة الجزائرية، إذ أطلق عليه مسميات مثل الاغنية الوهرانية، وراي بلادي في مهرجان سيدي بلعباس حيث ركز المنظمون على إدراج أنواع أخرى من الأغاني في المهرجان، كأنهم يحاولون الاعتذار عن تلك التهمة التي ظلت تلاحق الراي رغم الشعبية التي بات يحظى بها وهي “اللاأخلاقية”.
ظل الراي معبراً عن الأزمة الجزائرية للدولة الوطنية التي لم تستجب حتى يومنا إلى دعوة رسملة التعدد الثقافي بالجزائر، ووصلت الى حد بعيد مائلة الى النزعة شبه الاحتكارية للهوية والثقافة الوطنيتين. من جهة أخرى دخل الراي نفسه أزمة خلال العشرين السنة الاخيرة. لم يتمكن مغنوا الراي من خلق جمالية جديدة وأصبح الراي مجرد تكرار مستمر على صعيد اللحن والكلمات، ولم يتمكن في عشرين سنة، من تجاوز الحدود التي وصلها ملوكه وملكاته في التسعينيات.