وحطّي بعزاي شالِك الأبيض

على ضفاف نهر الفرات، قضاء الرميثة، مدينة السماوة، جنوب العراق، نشأت نشوق طفلةً لأب سني وأم شيعية، وأخت وسطى لستة ذكور. كان أبوها قاضيًا عشائريًا، يمتلك قطيع ماشية، وأمها ربة منزل. خرجت صباح كل يوم مع إخوتها مصطحبين قطيع الأغنام للرعي قرب النهر، يلتقون هناك بأولاد القرية، يتركون قطعانهم، يتجردون من ملابسهم، ويقفزون للسباحة في النهر، حتى مغيب الشمس. يعودون للمنزل، تنهر الأم نشوق لأنها خرجت مع الصبية، ويستقبلها أبوها ضاحكًا ويقول أجت كوكولا، كوكتي، كوكا. مشبهًا إياها بزجاجة الكوكولا التي غزت أسواق العراق قبل ولادتها سنة ١٩٥٧ بسبعة أعوام، طويلة، سمراء، نحيلة، وشعرها أجعد أكرت متطاير فاتح اللون يشبه فوران المشروب الغازي.

اختلف والد كوكا ووالدتها حول تربية نجلهم الكبير عاجل، كان الأب يحاول أن يعيق تحمله مسؤوليات أكبر من تلك الواقعة على باقي أولاده، بينما ترى الأم أن ابنها أصبح رجلًا، ولا يليق به البقاء مع الصبية، بل عليه أن يرافق أبوه في الجلسات العشائرية. تطور هذا الخلاف وانتهى بهجر الأب للمنزل، تاركًا زوجته وابنه البكر لمسؤولية رعاية الأطفال الخمسة. خففت حلوة من عنادها وطلبت منه العودة، وأرسلت له الوسطاء والوجاهات، لكنه رفض. عندما عرض أن يساهم في مصاريف العائلة رفضت هي، وقررت أن تخرج للعمل في الحصاد في المزارع، وترسل ولديها الكبيرَين للعمل في تكريت.

كان عمر كوكا وقتها اثني عشر عامًا. فقدت الأب الذي دللها، وأخويها اللذَين دعماها في كل ما أرادت. فقدت أيضًا عنادها لأمها وهي تراها تعود كل مساء ويدها تقطر دمًا لأنها لا تجيد استخدام المنجل، آبيةً الاعتراف بالألم. رأت في أمها حلوة رفضًا للاستسلام وقلة الحيلة، فوجدت نفسها تتعلم كيف تخبز على التنور، وكيف تحلب البقرة، وكيف تعد الحساء وتطعم إخوتها.

حفظت حلوة الشعر العامي، والأمثال الشعبية، وكان لها بديهة حاضرة تمنحها القدرة على توظيف ما تحفظ في المواقف. اشتهرت بين أقاربها بطبعها الحاد وعدم توانيها عن هجاء أي شخص بالشعر أو بإطلاق أحكام وصفية مسيئة دون سبب واضح؛ ورغم قناعاتها التقليدية حول دور المرأة في الحياة وكيف تكون في المجتمع، لم تطبق هذه القناعات على نفسها، رغم أنها هجت النساء اللواتي لم يفعلن. اكتسبت كوكا البلاغة في الحديث والقدرة على الحفظ والعناد وحدّة الطباع من والدتها، لكنها بطبيعتها كانت عادلة وتحلت بضبط النفس. تقول إن ذلك ما فُطرت عليه، وأحد نعم الله عليها.  

في عمر الرابعة عشر وبعد عامين من لعبها دور الأم في المنزل، قررت أمها إرسالها للعيش في تكريت مع إخوتها الأكبر كي تعتني بهم. ظلت تبكي طوال رحلة تستغرق نصف يوم من جنوب العراق حتى بداية شماله، إلى بيت خالتها الذي ستعيش فيه بالقرب من إخوتها. استقبلتها خالتها بترحيب كبير، وخصصت لها مكانًا تنام فيه، وبدأت تعلمها طهي طعام أهل المدينة، واشترت لها فساتينًا تشبه تلك التي تلبسها بنات المدينة، لكنها رفضت أن تكون فساتينها قصيرة مثلهن، ليس لأنها ابنة القرية، لكن لأنها رأت أن ذلك لا يناسب طباعها الخاصة حتى ولو اختلفت المهمات التي توكل إليها. 

في المدينة، تغيرت أيضًا علاقتها بإخوتها، الذين أصبح هاجسهم الأكبر أن تميل إلى شاب ما وتحبه. منعوها من الذهاب إلى المدرسة التي جادلت كثيرًا برغبتها الالتحاق بها، والذهاب لزيارة أية صديقة، وحضور الأعراس وبيوت العزاء، ولم يعد مسموحًا لها إلا الذهاب إلى السوق لشراء مونة البيت. حددوا لها وقتًا تذهب فيه، ومدة تستغرقها خلاله، تُساءل إن تأخرت عنها. لكن كوكا لم تكن تفهم هذا الهاجس لدى أخويها ولم يعجبها الوضع الجديد بخضوعها لسلطتهم، فهي تقول إنها لم تكن بحاجة من يحميها أو يحفظ سمعتها أو يقيهم شر النزاعات العشائرية، وكان عليهم أن يعلموا ذلك، إن لم يكن لأنها تعرف العادات والتقاليد جيدًا وتعلم أنها لو أحبت شابًا تسببت في قتله ونشوب نزاع عشائري وجلب سمعة سيئة لعشيرتها، فليكن لأنه كلما عادت من السوق جاء وراءها أهل صبي يشتكون أن كوكا ضربت ابنهم وأسالت الدم من رأسه، أو تسببت له بكسر واحدة من عظامه، لأنه تعرض لها في الطريق.

ظل هذا الحال قائمًا وظلت هي مصرة على ما تريد، يخفف عنها أن أخويها إن رافقاها لم يمنعاها من شيء، خاصة بعد التحاق أمها وباقي إخوتها بهم، وانتقالهم جميعًا إلى بيت جديد عندما أصبح عمرها سبع عشرة سنة. أصبحت تذهب معهم في رِحل الصيد، وإن ذهبوا لأحد أعراس الأقارب أو أقاموا أمسية عائلية يجعلونها بينهما في دبكة الرجال؛ وبعد عناء ثلاث سنوات من الجدال سمحوا لها بالذهاب لمحو الأمية لكن ذلك لم يرضها. مشكلتها ليست في ما تريد أن تفعل، بل أنها لا تريد أن يسمحا ويمنعا، كل ما أرادته منذ انتقالها إلى تكريت هو أن تستقل، وهي التي تسمح أو تمنع نفسها. خلال هذه الصراعات حول استقلالها شبّت كوكا وصار يتقدم لها الخطّاب، لكن صراعات الاستقلال لم تكن على جبهتين بل ثلاث، فأخواها كانا يتعاركان ويتجادلان حول ما يخصها، أحدهما يمنع والآخر يسمح، ومرحلة الخطّاب أصبحت أكثر الجبهات اشتعالًا. فكلما جائها خاطب وافق عليه أحدهما ورفضه الآخر، وهي إن وافقت عليه اتهموها بمعرفته مسبقًا، وإن رفضته اتهموها بمعرفة غيره وأثاروا مشكلة جديدة. عندما عاد والدها مريضًا إليهم، استقبلته كوكا فرحة وعرضت عليه البقاء لتعتني به. وافق هو، ووافقت أمها بعد أن اشترطت أن يسكن في غرفة من البيت ولا ترى وجهه ولو صدفة. 

استقبال والدها بحفاوة بعد غيابه غير المبرر وتسببه في معاناة والدتها ليس تجاوزًا عنه لأنه أبوها، بل طبع لا يخضع للمساءلة أمام كل خلاف مع أي شخص، كوكا تتسامح إن عاد من أساء لها ضعيفًا أو معتذرًا. 

انتهى صراع تزويجها بعد عامين على عودة والدها بمجيء شاب أردني لخطبتها. كانت جنسيته سببًا في إنهاء النزاعات، فقبولها لا يعني أنها عرفته سابقًا. طلبت رؤيته، فأحضروه إلى ساحة المنزل. كان إبراهيم يصغرها بعام، نحيل أسمر، قصير القامة، له عيون بنية حادة، وأنف مدبب، وفم رقيق بشفاه رفيعة. أعجبها. أمها رأت فيه سبب ابتعاد ابنتها الوحيدة، ولم تترك وسيلة لعرقلة إتمام الزواج، بدءًا بالرفض الصارم، ثم التهديد بالانتحار، حتى أنها ذهبت إلى دجلة لترمي نفسها، قبل أن تعود خوفًا من أن يقال إنها “عاملة عملة”. بعد ذلك لجأت إلى التفاوض، فخرجت وأخبرت والد إبراهيم أنه إن كان يريد ابنتها زوجة لابنه فهي تريد إحدى بناته زوجة لابنها. وإن تغربت ابنتها فيجب أن تتغرب بنته أيضًا. وافق الرجل، ووافقت إحدى بناته، وبنته الأخرى ذهبت هي إلى أحد إخوة كوكا وعرضت عليه الزواج. بذلك حصلت أم كوكا على اثنتين مقابل واحدة. وكفّت.

هبة ريح، سبّاعي، وسبّاعية، مصطلحات تطلق على الشخص الذي يحسن التصرف في الظروف الطارئة، أو الكبيرة، بحيث يدير الموقف بسرعة ودقة ولا يحتاج مساعدة، تشبيهًا بسرعة الرياح ودقة وقوة السّبع. عندما تقرر أن يكون العرس جماعيًا، قيل لكوكا أول مرة إنها هبة ريح وسبّاعية، قالت لها أمها والنسوة ذلك وهم يطلبون منها إعداد ولائم العرس من ذبح الذبائح وتجهيزها للطبيخ وطبخها، وخبز الخبز للمعازيم. “إنت سبّاعية وهبة ريح، والبنات الباقيات ما يعرفن يذبحن ولا يسلخن ولا يعجنن ولا يخبزن. ماكو غيرك.” لم تنظر كوكا يومًا إلى غيرها من البنات أو الشباب، بغيرة أو غبطة، ولم تقارن نفسها بأحد. كانت منذ الطفولة معتدة بنفسها، واثقة، ولا تتشبه بأحد. إن أرادت شيئًا فهي تريده بذاته لا لأن غيرها يمتلكه، ولا تجادل أبدًا من مبدأ لماذا أنا وغيري لا، بل تحمل ما لا يحتمله غيرها، اعتزازًا بنفسها، أو شفقةً على الآخرين. ردت عليهن: حتى لو يعرفن، كلهن ضيوف وآني راعية البيت.

في الليلة التي تسبق العرس، سهرت تعد الطعام، ذبحت الذبائح، وعلّقتها، وسلختها، وقطّعتها، وأعدتها للطبخ. عندما انتهت قبل الفجر بدأت تعجن العجين، وحينها أتى إبراهيم وعرض عليها المساعدة، علمته كيف يخبز، إلى أن أتى الظهر، فخرج هو مع العرسان الآخرين، وظلت هي حتى موعد الزفة. ذهبت للاستحمام وأتت إليها بنات الجيران وساعدنها في ارتداء بدلتها، ووضعن لها مساحيق التجميل لأول مرة في حياتها. حينها شعرت بالخجل وبكت حتى رسمت كحلتها خطوطًا سوداء على وجهها. مع وصول العرسان لاصطحاب العرائس إلى ساحة العرس، تذكرت أنها لم تسرّح شعرها الأكرت بعد، فرفعت عنه المنشفة وتركته ينطلق في الهواء. تضحك كوكا كثيرًا وهي تصف هذا المشهد: “حتى عرسي مسخرة ولعانة والدين.”

“ركبنا بالسيارة يا ربي الدرب شحلاته!” تصف كوكا الطريق البري بين العراق والأردن، بأنه درب الحرية والنصر، لكنها ما إن وصلت حتى وجدت نفسها في منزل طيني في الغويرية في مدينة الزرقاء، ليس له ملامح منتظمة، ولا يشبه بيوت العراق، لا الطينية في قريتها، ولا الحجرية في تكريت “لابخين طينته لبخ، مو معمرينها” تقول كوكا. ليس به سوى عدة فرشات أرضية قديمة، ومطبخ مهلهل، فيه أدوات قليلة متكومة في زاوية، وصنبور مياه دون حوض تحته. في الزاوية البعيدة طباخ ذو شعلة واحدة. سألها إبراهيم إن كان البيت قد أعجبها، فردت: طبعًا، بينما قالت في قرارة نفسها “فَقُر فَقُر شعليه أنا أسويه، ولا أرجع ويشمتون بيّ، ويقولون قرارك غلط.” 

عاشت ثلاث سنوات في المنزل مع أهل زوجها منذ ١٩٧٥ حتى ١٩٧٨، تدخر من مرتّبه الزهيد الذي يتقاضاه من عمله في الجيش، كل شهر شيئًا فشيئًا. لم توكل مهمة شراء الأثاث لإبراهيم، ولا طلبت منه اصطحابها. تعرفت كوكا منذ وصولها على الجيران، أعجبها المجتمع، وشعرت بحب الناس لها. سعدت بحريتها في فعل ما تريده، تلبس ما تشاء، وتخرج وقت تشاء، وتعود وقت تشاء، وتصادق من تشاء، ولم يكن لها طموحات أكثر من أن تعيش ببساطة، إلا تعلم القراءة والكتابة، لكنها لم تجد مدرسة لمحو الأمية في منطقتها في الأردن، بعد أربعة أشهر قضتها في التعلم قبل الزواج، فقررت أن تتعلم وحدها. تكتب الحروف منفصلة عن بعضها، ثم تبحث عن أي شيء عليه كتابة وتكتشف كيف تصل الحروف ببعضها. طلبت من حماها أن يعرفها على العاملين في السوق، وصارت تقضي كل حاجيات البيت عِوضًا عنه. اشترت لنفسها دفاتر وأقلام، وبطاقات معايدة ترسلها إلى أهلها في كل مناسبة. 

ترقّ كوكا للفراق. شعرت بحاجة للتعبير عن شوقها لأهلها وبلدها ولم يسعفها ما تحفظه من الشعر أو الأغنيات، لأنها أرادت أن يكون صادقًا نابعًا منها ليعلم أهلها مقدار حبها لهم. تصف محاولاتها الأولى في الشعر بأنها رص كلام مع كلام آخر يشبهه: “يعني مثلًا أصفن أقول: آخ يا غربة قتلتني، وأصفنلها شوية، تا ألاقيلها كلمة تطبق وياها، وأرجع أكتبهن على ورقة. أتعلم لحالي. كنت أكتب الشعر اللي أقوله حروف ورا بعض، وأرتبهن، وأرجع أدور بالكتب كيف ملزقات ببعض، وأكتبهن بشكل مرتب، أسويهن رسالة وأوديها لأهلي، كنت أبقّ كلام هيك شلون ما إجا بس يكون يشبه بعضه، ما كنت أكتب إشي كبير.” ظلت تتدرب، تكتب وتمحو وتعيد الكتابة، تكتب وتمزق الصفحات، مرة تلو مرة تحاول أن توافق بين الكلمات وألحان أغانٍ تراثية تعرفها، حتى أصبحت أبياتها موزونة إلى حد كبير، وأصبحت ترتجل الشعر وتغنيه على لحن أحد المقامات العراقية، في استقبال أحد تحبه، أو جلسة مسائية للأقارب والأصحاب، ودائمًا عند الفراق أو الحديث عنه، كان شعر الفراق يعبر عما تحسه، ويقيها من قوله مباشرة، أو شعورها بالحرج عندما تبكي. لكن قدرتها على الارتجال والحفظ واعتبارها الشعر وسيلة للتعبير جعلها لا تهتم بتدوينه. 

أحبها إبراهيم وأحبته، تعلما شرب السجائر معًا. كان فخورًا بها يصطحبها إلى أي مكان يذهب إليه؛ ورغم صغر سنه، كان يعتني بها إن مرضت، ويعرف كيف يكون لطيفًا، وكيف يسمعها كلامًا رقيقًا. وإن تعاركا لم ترضخ له، فإن شتمها شتمته. لم يكن مثل إخوتها يرى في هذا غضاضة، ولا يقول لها كيف لمرأة أن تشتم رجل، بل ينقلب الأمر مزاحًا مع انتهاء الخلاف، ما عدا مرة واحدة نشب خلاف بينها وبين أبوه. ضربها، فـشتمته وخرجت من بيتهم إلى عمّان وحدها. كوكا إن مشت طريقًا لا تنساه. ذهبت إلى بيت صديق والده، طاعن في السن عراقي الأصل استضافها و عندما جاء إبراهيم وأبوه للسؤال عنها، أخبرهم أنه سفّرها إلى أهلها في العراق. غضب إبراهيم وخجل من نفسه، وأراد اللحاق بها، فمنعه صديق والده وأخبره أن أهلها سيقتلونه إن ذهب، فهو غير كفء ولا يؤتمن على فتاة. في عرف العشائر العراقية تعتبر إهانة الفتاة المتزوجة في بيت زوجها إهانة تمس العشيرة بأكملها، وفي حال عودة البنت لبيت أهلها إن شُتمت أو ضُربت لا يحق لها العودة لبيت زوجها ويجري تطليقها ولا يحق لزوجها أن يزور أهلها بنفسه إن أراد الصلح، لأن مجيئه بنفسه يعد قلة حياء وتجرّؤًا على مواجهتهم بعد إهانة ابنتهم. بعد عدة أيام، طلب الرجل الذي استجارت به إبراهيم وأبوه لجلسة عشائرية، وأخبرهم أن كوكا عنده. اعتذروا لها، وتعهدوا بعدم إيذائها مرة أخرى أمام وجهاء العشيرة الذين خيروها بين العودة إلى زوجها أو أهلها، فاختارت زوجها. 

مرّةَ، ذهبت كوكا في زيارة إلى أهلها، فما كان من إبراهيم، رغم خدمته في الجيش، إلا أن يتبعها إلى العراق، وظلا هناك فترة تتجاوز إجازته المحددة، ما أدى إلى تسريحه عند عودته. كل ذلك لأنه لم يُطق فراقها. أما هي فقد فكرت في الانفصال كثيرًا في السنوات الثلاث الأولى بسبب الفقر، ومعاملة والدته السيئة لها، وكان عدم إنجابها أطفالًا يجعل ذلك سهلًا. لكنها في كل زيارة إلى العراق عقدت النية بطلب الطلاق، ثم تراجعت لشوقها له وقلقها عليه. استمر هذا حتى أنجبت كوكا ابنها الأول سنة ١٩٧٨، في نفس العام الذي تركوا فيه منزل العائلة وانتقلوا إلى بيتهم الخاص.

رسالة من كوكا إلى أهلها في العراق بتاريخ ١٩٧٦/٤/٢٢

بعد تسريحه من الجيش، عمل إبراهيم في البناء سنة ونصف، ساءت أحوالهم المادية فيها، فقرروا السفر إلى العراق عام ١٩٨٠. عادوا إلى تكريت ليعمل في نفس المهنة واستأجروا منزلًا قريبًا من بيت أهلها. كانوا يتجمعون في ساحة أحد البيوت كل يوم مساء، حيث يعزف عادل أخو كوكا على الماصول، وتغني هي وتقود الدبكة. تصف كوكا هذه الأيام بأنها أسعد أيام حياتها، رغم أن قربها من أهلها كان يزعجها، لأنها لا تود أن يقسو قلبها على أحدهم إن أخطأ في حقها. عاشت خمس سنوات مستقرة أنجبت فيها بنتين وحملت في الرابع. في ١٩٨٤/١٢/١٧ توظف إبراهيم في شركة حكومية كسائق، ينقل المعاملات بين الموصل وبغداد.

بعدها بعشرة أيام، صباح يوم ١٩٨٤/١٢/٢٧،  طلبت كوكا من إبراهيم أن ترافقه إلى بغداد لزيارة أقرباء لها. رفض إبراهيم على غير العادة. أثناء جدالهم، جاء أخوها يقول إنه ذاهب إلى بغداد، فقال لها إبراهيم، إذهبي مع أخوك، على أن يأتي هو لاصطحابها في السادسة مساء. تقول كوكا إنها في ذلك اليوم، عانت صعوبة في ابتلاع طعامها، وأحسته مُرّاً في حلقها، ولم تطعم أبناءها الثلاثة إلا القليل. تعدت الساعة السادسة مساء، فسألت كوكا صاحبة المنزل التي تنزل عندها، امرأة ثلاثينية بيضاء سمينة، عن سبب تأخر إبراهيم، وإن كان قد اتصل. ارتبكت المرأة واحمر وجهها، ثم أجابت بالنفي. 

طُرق باب المنزل فسارعت كوكا إليه، وتبعتها صاحبة المنزل. وجدت محاسب الشركة، سألته عن إبراهيم، أجابها أنه بخير. التفتت إلى صاحبة المنزل فوجدتها ترتجف وقد احمر وجهها، وقدماها تهتزان حتى صدر صوت صفق فخذيها ببعضهما. فصرخت بها: “أقلك إبراهيم صار له شي!” أومأت المرأة بالنفي، فتدخل الرجل: “إبراهيم بخير. لكن صديق لنا تعرض لحادث سير ونبحث عن كفيل له.” دخلت كوكا وظلت تفكر بأن ليس فيهم غير عراقي وبحاجة لكفيل غير إبراهيم. جلست تنتظر حتى الساعة الحادية عشرة ليلًا، تنظر إلى صديقتها التي ترتجف ولا تنطق بشيء بريبة، حتى سمعت صوت زامور سيارة أخوها. ركضت إلى الباب، وجدت أخاها وأمها وأخوات إبراهيم ينزلون من السيارة. سألتهم: “إبراهيم مات؟” 

ردت أمها: “لا ما مات، بس إنخرا عليك وعلى راسك. سوّا حادث وبين الحياة والموت.”

صمتت كوكا، وأحست بجسدها باردًا، لا دم فيه. مشت إلى الباب، قال أحدهم: “إبراهيم يريدك.” هائمةً على وجهها، طافت كوكا نحو إحدى السيارات العديدة التي تجمعت أمام باب دارها. لا تذكر السيارة ولا الطريق ولا مع من ركبت.

“- ها إجيتي؟ 

 إجيت. 

 – الحمد لله أنا هيني عايش، ديري بالك على روحك وعلى الولاد.” 

وضعت يديها على قدميه وشدت عليهما، فلم يشعر، رفعت يده إلى الأعلى، وعندما تركتها سقطت، وكذلك يده الثانية. لم تفهم. بعدما جاء الطبيب، عرفت أن إبراهيم قد شلّ تمامًا، وأنه أمامه أربع وعشرون ساعة، إن تعداها سيعيش. “ربي بس أريد يطلع اللي ببطني يعرف أبوه، يا ربي ما تتيهني وأظل أنا بإدين الناس ملطلطة، خليني أكمل مشواري يا رب حتى لو انه بس نَفَس. مش مشكلة يا رب مشلول عاجز مش مشكلة.” ظلت كوكا تدعي حتى الصباح، في اليوم التالي قالوا لها ثمان وأربعين ساعة، إن تعداها سيعيش، وهي تدعو. حتى اليوم السادس عشر، وهي كل يوم تأتي الساعة السادسة صباحًا، وتعود في السادسة مساءً إلى منزل صديقتها الذي ظلت فيه هي وأمها وأطفالها. 

كان إبراهيم يرقد في مستشفى الكاظمية، الذي يديره طبيب اسمه محمد إياد علّاوي. ثقبوا له الرئة، ومدوا منها أنبوبًا للتنفس، وثقبوا أمعاءه ومدوا أنبوبًا آخر لاستخراج الفضلات، وعلقوا برقبته ثقل يزن ثلاثة كيلو لسحب عموده الفقري بحيث تبتعد الفقرات عن بعضها. عندما وقع الحادث، كان إبراهيم يقود السيارة وبجانبه زميله عندما انحرفت بهم على منعطف حاد في الطريق، خشي إبراهيم على سلامة صديقه فداس بقوة على الفرامل ومد يده أمام زميله يحميه فيها من الارتطام بالزجاج، لكن السيارة اصطدمت بالجزيرة الوسطية ما أدى لخروج إبراهيم من الزجاج الأمامي وسقوطه في الشارع ممددًا على ظهره في وسط الشارع، هذه السقطة أدت لانفصال الفقرات السادسة والسابعة عن بعضهما. لما رأى سيارة قادمة نحوه فزّ بحماوة الروح يبتعد عن الشارع، مشى وجلس على الرصيف المقابل حتى مجيء سيارة الإسعاف، نقلوه جالسًا في السيارة ما أدى إلى التحام الفقرات بطريقة خاطئة نتج عنها انقطاع حبله الشوكي.

عندما عرف أنه لن يستطيع الحركة مجددًا وأصبح عاجزًا، صار يشتم كل من زاره ويصرخ عليه. كان ينادي الممرضين يشتكي على زائره بأنه منخرط في اتصالات مع ضباط إيرانيين. لم يرض أي شخص رافقه ليلًا أن يرافقه مرة أخرى، وبعضهم وضع في فمه لفة شاش طبي وألصقه بلاصق. أبوه لكمه في وجهه، فطرده الأطباء. لكن كوكا أدارت له خدها الأيسر. صب إبراهيم جام غضبه عليها وتجبر فيها. شتمها أمام الأطباء والممرضين والزائرين. رفض جميع أنواع الطعام، لكنه أصر أن تبقى واقفة طوال النهار بجانب رأسه وفي يدها زجاجة ماء تصب منها في فمه رشفة رشفة، وإن فرغت جن جنونه، فكانت تضع زجاجة أخرى في جيبها. عندما تفرغ الأولى تنتخي أي مار من باب الغرفة أن يذهب ليملأها لها، وتستمر على هذا الحال طوال النهار، لا ترد له الشتائم ولا تغضب منه، وتفعل كل ما يريده، ولا تجلس أبدًا، ولا ترد عليه إلا بـ ها حبيبي. 

في عشيرة كوكا، عند وصولهم سن المراهقة، يختار الأبناء مذهبهم بحرية، تبعًا لحدث ما يعتبرونه إشارة، أو لميلهم إلى مذهب ما نتيجة شعورهم تجاه ما شهدوه من طقوس في صغرهم، أو لأي سبب يرونه مناسبًا. بعد اختيارهم المذهب السني أو الشيعي، يحرصون على الالتزام بطقوس المذهب ليس بأدائها، إنما بعدم المشاركة أبدًا في أداء طقوس المذهب الآخر. اختارت كوكا المذهب السني، الذي كان عليه والدها. لا تتذكر لماذا تحديدًا لكنها رفضت جميع الطقوس الشيعية.

ليلة اليوم السادس عشر أتت صديقة كوكا حاملة كأسًا مليئًا بالتراب، وقالت لها: هذا تراب من سيّد مالك، اخلطيه مع الماي واسقي إبراهيم. لم تفكر كوكا وما إن وصلت خلطت بعض التراب مع الماء، وسقت إبراهيم، وبعضه الآخر خلطته ومسحت به يديه وقدميه. بعدها طلب أن تجلب له الفطور، وأكل لأول مرة منذ دخوله المستشفى. تذكر كوكا أطباق الفطور: مربى وزبدة وبيض مسلوق وجبن وخبز. أكل حصتها وحصته، ثم نام. استيقظ الظهر وطلب الغداء، أكل وعاد إلى النوم.  قالت: يا ربي معقول الطينة اللي قوّمته؟ استبشرت. جاء الطبيب علاوي وأجرى له فحصًا، ونقله لإجراء صورة وهو نائم، وقال لها: “أنت إنسانة مؤمنة وصابرة، خابري أهلك خل يجون، صاحبنا أموره داكّة (واقفة).” ردت: “شنو إجاك وحي من عند الله. بينا روح وبيه روح، والله قادر يقومّه ويحطنا بْمُكَانه.”

استيقظ إبراهيم عصرًا، وطلب منها أن تجر سريره إلى حديقة المستشفى، تحت نخلة، يناجي ربه. نقلته، وذهبت تتصل بعد أن ترددت بأملها: “هاي فزة موت، إبراهيم يموت الليلة.” حضر أهلها وأختيه، زاروه. وذهبوا. قرر الأطباء نقله خارج العناية الحثيثة، ومنعوا بقاء أي مرافق معه. “روّحت للبيت عين تبكي وعين تضحك، إبراهيم خطيّة بدون مرافق، من وصلت نمت.” استيقظت ونظرت إلى الساعة ووجدت عقاربها تشير إلى رقمَي ١٢ و٦. طفرت من فراشها، ارتدت ثيابها، وخرجت. سارت بسرعة حتى تكاد تهرول في الظلام قاصدة الكراجات، وقرص الشمس أمامها أبيض. بعد مسافة قرابة خمسين بناءً وقفت تحت عمود نور ونظرت إلى الساعة. وجدت العقرب السفلي على رقم ٨. سمّرت نظرها عليه دقيقة، حتى استوعبت أن الساعة الثانية عشر وأربعين دقيقة، وليست السادسة صباحًا. نظرت إلى القمر وأدارت وجهها عائدة وهي تلطم وتنوح: “يا ربي أُخذْ مني كل شي إلا عقلي.”

فتحت الباب، وجدت أمها. 

“- وين كنتي؟ 

 وين كنت؟ بـ شيب أهلك.

  – وين مولية؟ 

 رحت لإبراهيم، كل بالي الساعة ستة، ولمن لاقيت ماكو إلا آني بالشارع، ولاحقتني الكلاب، باوَعت للساعة لقيتها وحدة إلا ثلث. 

 – العزا ببيتك وبيت أوبيك. لو لقفوكي هسا الهنود وخطفوكي، شو تقول العالم، تركت ولادها وجوزها ونَهَبَتْ ومِشَتْ! 

 – هو هذا بس اللي ببالك إنت.”

استيقظت الخامسة صباحًا، موقنة أن إبراهيم قد مات. ذهبت بخطوات ثقيلة إلى المستشفى، وعندما وصلت الاستقبال، سألتهم:

“مات إبراهيم؟

 – عوذة منك. الرجال عايش انت تستنينه يموت؟” 

دخلت على إبراهيم. 

“ها شلونه صاحبي؟

 – انتم قطعتوا بيَّ بس الله ما يقطع بالعبد حاشاه. 

 ها؟ 

 – أجاني السيّد وقعد وياي، وظلينا نتعلل، وسقاني مي وسقاني شاي، وراح. 

 شنو السيد؟ متى أجاك السيد، إنت تحلم؟ 

– لا والله مو حلم، علم.”

ذهبت وسألت الممرضين، قالوا لها إن أحدًا لم يصل باب غرفته. عادت إليه، وأخبرته أن الممرضين قالوا لها لم يزره أحد. فرد: والله أجاني وقلي راح تطيب. بس اتوكل على الله وتعال يمي عالبيت. بإذن الله غير ترجع طيّب وتمشي.

تركته كوكا وذهبت لزيارة الإمام الكاظم، تفكر، هل هذه المصيبة لأن الله يريد أن يخبرها أن المذهب الشيعي هو المذهب الحق؟ هل يريدها الله شيعية تتعنّى للأئمة؟ دخلت على الإمام، أمسكت بشباكه، وساءلت ربها. خرجت واشترت صورًا لبعض السادة، ثم عادت إلى إبراهيم وعرضت عليه الصور واحدة تلو الأخرى تسأله من هذا؟ وهو لا يعرف، حتى وصلت إلى صورة مالك. قال لها: “هذا السيد مالك، إجاني وقعد وياي وقلي إذا تجيني للبيت تزورني تطيب.” لم تستطع كوكا حمل إبراهيم ونقله وحدها، فذهبت إلى إخوتها واحدًا تلو الآخر، وإلى أبيه، تنخاهم أن يأخذوا إبراهيم لزيارة السيّد. جميعهم رفضوا واتهموها بالجنون، حتى الشيعي منهم. لم يذهب إبراهيم لزيارة السيد، ولم يُشف.

عزّ على كوكا رفضهم، فقررت أن لا تطلب من أحد شيئًا بعدها. تزامن هذا مع وجوب نقل إبراهيم من المستشفى، فصارت تذهب من بغداد إلى تكريت وحدها تسير في إجراءات معاملة تعويض إصابة العمل. نقلته إلى مستشفى ابن البيطار العسكري ليجري علاجه كاملًا على حساب ديوان الرئاسة. قدمت له طلبين للسفر للعلاج في الخارج، أحدهما في السفارة الأردنية والآخر في الديوان الرئاسي لصدام حسين. رُفض الثاني لأنها وضعت في الطلب أنها مواطنة أردنية، وقال لها مدير التشريفات: “بلدك أولى بيك.” ردت: “ليش منين جايتكم أنا، من إيران من إسرائيل؟ أنا إنسانة عراقية.” قال لها أن تعيد الطلب وتكتب أنها عراقية وعندما تقابل الرئيس تخبره بقصتها. فعلت ذلك، وبعد عدة أيام، تلقت اتصالًا من الديوان بأن طلبها مقبول وعليها الحضور لمقابلة حسين كامل. تلقت بعده بدقائق اتصالًا من السفارة الأردنية بأن طلبها مقبول، وعليها الحضور لاستلامه.

“شلّي بَعَد بحسين كامل؟” تساءلت كوكا. ذهبت إلى السفارة الأردنية، واستلمت الموافقة، فتحتها: لا مانع من سفر المدعو إبراهيم عبد دمنان إلى المملكة الأردنية الهاشمية.

“شنوو! ليش هو أنا كاينة منفية من الأردن وطالبة منكم ترجعوني إلها؟ انتم مسؤولين عن مواطنين؟ انتوا حرام تسرحون بصخول، آني أردنية، ورَجلي أردني، وولادي أردنيين. لاني مغتالة أحد ولا اني مقوّدة على أم واحد فيكم! متى أريد أرجع أرجع. 

 – لعاد قوليلي شسوي أنا هسا؟ 

 آني اقلك، لعاد انت ليش سفير؟ ليش مسؤولين ليش حاطينكم ويصرفون عليكم؟ 

 – قوليلي شتريدين.

 أريد تخاطب السلطات العليا يعني من صدام وتحت، وتطلب سفر المريض خارج العراق للعلاج بالدنمارك، بالسويد، بفرنسا، وين يكون إله علاج موجود. تريد توديني للأردن شبيها من سخام الأردن! أقلك؟ لا خلفت عليكم ولا عللي يجيكم ولا عللي حاطكم.”

خرجت كوكا تسير في شارع الزيتون، منطقة المنصور في بغداد، بطنها المكوّر كشوال يسبقها. تلهث، وتشتم حظها: “دام حياتي ملطلطة هالشكل، بَعد لا أروح لا لذا ولا لذاك.”

في ابن البيطار سُمح لـ كوكا أن ترافق إبراهيم ليلًا، فأعطت ابنها وواحدة من بناتها لأمها، وأعطت ابنتها الصغرى لإحدى قريباتها، ونقلت أغراضها إلى المستشفى، وأصبح بيت الزوجية غرفة في مستشفى تابع لرئاسة الجمهورية كل طاقمه من الإنجليز. احتاج إبراهيم عدة عمليات نتيجة خطأ طبي في مستشفى الكاظمية، فهم لم يقلبوه في سريره، حتى تلف لحم ظهره ووصل العفن إلى العظم. احتاج إلى علاج طبيعي لأطرافه كي يتمكن من الجلوس على كرسي متحرك. تحسّنت نفسيته كثيرًا وعاد إلى شخصيته السابقة وازداد تعلقه بكوكا، فإن غابت عنه بضع ساعات، ذهبت بها إلى تكريت لغسل ملابسهم وإحضار ما يلزمهم، أو إعداد طعام يرغبونه، صار ينادي الممرضات كل دقيقة يسألهن عنها. وكوكا التي رفضت كل ضغوطات أهلها والناس للانفصال عنه والزواج بغيره، رأت في البقاء مع إبراهيم واجبًا بغض النظر عن رغبتها في البقاء بجانبه حبًا به. قررت كوكا أن تتحمل مسؤولية رعاية إبراهيم كاملة مهما تطلب الأمر، لكنها اصطدمت بمحاولة بعض إخوتها ووالد إبراهيم منعها من التنقل بين المحافظات، ومن إتمام معاملة التعويض، بحجة أنها امرأة ولا يأمنون عليها في وقت الحرب القائمة مع إيران من الخطف، أو الاعتداء خاصة وأن أغلب المواصلات تمتلئ بالجنود الملتحقين والمجازين من الخدمة. ذهبت لأخوها الكبير وجمعت إخوتها وحماها. 

“انا وصلت كل شي، ووصلت لمحامي وفلوسه راح تطلع، وهذوله جاييني هسا يقولون احنا ما عنا نسوان تمشي. شو الحل عندك؟

 – اللي يستحي، وخايف على كوكا، يشمِّر عن ذرعانه ويمشي وياها، واللي ما يريد يمشي وياها، يعضله على نعال ويسكت. ما الكم عندها.

 انا صندوق البيض يجي يتوزع حصة طبقتين، لكل واحد فيكم وانتو ستة، وانا مالي لأن جنسيتي مو عراقية، اثنعشر طبقة توزعن ما حدا قال هذي طبقة لولاد اختي.

 – عادل: انا اصرف عليك. 

 حبيبي تصرف عليّ سنة، سنتين، بعدين تقول آني مو مجبور بعيال إبراهيم. وتصب على طيزي مي باردة، تقللي إنت أختي مجبور فيك، مو مجبور بولادك. أنا اضل اتوسلك! هذا حق رجلي وولادي أريد أطلعه.”

تحصلت كوكا على تعويض إبراهيم، وأصرت على البقاء معه. تحدت الجميع بأنها لن تطلب منهم شيئًا، ولن تعود إليهم باكية، ولن تندم. ظلت معه في المستشفى إلى أن تحدد موعد ولادتها في الأول من حزيران عام خمس وثمانين. كان رمضان قد بدأ، واشتد حر العراق. عادت يومها إلى المنزل، وتركت إبراهيم وحده في المستشفى، لكنها لم تلد، فخرجت صباح اليوم التالي من تكريت إلى بغداد، وظلت معه حتى نهاية اليوم، ثم عادت إلى المنزل. وهكذا كل يوم حتى يوم السادس من حزيران، جاءت قبل الظهر وقد طبخت مقلوبة و جلبتها معها لإبراهيم. وضعت الغداء ودعت بعض الممرضات، وجلست تطعم إبراهيم، وعندما شبع أحست بأنها دخلت مرحلة المخاض. 

“يلا اريد اروح. 

 – لا مو هسا

 يا ابن الحلال قاعدة اقلك مش قادرة راح اولد.

 – لا بعد وقت.

 بعد وقت؟ هو مخيط خياط؟

 – هاي الأغراض تاخديها معاك.”

كان إبراهيم يعلم أن ولادتها تعني غيابها شهرًا على الأقل، وحاول أن يستبقيها بأسباب طفولية، لكن كوكا الآن ولو اعترضت، لا ترد له طلبًا. فبدأت بجمع أغراضها من المستشفى، وتعبئتها في أكياس كبيرة، وبدأت بنقلها كيسًا كيسًا إلى كراجات العلاوي بجانب المستشفى، وعندما أتمت النقل حجزت مقعدًا وركبت في السيارة مع أربعة عساكر يدخنون طوال الطريق حتى وصلوا استراحة مع أذان المغرب، فنزلوا للإفطار إلا كوكا وواحد منهم. اشتد الطلق، وخجلت كوكا أن تصرخ و يظهر ألمها، فعضت بأسنانها على فرش المقعد الأمامي وسحبته حتى قطعت الجلد. لاحظ الرجل في المقعد الأمامي أنها ليست بخير، فسألها إن كان يستطيع المساعدة، طلبت منه أن ينادي رفاقه، وإلا ستلد في السيارة. ففعل. انطلقت السيارة وكوكا تمزق بجلد المقعد الأمامي، وتدعو الله أن لا تلد قبل وصولها البيت. نزلت على رأس شارع منزلهم، ومعها حاجيات أربعة أشهر من العيش في المشفى. تجرجر بهن عدة أمتار حتى يباغتها التقلص فتجلس. تنتظر حتى ينتهي وتكمل. إلى أن وصلت باب المنزل. تركت الأشياء ونادت من به، طلبت منهم إدخال الأغراض والإرسال في طلب القابلة، وذهبت إلى بيت الجيران تستعمل هاتفهم. اتصلت بإبراهيم، أخبرته أنها وصلت، وعادت إلى المنزل، دخلت غرفتها. أحضروا لها القابلة، وولدت صبيًا. 

ظلت كوكا مع وليدها اثني عشر يومًا، إلى أن اتصل إبراهيم وألح عليها بالمجيء. توسلت إلى زوجة أخيها، أخت إبراهيم، أن تذهب عوضًا عنها، لكنها رفضت بحجة أنها تكره المستشفيات. تركت المولود مع المرأة التي تعتني بابنتها الصغرى، وعادت إلى المستشفى. شهر كامل، تقف كل صباح على المغسلة تفرغ صدرها من الحليب وتبكي، وتلوم إبراهيم على هجرها طفلها. إلى أن ذهبت تزور أولادها بعد فترة. فوجدت حماها عندهم. 

“- انت عايفة ولد زلاقة بايدين النسوان ورايحة لهذا الساقط؟

 عمي شوف عليّ، هذا الساقط يكون أبوه للزلاقة، وإذا ما بيّ خير للساقط، ما بيا خير لولادي، والزلاقة ما راح يكون أحسن من أبوه. وانا قلتلكم ما راح اتخلى عنه يوم وهو بعده بحاجتي.”

لم تتعرف ابنتها عليها، ولم يصمت ابنها في حضنها إلى أن أعادته لمربيته، فخرجت كوكا من المنزل حزينة من جفاء أطفالها لها، غاضبة وعنيدة من كلام عمها وكأنه استنهض عنادها وتحديها. صبرت دون شك أن ما تفعله هو الخيار الصحيح، أخلاقيًا، ولمصلحة عائلتها. لكنها انقلبت تمامًا حينما خذلها من كانت تظن أنه معها. 

بعد أن ولدت بفترة طلب إبراهيم من كوكا لأول مرة أن يجربا الجنس. لم تسأله كيف وهو عاجز، بل لبّت طلبه، وجاءته على سريره، صارت تقرب أجزاء جسدها من فمه تتركه يعضها، اعتلته وأتمت العلاقة. كرروا ذلك أكثر من مرة، وصارت تفكر بأنه ولو كان عاجزًا عن الشعور تمامًا بكامل جسده تحت رقبته، فهو ذهنيًا حاضر ويرغب بذلك، ومن واجبها بصفتها زوجة أن لا تهجره جسديًا. لكن دورتها الشهرية تأخرت الشهر التالي، أخبرت إبراهيم بذلك: 

“اسمع اقلك، انت طلبت، وأنا إجيتك، وصار عندك انتصاب.

 – اي شنو المطلوب. 

 المطلوب انا بعدني بنت عمري ٢٦ سنة بكرا يجيني ولد، الناس شتقول وجوزها مشلول.

 – والله آني ما بَحَبِّل مرة.

 ما بِتْحَبِّل؟ يعني قصدك انا جبته من الشارع. 

 – والله حرة إنت، اذا لقطتيه من الشارع وجبتيلي اياه وبدك تغطينها وتقولين نمت معاك، فأنا لا بيا رجولية ولا أحبِّل.

 هسا آني بعد كل هذا اللي جريته معاك، وكل سهر الليالي، وحتى ضناي اللي من حشاي تركته علشانك، وطلعت ما بتسوالك بزقة وما بتستحي ولا كرامة عندك وحرام التعب فيك؟”

دخل عليهم أحد إخوتها:

“- ليش تتكاونين ويا ابراهيم وتغلطين عليه؟ 

 والله يا خوي أنا ماني مستحية، وباكر إذا صار عندي طفل، ورجلي يريد يتبرى مني انتو تقدرون تجبرونه يعترف بيه؟

 – ها؟ عود إذا باكر صار عندك طفل نحلّله.

 إنت طلعت أنجس منه. بس انشالله رب العالمين يبيض بختي وما يكون عندي حمل، وإن شاء الله من اليوم تحرم عليه وتحل عالكلاب، إذا بيوم أجي يمه ولا أقربه أو أتنازله. أو أعيدها معاه.”

 خطر لـ كوكا أن حياتها مع إبراهيم انتهت. ذهبت إلى أهلها، ودخلت على الساحة التي تتوسط غرف إخوتها وزوجاتهم، ورفعت صوتها: “ترا أنا يجوز حامل، وإبن إبراهيم الساقط اللي ما يريد يعترف بيه، وعادل اللي أسقط منه يريد يحلله. إذا صَدق ظني وطلعت حامل بس أخلّف نشوف إبن مين. بس إذا مو حامل وزوجي اللي يعرفني وأدرى بيه وأخوي اللي عود ينشد بيه الضهر اتهموني، من هاي اللحظة أنا حرمت عليه ولا أصير قحبة على موده. 

اكتمل علاج إبراهيم بعد سنة ونصف في المستشفى، وعندما حلّ موعد خروجه، قررا العودة للعيش في الأردن لأنه لم يحتمل العودة إلى الحي بهذه الحال. حجزت كوكا سيارة وسافروا، استأجرت بيتًا في حيهم القديم من الراتب الذي صرفته لهم الحكومة العراقية، وعندما استلمت التعويض ثمانية آلاف دينار، اشترت قطعة أرض ومواد بناء، وبدأت بتعمير منزلهم. وما إن تم سقفه عام ١٩٨٩، حتى أخبرت إبراهيم أنهم سينتقلون للعيش فيه ويدخرون كل قرش لإتمام البناء، فلا داع لصرف نصف المرتب الذي يحصل عليه من الحكومة على إيجار بيت ليس لهم. 

في الزرقاء الجديدة، على طرف شارع ضيق طويل بعد ثلاثة بيوت، قام بيت كوكا وإبراهيم وأبنائهم، دون كهرباء أو ماء. غير مدهون، نصف نوافذه غير مركبة، ومطبخه ليس فيه إلا الجدران. تقدمت كوكا للحصول على راتب من وزارة التنمية وحصلت على خمسة وأربعين دينارًا شهريًا، خصصتهم لمصروف البيت، وادخرت راتب الحكومة العراقية لإتمام البناء، وتمديد الكهرباء والماء، لكن حرب الخليج حالت دون ذلك. انقطع راتب إبراهيم.

بدأت كوكا بإعداد المعاملات اللازمة لتمديد المياه والكهرباء، وتبعًا للقانون فإن تمديد خط كهرباء في حينها كان يستلزم ثلاثة بيوت على الأقل في المنطقة أو استثناءً خاصًا، لكن في ظل وجود بيتين مجاورين لبيتها أخبروها أنها لا تستطيع الاستفادة من الاستثناء وعليها الاتفاق مع جيرانها وتقديم معاملة مشتركة. سألت جيرانها، وجدت أحدهما وهو قريب لها من نفس العشيرة قد حصل على استثناء لبيته، أما الثاني وبيته الأقرب لبيتها كان قد مدّ سلكًا مخالفًا من بيت قريبها، ما جعل الاثنين يرفضان عرضها في تقديم معاملة مشتركة. طلبت من قريبها أن يمد لها سلكًا مثل جارهما مقابل أن تدفع معه الفاتورة فلم يقبل، الأمر الذي أغاظها باعتبارها قريبة له في غربة. رفض جارها أيضًا بعدما حاولت إقناعه التخلي عن السلك المسروق والاشتراك معها في تقديم الطلب. ذهبت إلى شركة الكهرباء، تخبرهم بأن لا أحد يود مشاركتها، وعليهم أن يمنحوها الاستثناء، وعندما رفضوا، أخبرت المسؤول بأن سبب رفض جارها مشاركتها هو حصوله على الكهرباء من قريبها، ما يجعله غير متضرر مثلها. حاججت مسؤول الشركة بذلك مصطنعة الغباء ومررت المعلومة وكأنها لا تعلم أن جارها مخالف للقانون. فأخبرها أنه سيبعث مندوبًا ينذر قريبها بأن يقطع الكهرباء عن جاره وإلا سيفقد ساعة الكهرباء الخاصة به. عندما جاء المندوب، غضب قريبها لأنها أبلغت عنهم، فاصطنعت الغباء أيضًا، وأخبرته أنها لم تشتك لكن إن لم يمد لها سلكًا، أو يقطع السلك عن جارهما، ستفعل. رفض وأخبرها أنه لن يرضخ لا لها ولا للحكومة. انتظرت مدة أسبوعين وذهبت إليه مجددًا، وعندما وجدته على موقفه، هددته بتقديم شكوى رسمية هذه المرة. وفعلت؛ فجاء الإنذار الثاني ما جعله يقطع الكهرباء عن جارهما، الذي وافق بعدها على الاشتراك معها في تقديم طلب لتمديد الكهرباء، وحصلت على عداد كهرباء. 

أما الماء فكان عائق إمداده القانوني هو عدم اكتمال البناء. كذلك لم يرض ابن عمها بتمديد خراطيم مياه لبيتها. ذهبت إلى محافظ الزرقاء حينها، أخبرها الموظفين أن القانون يمنع حصولها على المياه في هذه المرحلة من البناء، فمنحها استثناءً يوصل خراطيم المياه النظامية إلى بداية الشارع، وعليها هي أن تكمل تمديدهم. عرضت على جارها الذي كان يسرق المياه أيضًا بحصوله عليها بشكل غير نظامي من قريبها، ووافق. فحصلت على عداد مياه. 

بعد شرائها الخراطيم فقدت آخر ما ادخرته من نقود. حاولت أن تعيش هي وزوجها وأطفالها خلال الأشهر اللاحقة مما يوفره لهم راتب التنمية من إمكانيات. عندما حل شتاء ١٩٩١ الذي اشتهر باسم شتاء الثلجة الكبيرة في الأردن، ضاقت بهم الحال كثيرًا. صارت كوكا تقلل من المصروف المخصص لحاجيات البيت لتوفير مبلغ يمكّنها من شراء الكاز للمدفأة.

شغل الصبر على فقر الحال وإفناء الجهد بمحاولات مضطربة لإدارة الأولويات التي يمكن الحصول عليها بخمسة وأربعين دينارًا في الشهر كل تفكير كوكا. باعت الحديد الذي اشترته سابقًا لإتمام بناء السقف واشترت الطعام لأولادها، نفد المال، ولم يعد لديها ما تبيعه؛ وفي اليوم الذي نفدت فيه المؤونة، جلست هادئة مع إبراهيم وأطفالها حول المدفأة، مستكينة لا تفكر بشيء، مستسلمة وكأنها ترجو أن لا ينتبه أطفالها إلى الجوع، إلى أن قطع عليها ابنها الصغير أمنيتها وتسلق حضنها يبكي طالبا خبزة. تضعف كوكا دائمًا أمام ابنها الأصغر أكثر من أي شيء، تشعر بالذنب تجاهه لأنها تركته رضيعًا بحاجتها، الأمر الذي ضاعف عجزها وشعرت أنها تخذله للمرة الثانية، وتعجز عن إطعامه للمرة الثانية. انهمرت دموعها وهي تحتضنه تحاول تهدئته، تذكرت أن لديها حفنة طحين فاضت بعد إعدادها أكلة سمك في وقت سابق، فزّت تجلبها، لاصتها على عجل بقليل من الماء، وفردتها على غطاء المدفأة الأسطوانية الخمري، فالتصقت به وبدأت تجف. خشيت كوكا أن تحترق عجينتها، فجاءت بسكين تحفّ بها العجينة عن الغطاء حتى انتزعتها منه وقد علق بها بعض من قشرته الخمرية: “أسوي دحاريب والدموع تصب / وأحطهن بحلق فرخي حتى يسكت.” صمت فرخها وقررت أنها منذ الغد ستخرج للبحث عن عمل. 

علمت كوكا أن بإمكانها الحصول على كشك تقدمه البلدية لذوي الإعاقة فقدمت أوراق إبراهيم لبلدية الزرقاء، ومنحت على أساسها كشكًا في مجمع باصات محافظة الزرقاء، قدمت على أساسه للحصول على قرض من وزارة التنمية التي ابتاعت لها بقيمة ألفي دينار تقوم بتسديدها عند نجاح المشروع، ودفعت منها ٢٠٠ دينار رسوم بنية تحتية للبلدية، وتبضعت بمبلغ آخر مواد المطعم، لكن عمل هذا الكشك لم يسر على ما يرام بسبب موقعه المنعزل البعيد عن المارة، والعاملين في المجمع. أغلقت كوكا الكشك وذهبت للبلدية تطالب بإعادة الرسوم ومنحها كشكًا بمكان أفضل، رفض رئيس البلدية طلبها.

“- ما بنعطيك اياهم.

 والله لتعطوني إياهم، وإلا بفضحكم نصابين، واسويلكم سولافة ما صارت. 

 – اسمعي، خاف ما تندلين، أدلك وين تروحين تشتكي؟ 

 لا، أندل وأغطسك بالبحر وأطلعك ناشف.

 – يلا بنشوف.”

ذهبت إلى وزارة البلديات، وقدمت شكوى، حصلت على موافقة باسترجاع ٢٠٠ دينار، عادت إلى رئيس البلدية وأرته الموافقة، استهزأ بها، وأخبرها أنه لن يعطيها كشكًا بديلًا في موقع آخر، فوقفت في منتصف قاعة مبنى البلدية، تصرخ: “نصابين”، وتهددهم بمعرفتها أنهم يسكتون عن شخص مقرب منهم يستأجر الأكشاك من النساء المعوزات بخمسين دينارًا، ويؤجرها هو بـ مائتين وخمسين، عدا عن مواقع الأكشاك الحيوية التي يديرها. عيّرتهم بمشاريع وهمية سرقوا ميزانيتها، مثل الزفتة التي منحها إياها المحافظ لتزفيت شارع بيتها ولم تحصل عليها لأنهم باعوها للقائمين على مزار مار الياس واستولوا على ثمنها. سمعت صوتًا يقطع سرديتها. يا بنت. استدارت فرأت رجلًا أعمى يحمل عصا، اقتربت منه: شعندك؟

“- أنا قاعد براجع، وطلعت كشك بالمنطقة الحرة، اسمه كشك المكفوفين، جربي روحي عالمنطقة الحرة. 

 وين صايرة؟

 – بتطلعي من هون بباصات خوّ، وقوليله نزلني عند المنطقة الحرة.”

لم يكن معها عشرين قرشًا أجرة الباص. استدانتها من صاحب محل في السوق، وذهبت. سألت في المنطقة الحرة عن الجهة التي تقدم الأكشاك، وتوجهت في اليوم التالي إلى المسؤول عن منح تراخيص الأكشاك، رفض طلبها، فتوجهت إلى مدير المناطق الحرة، أبو يعرب. كتبت استدعاءً بكلماتها: “أنا نشوق، زوجي رجل معاق، وعندي أربعة أطفال، لا أريد غير العيش بكرامة. أريد كشكًا أعمل به في المنطقة الحرة، إن كنت تقبل على إنسان أن يبيع كرامته مقابل الطعام، ارفض طلبي.” قرأ المدير طلبها، وأرسل معها موافقة تسلمها لمسؤول المنطقة. كتب فيها أن تُمنح هذه المرأة كشكًا في مكان جيد، وتعمل به ثلاثة أشهر تجربة، وفي حال تعثرت في دفع أجرته، يخصموها من مرتبه الشخصي، وإن لم يعجبها المكان، فليمنحوها كشكًا آخر، في مكان تختاره. 

اشترت موادًا بعشرة دنانير، وربحت في اليوم الأول دينارين، والثاني أربعة، والثالث ثمانية، معادلة لا تنساها كوكا. استمرت عشرة أيام، أسعدتها وكأنها وجدت كنزًا، لكنها كانت المرأة الوحيدة في المنطقة الحرة، لذا اضطرت أن تظهر شراستها وجرأتها في الأشهر الأولى: “هاذ واحد منهم إجا بقلي زبطي السندويشة ويُغمز، قلتله: عينك بخلعها، عندك لسان وتحكي بيه، تغمز ليش! إحكي بلسانك وإحكي بأدب، قول: لو سمحتي زبطي السندويشة. هاي المرة وقفت بباب المحل ومشيتك، المرة الجاي رجليك بحشهن حشّ، ما فاتحته باب قوادة، فاتحته باب رزق.”

طعام كوكا له مذاقه مميز. في العشيرة إن حضرت، رفض الجميع أن يسمحوا لأي أحد بإعداد الطعام غيرها، وفي المطعم، أتى زبائن فقط لتناول مخلل اشتهرت به، أو اشتروه منها لإضافته لطعام لا يبيعه مطعمها. عن سبب مذاق طعامها الشهي، تقول وهي مبتسمة وفخورة إنها لا تتبع طريقة منتظمة، ولا تلتفت حتى للمقادير، و ترجع تميزه إلى أنه مقدم بحب ونفس طيبة. الحقيقة أن طبيخ كوكا مختلف وله نكهة تميزه من بين كل الأطباق، وإن تدخّل أحد آخر بإعداده ولو بشيء بسيط يفقد ميزته. أصبحت كوكا شيف المنطقة الحرة المفضل، وازدهر عملها حتى أكملت بناء منزلها وشراء أثاثه، واستقر وضعهم المادي.

بقيت كوكا على اهتمامها بإبراهيم، ولم تشعره يومًا أن خروجها للعمل وبقاءه في المنزل انتقاص منه. لكن استياؤها منه مذ خذلها لم ينته، فهي ردّت مندوبين من وزارة التنمية عدة مرات جاؤوا يقترحون عليهما أن يزرعوا لها أجنة. كان إبراهيم يرحب بهم ويحاول إقناعها بالموافقة، وهي ترد عليه: “عندي بنتين وولدين، وما أريد ولاد من واحد يقول ما أحبّل مرة، ما أعيد الغلطة وأمنلك بَعَد.” لكن كوكا تفصل بين المسائل بنهج فقيه. بقيت على حبها له، وعنادها معه، وإشراكه في كل شيء تفعله. كل يوم تعود وتخبره بكل ما حصل خلال النهار، وتعرفه بمن تتعرف عليهم، من أصحاب محال أو تجار في السوق. بعدما نمى حيهم وكثرت البيوت فيه، تعرفوا معًا على الجيران وأصبحوا يجتمعون كل مساء بعدما تعود كوكا من العمل، وتحضر ثوبًا أبيض لإبراهيم، تكويه وتعطره، وتلبسه إياه، تحمله وتنزله عن السرير الحديدي، وتجلسه على كرسيه المتحرك، تعد الشاي ويستقبلون الزوار، في الشتاء داخل غرفته التي تحتوي على فرشة أرضية تنام عليها كوكا أيضًا، عدا سريره وبعض مقاعد للضيوف، وفي الصيف يجلسون على شرفة منزلهم، وتنقل طاولة التلفاز أينما ود الجلوس. لم تغير طريقتها معه، ظلت تعامله بنديّة وعناد. يتعاركان، ويشتمان بعضهما، ويستهزآن ببعضهما، ويوبخان كل من تدخل بينهما. لا تتحدث كوكا عن إبراهيم بصيغة زوجي، بل رفيقي أو صاحبي. أرادت أن يكون رفيقها وصاحبها في العمل أيضًا.

علمت كوكا أنها تستطيع الحصول على إعفاء جمركي لسيارة خاصة لذوي الإعاقة من الديوان الملكي، لكنها لم تذهب إلى الديوان، بل ذهبت للقاء الملك حسين أثناء احتفال افتتحه بمناسبة عيد الشجرة. قابلته وأعطته الاستدعاء، واتصل بها الديوان بعد يومين وأخبرها أنها تستطيع الحصول على السيارة من مكتب الأمير رعد. ذهبت إلى المكتب، فوجدت ستة آخرين ينتظرون وصوله. لم تكن كوكا تعلم أن الأمير رعد لديه إعاقة في قدمه. ظهر لهم فرفع يده بإيماءة غير كاملة سلّم عليهم، وأكمل طريقه، شعرت كوكا أنه سلم عليهم نصف سلام فظنته متكبرًا، انزعجت ولم تقترب؛ وعندما تجاوز سيارته رأته يعرج. قالت: يا حظي، هو هم عنده إعاقة وأنا آخذ من عنده. 

ذهبت كوكا ولم ترض أن تحصل على المساعدة من شخص ترى أنه أحق بها ولو كان أميرًا. قررت الذهاب لمراجعة الديوان ولم تجد نتيجة. بعدها تقدمت بطلب في العراق، فحصلت على تعويض بقيمة سيارة، رخصتها في الأردن، ثم كيّفت معاملتها للتوافق مع السيارات الحاصلة على ترخيص وإعفاء جمركي أردني لذوي الإعاقة، تحصل عليه حين تود تبديلها، وصارت تذهب هي وإبراهيم لتسوّق حاجيات المطعم معًا. 

كوكا عفوية بكل شيء، ليس فقط في طريقتها في إعداد الطعام. تجمع بين الشراسة والهشاشة بخفة لا تثير الاستغراب. تثور وتهدأ بلحظات، تبكي ثم تسخر من ألمها فتضحك نفسها حتى تنغلق عينيها وتظهر غمازاتها، فيتحول وجهها من الحزن العميق إلى البشاشة الطفولية. عشوائية، لا تفكر بصورتها الشخصية، تتصرف لحظيًا، دون التفكير بالعواقب، خاصة إن رأت ظلمًا يقع على أحد. اشتهرت في السوق بأنها قد تضرب رجلًا إن رأته يعتدي على من هو أضعف منه، أو تقود حراكًا للمطالبة بحق لأهالي الحي بعد أن زاد عدد البيوت وامتلأت المنطقة بالسكان. تهب لمساعدة شخص تعرقلت معاملته الحكومية، حتى أن أهالي المنطقة عقدوا اجتماعًا بداية الألفية يقنعونها بالترشح للعمل في مجلس البلدية، لكنها رفضت. تميل إلى البساطة والمشاركة، تتنقل بين جلسة الرجال وجلسة النساء حينما يجري الفصل بين مجالسهم. كانت كوكا المرأة الأولى والوحيدة منذ عام ١٩٩١ حتى عام ٢٠١١ التي عملت في المنطقة الحرة.  تقاعدت، ونعمت برؤية أبنائها يكبرون كما تحب. استجاب الله دعوتها، وأكملت مشوارها مع زوجها إلى أن كبر أبناؤهم. ودّعها إبراهيم بوصية قبل وفاته عام ٢٠١٥: “لا تبكي وحطّي على راسك بعزاي شالِك الأبيض.” كانت وفاة رفيقها الشيء الوحيد الذي لا يختفي أثره في وجهها. أصبحت هادئة في لقاءات الأهل والجيران، رغم محاولاتها المكابرة  للاندماج، وكأنها فقدت برحيله جزءًا من نفسها، لا يظهر إلا معه.


هذا النص ليس عن الموسيقى، ننشره كنتاج المتدربين في معازف ضمن العام الدراسي ٢٠٢٠/٢١ في الأكاديمية البديلة.

رسمت كوكا لغلاف المقال إسراء صمادي.

أُنتجت هذه المادة ضمن فترة الدراسة في الأكاديمية البديلة للصحافة العربية.

الأكاديمية برنامج دراسي مكثف مدّته عام، يشجّع على الإبداع والتفكير النقدي في الصحافة، وتشرف عليه فبراير – شبكة المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة. يمكن زيارة موقع الأكاديمية هنا.