عندما بلغت سلطانة داوود الثانية من عمرها، أصابها الجدري وتسبب بفقدان بصرها بعد محاولات علاج يائسة أضرّت بها. ظلت الصبية سجينة المنزل لفترة طويلة، إلى أن قررت أمها إرسالها إلى مدرسة مكفوفين لتعلّم البرايل نظام قراء وكتابة للمكفوفين يعتمد على اللمس.. تلقت نصيبًا من التعليم وامتهنت تغليف الكراسي بعد مغادرتها المدرسة إلى أن تقيّحت أصابعها. لم تتحمل والدتها رؤيتها على تلك الحالة. أرادت لها قدرًا مختلفًا، أن تنعم ابنتها بالفرح في حياتها وأن تكون قادرة على إسعاد الآخرين. في سن السادسة عشر، عرضتها والدتها على سعود الوهراني.
أدار الوهراني مدرسة موسيقية في قلب وهران وكان له مقهى في الدرب، الحي اليهودي للمدينة. تعلقت سلطانة – التي تحوّل اسمها إلى رينات فيما بعد – بمعلمها الذي لقّنها أصول الغناء الأندلسي، ورافقته إلى فرنسا بدايةً من سنة ١٩٣٨، قبل عودتها إلى الجزائر واستقرارها في العاصمة لتدشين مسيرة مستقلة عنه. بحلول سنة ١٩٤٣، قبض النازيون على سعود برفقة ابنه يوسف ذي الثلاثة عشر سنة، ضمن حملات اعتقال الرافل التي اجتاحت فرنسا واستهدفت اليهود لترحيلهم إلى معتقلات مثل أوشويتز وغيره.
قُتل سعود وابنه في معتقل صوبيبور في بولندا، ما حفر جرحًا عميقًا داخل رينات التي عاشت خليطًا من الألم والمجد إلى بداية الستينيات مع حرب التحرير الكبرى في الجزائر، عندما أُرغمت على الهجرة إلى فرنسا. نُسيت رينات لسنوات طويلة هناك، واعتقد كثيرون بأنها توفيت.
رينات وسعود الوهراني
منح سعود الوهراني تلميذته اسم رينات، تصغيرًا لكلمة ملكة بالفرنسية وترجمةً لعوبة لاسمها الأصلي سلطانة، فيما أشارت مراجع أخرى إلى أنه شبّه أداءها بِصوت ضفدع صغير عندما استمع إليها أول مرة، وأطلق عليها اسم رينات الذي يعني ضفدع المستنقعات بالفرنسية، تحبّبًا. كان سعود عازفًا على الكمان. نشأ في تلمسان، إحدى كبرى الحواضر التي تأثرت بالثقافة الأندلسية، قبل انتقاله إلى وهران صغيرًا، وتلقف عن والده أصول الطرب الأندلسي وخاصةً الحوزي، الذي نشأ عن التقاء التراث الأندلسي القادم من هجرات اليهود والمسلمين الفارين من شبه الجزيرة الإيبيرية، مع التقاليد الموسيقية الحضرية في تلمسان.
استقر الطرب الأندلسي – وتحديدًا الغرناطي – في تلمسان منذ القدم، نظرًا للعلاقات التاريخية القوية التي ربطت بنو الأحمر، من الأسر الإسلامية التي حكمت غرناطة، بالزيانيين الذين استقروا في تلمسان منذ سنة ١٢٣٦ بعد انفصالهم عن الموحدين؛ وقبل خضوع المدينة للاحتلال العثماني سنة ١٥٥٤. استقبلت غرناطة جموعًا من هجرات المسلمين واليهود الذين هربوا من البطش المسيحي في الأندلس، وانصهرت فيها أصناف الموسيقى الأندلسية لتنشأ مدرسة موحّدة عبد العزيز عبد الجليل، مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية، صفحة ١٦٨..
توجه المهاجرون من الأندلس، مسلمين ويهود، إلى بلاد المغرب. استقبلت تونس مهاجري إشبيلية وكانت فاس وجهة مهاجري فالنسيا، فيما استقر مهاجرو قرطبة في الجزائر بداية من تلمسان وأفرغوا حمولتهم الموسيقية هناك، التي تطبّعت بالبيئة المحلية وأفرزت الحوزي التلمساني. أثناء ترحّلها بين الحواضر الكبرى، فرّخت الموسيقى الأندلسية المالوف في قسنطينة والشعبي في العاصمة بجانب الحوزي التلمساني.
تأثرت الجزائر بالأسلوب الغرناطي الجامع، ومنه تفرعت بقية الأنماط. انتشر الحوزي كنسخة تلمسانية شديدة الخصوصية للطرب الغرناطي، واستوعب مواضيع الحياة اليومية، كما انتقل تدريجيًا إلى بقية الحواضر الكبرى في الجزائر. ساهمت نشأة سعود التلمسانية في نشر نمط الحوزي في وهران عبر مدرسته، مستكملًا مسار انتشار الحوزي عن طريق التلقين من مدينة إلى أخرى.
تعلمت رينات الإيقاع والموازين في البداية، ثم المندولين وأخيرًا العود، وبعد أن أدت القصائد الطويلة ونوبات المالوف أو الصنعة، شغفت بالحوزي الذي كان الأقرب إلى لسانها وغنائها. أدت رينات برفقة معلمها حفلات يومية في المقهى الذي أداره في حي الدرب، والمسمى اختصارًا لدى الجميع بـ قهوة سعود، وشكّلا ثنائيًا مؤثرًا خلال فترة ما بين الحربين في الثلاثينيات وأصدرا أسطوانات عدة.
خلال تلك الفترة، ازدهرت الكباريهات والمقاهي الغنائية في وهران ما بين الحربين. استقطبت عروض سعود ورينات اليهود والمسلمين. أدت رينات بالعربية والعامية رغم أنها لم تكن لغتها للتواصل في حياتها اليومية. حظي اليهود الجزائريون بالجنسية الفرنسية طبقًا لِمرسوم كروميو الصادر في ١٨٧٠، والذي قضى بجعل يهود الجزائر مواطنين فرنسيين؛ فمزّق الأحياء التي كان فيها مسلمون ويهود عن بعضها، ما جعل كل مجموعة تستقل جغرافيًا. لم يمنع ذلك المسلمين واليهود من التعايش على المدى البعيد. أشار المؤرخ روبرت عطال إلى الأمر بشكلٍ ساخر Robert Attal, Constantine, le cœur suspendu, Paris, L’Harmattan, 2006, p. 170.: “بدأت المدينة (يقصد قسنطينة) شيئًا فشيئًا بالانقسام إلى جزئين. حتى المدارس لم تسلم من انتشار العداوة، لكن في ذلك العمر، كان يكفي أن يلقي أحدهم بِ كُرة في الساحة حتى يجتمع الفريقان.”
اجتهدت رينات لإتقان أداء التراث الأندلسي الفصيح رغم تعثّر نطقها الظاهر في التسجيلات المبكرة: “بما أنني لم أكن مسلمة، جاهدت في حفظي للكلاسيكيات الأندلسية حتى أؤديها بنطقٍ عربي سليم، ما أكسبني جمهورًا واسعًا من المسلمين الذين يطلبون دائمًا أن أستمر في أداء الكلاسيكيات.”
في إحدى التسجيلات المبكرة على أسطوانات بوليفون الثلاثيناتية، يتصدّر صوت المقدم قائلًا: “أسطوانات بوليفون، رينات، تلميذة سعود الوهراني.” رسّخ سعود صورة المعلم الحاضن وابتلع حضور رينات في بداياتها؛ وكان تعلّقها به قويًا لدرجة بعيدة. في وثائقي ميناء الأحبة الذي أخرجته جاكلين غزلان سنة ١٩٩٢، استعاد أحدهم ما قاله سعود عن رينات: “رينات تبصر كل شيء، حتى عندما أبتسم لإمرأة.”
عدا عن دوره كمعلّم ومرافق، كتب سعود أغنية اعذروني يا سادات لِرينات، عن فقدانها لبصرها. غلب التضرع على أداء رينات وتسليمها بالمكتوب والقدر: “يا رب العالمين / اعطيني ضو عينيا / اعطيني ضو العين / واغفر ما في الجبين.” في تسجيل آخر للأغنية بعد موت سعود، غيرت رينات من آخر مقاطع الأغنية من “تحرق جراح الخدود / مصارى وعرب ويهود / يخليلي معلمي سعود / هو الحنين عليا”، إلى “يرحم عمي سعود / اللي كان حنين عليا.”
قرّر سعود الوهراني السفر إلى فرنسا ورافقته رينات سنة ١٩٣٨. استقر لفترة في باريس وفتح كباريه في شارع برجار في باريس، لكن رينات لم تستمر معه طويلًا وعادت إلى الجزائر بعد إصرارٍ من سعود الذي دفعها إلى بداية مرحلة مستقلة عنه، من بوابة راديو الجزائر. ساهم سعود في نشر الحوزي والطرب الأندلسي في كباريهات الموسيقى في فرنسا وجذب الجمهور إليها. تزامنت تلك الحقبة مع متغيرات الحرب العالمية الثانية واحتلال فرنسا من قبل ألمانيا النازية. قُبض على سعود من طرف الألمان أثناء حملات التفتيش المكثفة ضد اليهود، الرافل، في مرسيليا في ٢٣ يناير ١٩٤٣، وقتل في معتقل صوبيبور في بولونيا برفقة ابنه يوسف.
ترك موت سعود أثرًا بليغًا لدى رينات التي رثته في نشكر الكريم بأداءٍ يقترب من الترتيل ومشبع بالتفجع. في مقطع “نشكر ربي على مكتوبي”، تشدّد رينات على حرف الباء عند لفظ ربي، في مزيجٍ من التحسر والألم، ثم ترثيه بنبرةٍ مكلومة كمن تبكي شخصًا يتّمها رحيله: “سعود الوهراني / هو علمني / بالإشعار نتكلم / الموت فرقتنا / في قلبي بقات غبينة” ثم تختم على طريقة شعراء الحوزي الكلاسيكيين الذين يوقّعون أشعارهم معرّفين بأنفسهم “رينات الوهرانية بكلامها تختم.”
ميراث سعود لرينات | الحوزي
كان من الصعب على رينات تحمّل غياب سعود وتقبّل نهايته المأساوية. عدا عن أنه شيّد لها طريق البدايات، أنقذ سعود حياة رينات مرتين؛ الأولى عندما علّمها صنعة الموسيقى وحقق لها ما أرادته والدتها التي رغبت في أن تحظى ابنتها بشغل يسعدها ويسعد غيرها بحسب شهادة رينات في وثائقي ميناء الأحبة.، والثانية عندما أقنعها بالعودة إلى الجزائر وأنقذها من المصير الذي لاقاه.
عند عودتها إلى الجزائر، أصبح لرينات عرض أسبوعي على راديو الجزائر تؤدي خلاله تراث الحوزي والصنعة، وشكّلت مع الشيخة طيطمة ومريم فكاي وفضيلة الدزيرية وأليس فيتوسي صفوة المشهد النسائي في الغناء الجزائري. تزامنت تلك الفترة أيضًا مع بروز أليس فيتوسي في قسنطينة كإحدى نجمات الغناء، بالإضافة إلى ليلي بونيش وبلون بلون. ربما كان لرجوع رينات إلى الجزائر ومحاولتها الانطلاق عبر الراديو ارتباط بتأثير نجاح ليلي بونيش المبكّر في الراديو، بداية من سنة ١٩٣٦ في سن السادسة عشر، وهو الذي كان صديقها وزميلها في مدرسة سعود.
استندت رينات على معلم ثانٍ، عبد الرحمان بلحوسين، الذي رافقها وصقل أدائها ودرّبها أكثر على أصول النطق الفصيح وأداء بعض الكلاسيكيات الأندلسية، ما وسّع رصيدها الغنائي. أسست رينات فرقتها الخاصة وضمت عازف البيانو مصطفى السكندراني الذي رافقها إلى آخر حياتها، كما تعرفت إلى الحاج محمد العنقة، رائد الشعبي، ورافقته لفترة طويلة كعازفة في الأوركسترا الخاصة به، لتكسر بذلك احتكار الرجال لمهنة العازفين في الأوركسترا.
ظلت رينات تقليدية ومحافظة في موسيقاها خلافًا لزميلها في مدرسة سعود، ليلي بونيش، الذي انفتح على موسيقات من العالم، مستفيدًا من التواجد الأمريكي في الجزائر بدايةً من نوفمبر ١٩٤٢، والأصوات التي وفدت معه إلى المقاهي ومسارح الغناء.
من بين كل الأنماط التقليدية الأندلسية، اشتهرت رينات بِالحوزي. تفرّع الحوزي عن الطرب الغرناطي بجانب أنماط أخرى، مثل الغربي الملحون نسبة إلى المغرب، والذي تصنفه بعض المراجع كسلفٍ لنمط الشعبي الذي ظهر خلال القرن العشرين في الجزائر العاصمة وازدهر على يد العنقة؛ والعروبي الذي ارتبطت مواضيعه بالريف وتميز بخصوصياته اللهجية مثل نطق القاف المعقودة؛ بالإضافة إلى الزنداني والحوفي الذي يتميز عن الحوزي كونه من نظم النساء.
تميز الحوزي عن الغرناطي الكلاسيكي باختيار اللسان العامي محل العربية الفصيحة، واكتسب تسميته من الحوز أو الأحواز، أي أطراف المدينة، في إحالة إلى ثنائية المركز والأطراف. عرّف عبد الحميد بن حاجيات في كتابه الجواهر الحسان في نظم أولياء تلمسان الحوزي بأنه شعر منظوم بالعامية حسب أوزان خاصة، تخالف أوزان الموشح والأزجال صفحة ٩.، واعتبره نسخةً تلمسانية محلية للملحون الذي انتشر في بلاد المغرب الكبير واعتمد على العامية وكان خاليًا من قواعد الإعراب.
انتشر الحوزي بشكل كبير خلال العهد العثماني حيث ضبطت قواعده وأحكم تلحينه، وتميّز برقة اللغة وثرائها وجمال الصور، وبكونه أصدق تعبير عن الحياة اليومية خلال القرون الماضية المصدر السابق، صفحة ١٥.. انتشر الحوزي لقربه من هواجس العامة ولغته الشعرية العامية السلسة التي سمّاها ابن خلدون في كتابه الإيبار عروض البلد، كونها تختزل روح الشعب في تعبيرة شعرية مكثفة بلسان العامة.
حسب بعض المؤرخين ومنهم عبد الحميد حاجيات، تزامنت بدايات الحوزي في القرن السادس عشر مع تراجع الشكل الكلاسيكي في القصيدة العربية وبداية ازدهار العامية كلغة شعرية وغنائية مع فحول الشعراء التلمسانيين مثل سعيد بن عبد الله المنداسي وأحمد بن تريكي ومحمد بن مسايب وبومديان بن سهلة ولخضر بن خلوف وامبارك بولطباق وآخرين، بالإضافة إلى أسماءٍ من القرن العشرين مثل قدور بن عاشور والشيخ محمد الرمعون. غنت رينات لفحول شعراء الحوزي، مثل بن تريكي وبن سهلة والمنداسي.
تعددت مواضيع الحوزي واستعاد شعراؤه خصوصيات أندلسية مثل التغني بالطبيعة والمسرات، وامتد ليشمل تفاصيل الحياة اليومية حيث تحول في عديد من القصائد إلى سرديات ذاتية على لسان الشعراء أمثال بن سهلة وبن تريكي، وانتقل بين ثيمات متنوعة أخرى مثل الحب وكذلك المديح والمواعظ، فيما كان الفراق من أهم الأغراض، وهي النصوص التي تناولت الإبعاد عن الديار وفي الغالب تلمسان.
غنت رينات لفحول شعراء الحوزي مثل بن سهلة في كيف اعمالي وحيلتي، وهو نفس اللحن التراثي الذي استلهم منه الشاب خالد أغنيته روحي يا وهران. كما استمرت في أداء كلاسيكيات الحوزي مع أهم الشعراء التملسانيين، واستعادت أغنية خيال موني التي نظمها الشاعر أحمد بن تريكي، تلميذ سعيد بن عبد الله المنداسي. تأثر بن تريكي بانفصاله عن مدينته تلمسان بعد أن طردته السلطات العثمانية منها، وارتبطت أغلب قصائده بالمنفى. في خيال موني، تغنى بن تريكي بامرأة إنجليزية تدعى موني تعاطفت مع سكان مدينة تلمسان ضد هجمات الكونت ألكودات في القرن السابع عشر.
خلافًا لأغلب المعلمين الأوائل الذين سبقوها في أداء الحوزي، تملك رينات توقيعًا صوتيًا مميزًا يظهر بشكل جلي في المواويل أو الجسور الغنائية، من خلال استعمال مكثف للآهات تستغله للشروع في الغناء، مثل اللي يعشق حرام التي استعملت فيها أسلوب الفرانكو آراب الرائج وقتها، وما زال حي ما زال. انتشر أسلوب الفرانكو آراب بشكل خاص في وهران، متأثرًا بأغاني المنوعات الفرنسية، وتصدّر إلى باريس منذ الأربعينيات مع بلون بلون وموريس المديوني، كما أثّر فيما بعد على تشكّل الراي العصري ونصوص أغانيه الهجينة.
في مقابلة إذاعية شبّهت رينات مواويلها بِـ الفلامنكو، في إشارةٍ صريحة إلى التأثيرات الأندلسية ومزاج أدائها الحزين، وأظهرت في أغلبها تأثرًا بالاستخبارات الطويلة هو ما يعادل التقسيم في الموسيقى المشرقية. ارتجال على آلة موسيقية في مقام موسيقي معين (عادة ما يكون لافتتاح مقطوعة أو أغنية) غايته تركيز صوت المقام وإبرازه. هنالك معنى آخر للاستخبار في المالوف الجزائري الذي عادة ما يكون بعض الأبيات في قصائد الحوزي أو الملحون، يُستهل بها الغناء. مثل نشكي لله من بلاني. شكّل الحزن ثيمةً قوية في أسلوب رينات والمواضيع التي اختارتها. إلى جانب وجع قصص الحب والغربة، غنت رينات وجع الفراق الذي سجّل حضوره في مواضيع الحوزي وغنت الفراق رماني.
في أغلب أغاني رينات، نكاد نحرز ذروة في أدائها من خلال تصعيد جليّ عند نهاية كل مقطع، لكنها سرعان ما ترخي الإيقاع وتليّنه وتعود إلى وتيرة الجواب بعد قرار مثير في نزوعٍ واضح إلى التطريب. في قلبي بالحب، من بداياتها المبكرة من تسجيلات بوليفون، تظهر لكنة يهود وهران في صوت رينات مع غرغرة لذيذة ميّزت صوتها من بين جميع مغني الحوزي والطرب الأندلسي.
شكّلت أغنية نحبك نحبك الشكل الأكثر اكتمالًا لشخصية رينات وأسلوبها. تبدأ رينات بموال طويل عتّقه صوتها المثخن بالشيخوخة والمحمّل بجراحات أزمنة قاسية مرت عليها، ثم يتفجّر أدائها عند أولى مقاطع الغناء: “نحبك نحبك / نحبك ونموت عليك / واللي تطلب نعطيك / انا عمري بين ايديك.” تلوّن رينات لازمة نحبك نحبك بأكثر من نبرة، منتقلة بين التضرع واليأس والفرح والحماسة والحزن، مستعطفة ومستجدية، حزينة ومنكسرة، مع لحظات قصيرة من البهجة. أكسبت رينات الأغنية حياةً تضج بالحركة والإيقاع، واستوعبت تقلباتها بين حالات مزاجية مختلفة.
لولا هذه الخصوصيات الأدائية التي ميزت أغانيها، لكان الحوزي مقتصرًا على أداءٍ رتيب وطويل مثل بعض الكلاسيكيات القديمة. كان الحوزي الأقرب إلى رينات من بقية الأنماط لسلاسته وزخم موضوعاته وإرث التعبير الذي أوجده شعراء فحول مثل من مسيب وبن سهلة، وثيماته المتعددة التي تحكي وجع الفراق والمحبة والغربة؛ ثلاثية حفرت في صدر رينات جروحًا غائرة.
الغربة والنسيان والاعتراف المتأخر
مع بداية الستينيات، اشتعلت حرب التحرير الكبرى في الجزائر منذرةً بقرب نهاية مائة وثلاثون سنة من الاستعمار الدامي. بقدر ما سيطر التفاؤل بالاستقلال على المزاج العام، إلا أن مصير الهجرة كان في انتظار يهود الجزائر. سبق ذلك إلغاء مرسوم كريميو سنة ١٩٤٠ خلال فترة نظام فيشي وسقوط فرنسا بيد النازيين، ما جرّد يهود الجزائر من امتيازات الجنسية الفرنسية وأشعل فتيل المواجهات صلب المجتمع، وصولًا إلى اغتيال الشيخ ريموند، أحد أهم أسماء المالوف وقتها، في السوق القابع في قلب قسنطينية بعد أن راجت أقاويل عن تعاونه مع الاستعمار الفرنسي. عرف يهود الجزائر مرحلة حرجة خلال آخر سنتين للثورة، ومع حلول سنة ١٩٦٢ هاجر عشرات الآلاف من يهود الجزائر واتجه أغلبهم إلى أوروبا.
استقرت رينات في باريس بصحبة زوجها جورج العياني، الذي كان عازف عود وتركه ليتخصص في الإيقاع ويرافق رينات. اختنقت بالغربة هناك واعتزلت الغناء لفترةٍ طويلة. انطفأ حضورها بعد أن شهدت ذروة مجدها بين الأربعينيات والستينيات، واقتصر على بعض مناسبات جاليات اليهود المغاربة في المهجر. اختفت رينات تدريجيًا وغاب اسمها، فيما ذهب في اعتقاد الأغلبية أنها توفيت.
سنة ١٩٨٤، كان الصحفي بجريدة ليبيراسيون، فيليب حموص، بصدد العمل على بحث استقصائي عن المطربات اليهوديات، إلى أن قاده موريس حطاب، صحفي في راديو بور وسمّيع طرب أندلسي، إلى اكتشاف امرأة سبعينية اقتصر حضورها على حفلات اليهود ومناسباتهم الدينية. تحمس الثنائي لرينات التي خفت صيتها منذ انتقالها إلى فرنسا، ودفعاها إلى إحياء حفل في الباستيل شاركها فيه موريس مديوني، ابن أخ معلمها الراحل سعود، ومصطفى السكندراني. استعادت رينات حياتها مرة أخرى وأصدرت ألبومها ميموار. بقيت أسطوانات رينات وحفلاتها في فرنسا فرصةً لحفظ تراث الحوزي واستمراره بعد أن اقتصر على أداء الشيوخ الأوائل.
تُوجت مرحلة الاعتراف المتأخر سنة ١٩٩٥ بجائزة أكاديمية شارل كرو عن ألبومها ميموار، وأخرجت جاكلين غزلان فلمها الوثائقي الطويل عنها، ميناء الأحبة، سنة ١٩٩٢. قال عنها دحمان بن عاشور بعد أن استمع لتسجيلٍ لها في راديو مغربي: “أنتِ أعلى قامة من برج إيفل.”