لعبة الانحطاط
استعمرت فرنسا فيتنام في العام 1883. كانت البلد المسترخية في أطراف حقول الأرز آنذاك قاعة خلفيّة لمداولات القوى الإقطاعيّة التي قسّمت الصين إلى إقطاعيّات نفوذ. وكان لا بد لفرنسا من السيطرة على فيتنام، وإلحاقها بمناطق نفوذها في لاوس وكمبوديا، لقطع الطريق أمام السيطرة البريطانيّة. بذلك، رسمت فرنسا حزاماً آمناً يمتدّ من جنوب غرب الصين إلى شرق آسيا.
أطلقت فرنسا على البلاد التي استحوذت عليها في لعبة فيديو: “الهند الصينيّة“. بهذه التسميّة، لم تكن القوة العظيمة تشوّه التاريخ فقط، بل كانت تُفرزِن ثقافة كاملة: سِحَن، وعيون على شكل أسماك، ونسيج قبّعات القشّ، وطريقة مثاليّة لالتصاق اليدين عند التحيّة. كانت التسمية الاعتباطيّة التي تُجمِل وتصنّف، على طريقة بائع خضار ملول يرتدي قميصاً أبيض تلتصق زاوية أكمامه لدى إبطه بالعرق والرطوبة، تمهّد الطريق لإقصاء أيّ تفاعل وتواصل مع أشباه القردة.
القاعدة الكولونياليّة تقول: إذا أردتّ إذابة أيّ إحساس بالتعاطف، قم أولاً بنفي خصوصيّة الآخر: إقصاء أي ملامح فرديّة يمكن استعادتها لاحقاً.
هذا ما فعله موديلياني مثلاً. الرسّام الإيطاليّ الذي عاصر بيكاسّو رسم الكثير من النساء اللواتي عاش معهنّ علاقات قصيرة. ولكي لا يتورّط عاطفيّاً مع الجميع: رسم عيونهنّ، ثم طمسها.
في نفس الوقت، كان الأنثروبولوجيّ الفرنسيّ كلود ليفي شتراوس يتجوّل في أميركا الجنوبيّة ضمن بعثات مختلطة: تبشيريّة وبحثيّة. واضعاً الفرق ما بين المجتمعات الباردة والحارة. ومفكّراً في الإحباط التاريخيّ الذي تتركه المدن الكبرى في العالم الجديد. واصفاً إياها بأنها “بلاد اجتازت البربريّة إلى الانحطاط من دون أن تعرف الحضارة“.
كان الجميع يلعب لعبة الانحطاط هذه، حتى دخلت اليابان إلى المنظومة لتحتل فيتنام. ثم أميركا. هذه الفترة التي أفرزت 11 ألف مستشاراً عسكريّاً في وقت واحد. وأفرزت أحكاماً جمعيّة– مرة أخرى، لتقسيم فيتنام: شيوعيّة وليبراليّة.
في ذلك الوقت وفي العام 1956، كانت صبيّة فيتناميّة تبلغ 14 عاماً تهاجر مع والدتها من فيتنام الشماليّة إلى الجنوبيّة، لتبدأ مهنتها كمغنيّة في المسابقات الإذاعيّة والنوادي الليليّة. اسم هذه الصبيّة خانه لي. وستشتهر لاحقاً كأهم المغنيات الفيتناميات، وأول ديفا فيتناميّة يخصّص لها حفل موسيقيّ.
“بدأ الكون من دون الإنسان، وسينتهي بدونه“
لا أذكر كيف ومتى تعرّفت على خانه لي. لكن أذكر أنني كنت أتسرّب تدريجيّاً، لدى سماعها لأول مرّة، إلى صوتٍ بلديّ حالم بدون ابتذال، حزين من دون سبب حقيقيّ، وكئيب إلى درجة منعشة ومتخفّفة. المساحات التي يتركها امتداد صوتها إلى ما بعد النغمة الأخيرة في الأغنية تجرح على سعتها. كنتُ في حالة محليّة صرف. ولأنني لم أشعر بالتغريب، بدأت بالبحث عن سبب هذه الألفة.
في البداية، قارنتها مباشرة بفيروز. لدى الاثنتان نفس التداعي البائس أمام الأطلال والخريف والمطر. وتتحدّثان عن نفس الأشخاص الذين يظهرون في الطبيعة ويغيبون فيها.
خاصة أن أول أغنية سمعتها لخانه هي Diem Xua “يوم في الماضي“. والتي غنتها في العام 1967، عندما كان عمرها 23 عاماً.
الأغنية تترك نفس الإحساس الريفيّ لدى أغاني فيروز مع الأخوين. الطبيعة هنا ليست عناصر يمكن الشعور بها فقط؛ الطبيعة هنا تتحرّك وتؤثّر وتنفعل: “لسا المطر عم ينزل عالمعبد العتيق: إيديك النحيلة، ورق الخريف عم يهرّ، وفي صوت خطوات ناعمة. بطلّع لبعيد: ليش ما بترجع؟“.
وعندما تتحرّك الطبيعة بهذا الشكل، يمكن فهم ليفي شتراوس بشكل أفضل عندما يقول: “لقد بدأ الكون من دون الإنسان، وسينتهي بدونه“. لا يتعلّق الأمر بالوحدة تحديداً. الطبيعة ليست وحيدة، كما أن الإنسان في جماعته ليس وحيداً حكماً. لكن اختلاطهما هو ما يمنح ذلك الشعور بالخفّة البدائية.
وغياب شخص في هذه الطبيعة يحيل انتظاره إلى حالة عدميّة، يتساوى فيها الحسّ الآدميّ مع انفعال الطبيعة: “بعده المطر عم ينزل. الدنيا متل بحر هايج. كيف بتعرف إنه القبر ما بيوجعه شي؟ بترجّاك خلّي المطر يمرق على هالأرض الوسيعة. حتى الحجارة بتحنّ لبعضها بهالأيام اللي جاية“.
كانت الكلمات تضع خانه لي في حالة شبيهة تماماً بالحالة الفيروزيّة. لكن، ومع الاستماع إلى عدد أكبر من أغاني الأولى، بدأت عناصر التشابه بالاختفاء.
إلى أن ماتت سلوى قطريب.
وكالعادة، اللهاث وراء تركة الميتين حديثاً– في سبيل إيجاد ما يلمّعهم أو تجاهلهم إلى الأبد، دفعني إلى البحث في سيرتها، والانغماس في أغانيها مرة أخيرة. وهنا وجدت ما كان ينقص هذه الفرضيّة: خانه لي هي سلوى قطريب الفيتناميّة بالفعل.
فيتنام اللبنانيّة
يجتمع لبنان وفيتنام في أنهما احتضنتا حروب الآخرين على أرضيهما. إضافة إلى اعتبار البلدين حظيرة أمميّة للقبض على نفوذ المنطقة. الاستعمار الفرنسي في البلدين أفرز طبقات إقطاعيّة استحوذت على التجارة والصناعة والتاريخ. واستعملت الإيدولوجيّات فيهما للاقتتال الأهلي: الإثنيات في فيتنام (الصينيّة والسينو–فيتناميّة)، والطوائف في لبنان. الطبيعة موجودة برعويتها في البلدين. والطبيعة، أيضاً، باقية لترسّخ الابتذال الفولكلوري من جهة، ولتحقّق الكآبة الطلليّة من جهة أخرى.
ورثت خانه لي وسلوى قطريب كل هذا الخواء الخانق. ولدتا في نفس الجيل، لا يفصل بينهما إلا خمسة سنوات، وهاجرتا من ريف إلى مدينة: خانه لي من بلدتها في الشمال إلى مدينة سايغون العصرية في الجنوب، وقطريب من بلدتها في الجبل إلى بيروت. لتبدأ القصة النموذجيّة للريفيّتان في المدينة.
كان ذلك بمساعدة، وتبني رجلان في حياة كلا منهما. إذ كتب ولحّن معظم أغاني خانه لي الموسيقيّ والرسّام ترينه كونغ سون (1939-2001). بينما استندت قطريب في المسرح والغناء إلى خصوبة الموسيقيّ روميو لحّود.
وعند النظر إلى أغاني الاثنتين نجد أن المزاج الجنائزي واحد. هنا يكمن الاختلاف مع فرضيّة فيروز الفيتناميّة. إذ أن الأخيرة اشتغلت على أغانٍ بقصد الاحتفاء بالطبيعة، وبالوعيّ المدنيّ – لاحقاً مع زياد، وبالحالة الهشّة التي تسمّى وحدة الحال اللبنانيّة. بينما توارت خانه وقطريب وراء فرديتهما في أغنية واحدة طويلة ومكسورة تميل إلى الأسفل دائماً.
لا يبدو أن الأخيرتان معنيتان بالهم الجمعي رغم كل ما أحاط من حولهما إلا نادراً. الوقت وحده هو ما يهلكهما. ولقد أهلكهما بالفعل.
هنا تتذكّر خانه لي حبّها الضائع، ولا تلوم شيئاً إلا الوقت في أغنية Ru Ta Ngam Ngui “أغني لنفسي بصمت حتى أنام“: بترجّاك تستنّى الفجر. ليش الدنيا سكوت وفاضية؟ متل حقول رز محصودة، متل غابات وجبال مهجورة. قللي: أيّ شوارع مليانة سعادة؟ أيّ جدايل عم تطفو على قطع صغيرة من مبارح؟ ما في شي، ما في حدا، الدنيا عم تجرفني. ومش عم أستنى، مش عم أستنى حدا“.
بينما تغني قطريب لنفس الشخص الذي لن يعود: “سرقني الوقت وراح بعيد، على درب الليالي المنسيّة. سرقني الوقت ونام العيد، ونامت على كتفه الصيفيّة. زهر اللوز، وما في حدّي غير الماضي، ومنّو صورة بخبيه تحت المخدّة، كل الليل بحاكي الصورة“.
في هاتين الأغيتين النموذج، الموسيقى اعتباطيّة وراء المحرّك الأساسي لكل هذا البؤس. الصوتان لا مباليّان ومتقشّفان، تماماً مثل امرأة فقدت إحساسها بالوقت. الموسيقى وراءهما لا تقومان إلا بدور ضيّق تخنقهما نغمة الماينور التي تصاحب دوماً هذا النوع من الأغاني.
أغنيتان عن البحر
في هاتين الأغنيتين: Bien Nho “بحر للذكرى“، و“شو في خلف البحر“. لا تغنّي الرفيقتان على وتيرة واحدة. هما هنا تجترحان طريقةً وحلاً: خانه لي تودّع حبيبها الذي سيغادر إلى ما وراء البحار: “بكرا مسافر، رح أشتاقلك. البحر رح يرجع لبلده، وأنا باقية متل خيال محني بتفرج عالبحر بيصرخ. رح ترجع وتعزف عالبيانو، المفاتيح بتستنى لحن كئيب جاي من الفراغ، بهاد اليوم الحزين، بالشتا أو بالشمس، رح أستنى أخبارك“.
أما قطريب فتتساءل عن الطرف الآخر: ما وراء هذا البحر: “شو في خلف البحر خبريّات، نايمة بقصور منسيّة، وبحور خلف بحور وحكايات، عم تنحكى بسهرات شتويّة، ودراج كلها زهور، وقمار عم بتدور، وطرقات عم تركض ورا طرقات“.
في الأغنيتين، كان يمكن ببساطة تحويل الكآبة إلى حالة استمناء طويلة: حالة طويلة من الوعد بالانتظار، أو حتى اتّخاذ المبادرة للذهاب وراء هذا البحر. كان يمكن ببساطة الانغماس في الموسيقى وهي تقلّد صوت الموج إلى نهاية الأغنيّة، إلا أن اللحن يميل إلى الأسفل بعد اللازمة الأولى. خانه لي ترجع لتكرّر: “بكرا مسافر، رح أشتقلك” بصوت مجروح يخون اللحن. وتكسر قطريب لحن أغنيتها عندما تغنّي: “ودراج كلها زهور، وقمار عم بتدور“.
قبل موتها بلحظات على سرير مستشفى أوتيل ديو ببيروت، أشارت سلوى إلى ابنتها بالاقتراب وقالت لها: كوني قويّة. ورحلت. خانه لي لا تزال حيّة. ستبلغ في آذار القادم 68 عاماً. لا تعرف الرفيقتان بعضهما على الأغلب، وليس ثمّة احتمال بأنهما استمعتا إلى أغاني بعضهما.
لكنهما يشتركان معاً، ويشتركان مع ملايين الناس الذين خاضوا ويخوضون صراعاً أبديّاً مع الإمبرياليّة، بالقهر.
لا نستطيع أن ندّعي بأن الوجوديّة تسكن أغاني خانه لي وسلوى قطريب؛ ما يستقرّ هنا ليس إلا تغريباً يوميّاً تم تصميمه لتقويض حقّنا في أن نختار غربتنا.
تستقر الرفيقتان في صيغة مشوهّة لكل ما ضاع منّا. صيغة الحروب وتجّار الأسلحة، صيغة المعتقلات والسجّانين اللطفاء، صيغة العجز عن الإنتاج– أقل من 3% من المضاربات الماليّة العالميّة تتعلّق بالإنتاج، وصيغة الإنتاج المشوّه– منتجات المنظّفات المنزليّة هي ثاني أكبر ملوّث ومسبب للأمراض البيئيّة في أميركا.
المراجع
“فيتنام: كسب الحرب وخسارة السلام“. صلاح شوقي
“مداريّات حزينة“. كلود ليفي شتراوس
“الصراع الفيتنامي العرقي بين الصينيين والسينو–فيتناميين“. غاريث بورتر