بدا كما لو كان هذا الرجل ظهر فجأة من العدم، ليلتقطه بعض محرري الجرائد السيّارة وُمعدّي البرامج الطيّارة ويتصدر المشهد كرمزٍ للانحطاط.
حدث ذلك عند منقلب القرنين، قبل وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المكلمة التلفزيونية talk shows، عندما كانت آراء الطبقة الوسطى تصاغ عبر بريد اﻷهرام وبرنامج حديث المدينة. تحسّرت أعمدة الرأي في اﻷهرام الرسمية على انحطاط اﻷغنية الشبابية وسمتها بالهبابية، بينما أصدرت نفس المؤسسة مجلة دورية تسمى بالشباب تروّج لنفس نجوم اﻷغنية، وجارَتها قنوات التلفزيون الرسمي التي نَعَت زمن اﻷغنية الجميل بينما ملأت فقراتها الإعلانية الأغاني ذاتها الموصوفة بالانحطاط.
في شتاء سابق على اختراق صوت شعبان عبد الرحيم للمشهد العام متحسرًا على زمن الفن الجميل وداعيًا ضد البانجو، كانت الموسيقا البديلة مثل الروك والهارد روك والميتال تصادَر مجتمعيًا بربطها بعبادة الشيطان، بينما كررت اﻷغنية الشبابية نفسها واعتمدت في استمراريتها على صيت نجومها فقط. جاء شعبان حينها ليردد تحسرات الطبقة الوسطى على زمن الفن الجميل ورموزه السابقين، بلغة شعبية ورتم مُكرر ولازمة مُوحدة. بالنسبة لممثلي التيار السائد، كان شعبولّا يرتكب محظورًا ﻻ يمكن غفرانه، فهو يتكلم بصوتهم وهو ليس منهم، فصار الصوت الذي حقق اختراقه للمشهد بعد عقد ونصف من دخوله سوق الكاسيت عبر التغني بأمجاد الزمن الجميل والشكوى من انحطاط الفن “تعبنا م الفن يا أنّة وناس تغني الهاري كاري وناس تغني كامننا“، هو نفسه رمزًا الانحطاط.
بدا شعبان عبد الرحيم فريسةً ذهبيةً لخطاب الانحطاط اﻷثير للمجتمع المصري الراكد في الخُمس اﻷخير من القرن العشرين، شماعة التغني بتراث محبوس في مخازن أجهزة الدولة لا نعرف عنه شيئًا، اكتشفناه لاحقًا بعد تسرب شذرات منه إلى الإنترنت. في تلك اﻷيام لم تكن الشبكة العنكبوتية سوى خيال باهت يزحف ببطء، حتى لو غنى شعبولّا “راح خلاص زمن الست وبقينا في عصر الإنترنت.” بعد صيفين ظهر اللمبي مغنيًا حب إيه وأصبح بطل مشهد الانحطاط لشهور آخذًا مكان عبد الرحيم الذي كان قد حقق اختراقه للتيار السائد، في وقت لم يكن لمطرب شعبي مثله تحقيق الاختراق سوى عبر أفلام سينمائية أو أعمال درامية ومسرحية مثل حسن اﻷسمر.
تحول شعبان عبد الرحيم لإفيه قبل أن يدخل إلى السينما. في تلك الرحلة عثر على صوته الخاص، اللحن المكرر واللازمة إيييه وخاتمة “بس خلاص”، والغناء بلسان شعبي بسيط عن اﻷحداث الجارية، كره إسرائيل وأحب عمرو موسى – الأغنية التي أدت لإقالته إثر تحسس مبارك من شعبيته المتزايدة، كما سرت الشائعات وقتها. أخيرًا دخل شعبولّا السينما على يد داوُد عبد السيد في مواطن ومخبر وحرامي. في حديث للمخرج على إذاعة بي بي سي، قال إن كثيرين ممن انتقدوا شعبان عبد الرحيم تعالوا عليه طبقيًا ﻻ بسبب موقف نقدي وفني.
كانت تلك الجملة مفتاح إعادة تفكيري الخاص في شعبان عبد الرحيم، القسمة الطبقية التي تقسم مصر تسري على الفن كذلك، وفنه ضحية لها. هو القادم من الشرابية من أراضي غرب السكة الحديد، خط المرج الذي اندمج لاحقًا في مترو اﻷنفاق. في المناطق المحصورة ما بين نهر النيل وشريط القطار، تجد نفس الفارق الطبقي والفني والموسيقي ما بين رمل الخواجات وولاد البلد في اﻻسكندرية، الفارق المصاغ فنيًا وموسيقيًا في مسلسل الراية البيضاء الرائج في مصر منذ إنتاجه في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعبر بدرية السيد عن مزاج فضة المعداوي تاجرة السمك في بحري، ويعبر سترافنسكي وعصفور النار عن مزاج الدكتور مفيد أبو الغار في لوران. في المسلسل، اختار الكاتب أسامة أنور عكاشة موال طلعت فوق السطوح للتعبير عن الانحطاط السوقي، فلا يجوز للنونو صبي الحلقة أن يكون مطربًا شعبيًا.
ظهر شعبان عبد الرحيم بشريطه اﻷول شعبان فوق الصفر منتصف الثمانينات. في أحمد حلمي اتجوز عايدة، أغنيته الأولى التي حققت بعض الشهرة، كان شعبان ابن الفن الشعبي في وقته مع امتلاك صوته الخاص. تُستهل الأغنية باﻷكورديون المميز للمواويل الشعبية، مصاحبًا لموال “إوعى يا غلبان تروح لجبان وتشكي له” يُظهر الخامة الصوتية لشعبولا، التي ستختفي لاحقًا مع تثبيت رتم ولحن وﻻزمة. أما الصوت الخاص الذي سيجري تثبيته فهو التعليق على حال اﻷغنية وقتها: “اسمع مني يا بلدية / وسمعوني لعدوية / اسمع مني كلام شعبان / فيه ناس تقول ع الغنا توهان”، في إشارة ﻷحمد عدوية وحسن اﻷسمر وأغنية توهان. بعد انتقاده لأغاني زمنه وتحبيذه لكون الغناء للروقان، يغني شعبان ﻷحمد حلمي وعايدة والشيخ رمضان والعطار والعسال، في أغنية تشير إلى مناطق شبرا والشرابية والزاوية الحمراء وخط قليوب، المحصورة بين شرق النيل وغرب السكة الحديد، قبل أن يلقي التحية بالروقان على كل مصر.
ما بين شريطه اﻷول شعبان فوق الصفر واختراقه للمشهد العام في أواخر التسعينات، أصدر شعبان عبد الرحيم عدة شرائط لم تحقق له الاختراق وﻻ المكسب المادي، وإن اشتهر خامسها بأغنية كداب يا خيشة التي جعلت اسم خيشة بطل مسرحية تجارية لاحقة هي تكسب يا خيشة. في كداب يا خيشة يحافظ على الاستهلال بالموال، ثم يحكي حكاية خيشة الكذاب الذي ﻻ نعرف عنه سوى إنه “كداب قوي” بينما كان “فاكره فهلوي”، ويُلحق ذلك بالتعليق على أهل المَغنى، ويعدد مهن المغنيين الشعبيين في مواجهة من حسدوه ﻷنه مكوجي وبيغني، حيث “الفن كله صنايعية وهو دا اللي مجنني (…) التربي خد عربون وﻻ جاش وحسن اﻷسمر كان نقاش” أما عادل المصري فبتاع دوكو ومجدي طلعت حلاق وعبد الباسط حمودة استورجي.
في أهل الطرب التي تلاها الاختراق الكبير في منقلب القرنين، تُستهل اﻷغنية بسلام النبطشي الطريف “نواصل هذا الحفل الساهر في ليلة من ليالي كريسماس الربيع”، ثم يتلو السلام موالًا يتحسر على حال المغنى، تلك الثيمة اﻷثيرة عند شعبان ما قبل الاختراق، مع لازمة “اسمع مني شوف حصل إيه” السابقة على إيه والمتكررة بصور مختلفة في شريطه الأول. يعيد شعبان عبد الرحيم صياغة الخطاب الرسمي السائد عن الأغنية الشبابية والفيديو كليب بلهجة شعبية ﻻ تروق للطبقة المُصدرة لنفس الخطاب. يبدو العقد كله كما لو كان خيشة الكذاب وشعبان يمارس تلخيصه “ليالي أضواء ومدينة” وديدي ومكارينا و”حتى الكلام ما بقاش عربي” ثم ينتقل للنصح بلازمة “اسمع مني”، ويهاجم البانجو مخدر التسعينات اﻷثير.
لاحقًا اقتحم شعبان عبد الرحيم المشهد ووظف موهبته في قنص اﻷحداث والتعليق عليها، فأصدر أغنيته الأشهر أنا باكره إسرائيل في شريط حمل أغنية أخرى أقل شهرة عن مقتل الدرة هي قتلوني يابا. ثبّت شعبولا اللحن واللازمة، مكتفيًا بكلمات إسلام خليل القادر مثله على التعليق السريع مستبدلًا “اسمع مني” بـ “إيييه”. بطّل السجاير وشال حديد وغنى عن جنون البقر، وأصبح ضيفًا ثابتًا على القنوات التلفزيونية الساخرة من ملابسه، وهو يتحدث ببساطة غير مفتعلة عن حبه للرنجة واختياره ملابسه مثل الصالون. صار نجمًا سينمائيًا ومسرحيًا وتلفزيونيًا، بعد ١٥ عامًا من الغناء لم يعرفه فيها أحدٌ، إلا حين صار إفيه.
رحل شعبان عبد الرحيم بعد أن حقق اختراقه. بعد أن كذّب زمن خيشة الذي يغني عن الانحطاط ويتحسر على الزمن الجميل بينما يحبس أشرطة تسجيلاته في بدروم الإذاعات تأكلها الفطريات والديدان أو تُعرض لاحقًا للبيع. رحل شعبولا بعد أن نال محبة الجمهور الذي ظهر أمامه يومًا بوصفه رمز الانحطاط. يحب خطاب الزمن الجميل الحكايات المرسلة، مثل حكاية المكوجي الذي نسيَ رسالة غرامية في جَيب شاعر غنائي قديم فصارت أغنية، بينما ينتهزون فرصة ظهور المغني المكوجي للسخرية منه. كذّب شعبان عبد الرحيم خيشة وفهلوته وفضح زيف خطابه المتغني بالصنايعية في الحكايات، الخائف من ظهور فنهم على أشرطة الكاسيت. رحل شعبولا في زمن لم يكن فيه هو الانحطاط بل كان الانحطاط مسار تاريخي شامل خارج عن شخصه وعن عفويته وتلقائيته وألوان بِدَله الفرحة المبهجة.