أردت أن اكتب عن جورج وسوف لأردّ له الجميل. بدأت حكايتي مع الوسوف عندما كنت في العاشرة من عمري، في صيف ١٩٩٢. حين انتهت المدرسة سألت والدي “بابا هي الصيفية حنطلع عالصيد؟” فرد بنبرة حادة “إذا بدك تطلع عالصيد روح اشتغل واجمع حق الخرطوش، أمك وأخواتك أحق بالمصاري.” بعد هذا الإعلان انحصر تفكيري في كيفية تدبير كلفة الخرطوش. قلت لنفسي حازمًا: بدنا نطلع عالبقاع ونروح نتصيد، ثم بحثت لأسبوع عن عمل لمدة لحين بدء موسم الصيد، ووجدته كمساعد عند ميكانيكي الحي، محمد.
بدأت عند محمد أعاونه في تصليح السيارات. كان محمد يتوقف عن العمل في الساعة الثالثة كل يوم ويستعد لرحلته اليومية لصيد السمك، تحديدًا سمكة المواسطة وهي النوع الأكثر توافرًا (ممكن الوحيدة) على شواطئ بيروت. المواسطة تحب المجرور، هكذا تُعرف، تعيش وتقتات حول العديد من مجاري الصرف التي تصب في البحر. كان محمد يعود الى المحل مساءً وبيده حوالي كيلو من السمك، ونكون أنا وبلال، الصبي الآخر، قد انتهينا من تنظيف المحل وكامل العدة. كان المعلم محمد يقدس هذا الطقس اليومي: السمك والعرق وجورج وسوف. هكذا كافأ نفسه يوميًا بعد الغوص في شحم السيارات وزيوتها. خلال الدوام كنت أسرد وأنسجم تمامًا مع صوت أبو وديع يصدح بين جدران المحل المظلم العابق برائحة الشحوم.
ذات يوم، دخل المعلم محمد الى المحل حاملًا غلته من السمك، فوجدني منغمسًا في التنظيف رافعًا صوت الستيريو والهوى سلطان يلعلع. ركض بلال إلى الستيريو وأطفأه بشكل عصبي ومفاجئ خشية من المعلم، ثم صاح: “معلم والله ما أنا، هيدا هو، هو اللي دور الراديو.” فما كان من المعلم إلا أن ردّ عليه: “كول خرا يا بهيم. ما سألتك مين دوّر الراديو. رجاع دوره وفلّ عبيتك.” عمّ سكوت ثقيل في الورشة. جمد بلال في أرضه لثوانٍ ثم انصرف بسرعة، وبقيت أنا ومحمد الذي صرخ صوتًا ناحيتي: “شو وليه شو ناطر، دور الراديو ولعب الكاسيت من الأول وركب الطاولة بسرعة ياللا” وانصرف إلى تنظيف السمك. عندما أصبحت الطاولة جاهزة جلس المعلم لتناول السمك ورشف العرق البلدي، وعندما بدأت بالانسحاب من المحل دعاني للمرة الأولى للجلوس وتناول السمك معه. جلست مقابله آكل بصمت وأتمنى أن يمرّ الوقت بسرعة. كنت أيضًا أشعر بالذنب تجاه بلال. حين بدأ محمد يشرب الكأس الثالث قال “شو يا عكروت شكلك صاحب راس عن زُغر صِغَر؟” ابتسم ابتسامة رخوة سببها الكاس ثم تابع قائلًا “إذا عجبك كاسيت جورج فيك تدوره بالمحل ما عندي مشكلة، بس بشرط هيدا الكاسيت بس، وما تخلي بلال يمد إيده عالراديو. وإذا بيتمنيك عليك حسابه عندي.”
هكذا أنقذني الوسوف صيف ١٩٩٢ من طغيان المعلم، وأكسبني نوعًا من الاحترام في الورشة. أتممت شهرين من العمل دون ضرب أو توبيخ على عكس بلال المسكين. بعد إنهاء العمل الصيفي أحصيت مدخراتي وذهبت لأشتري خرطوش الصيد، وأول كاسيت في حياتي: روح الروح. أذكر أنني لعبت روح الروح طول الصيف خلال رحلات الصيد وحفظت كلمات الأغاني بخشوع. كانت هذه أول موسيقى أتعلق بها، ألحانًا وكلماتٍ وأداء. في سن ما قبل المراهقة، أصبحت هذه الموسيقى عيبًا أخفيه، كالعادة السرية، خصوصًا عندما دخلت الإم تي في وراديو وان وانتشر نوع آخر من الموسيقى الأجنبية، فانجلق لبنان بالعولمة والكوول والكولنة اللبنانية التي قدست الموسيقى الغربية، أحد أهم عناصر الكولنة بين الشباب في منتصف التسعينات. دخل الراب بعدها وكان ذلك عظيمًا.
بعد سنين، كان الوسوف حاضرًا ليلة حزم الأمتعة حين أتت فرصة سفر إلى المهجر للبحث عن الحلم الأمريكي، أو ربما كما تخيل الأهل؛ لقطف المال من على الشجر. حرصت تلك الليلة في نهاية التسعينات على اصطحاب تشكيلة من كاسيتات الوسوف على رأسها كاسيت أنا مسافر. رجعت مرارًا إلى الوسوف خلال سنوات الهجرة في لوس آنجلس، لعبته كلما أصابني الحنين واستحوذت على مخيلتي الحياة التي تركتها خلفي في الوطن. لم أكن وحيدًا في ممارسة الطقس الوسوفي بل وجدته حيًا عند الأصحاب من سوريا وفلسطين والأردن. كان كاسيت أبو وديع هذا العلاج ضد قسوة الغربة.
أذكر ان المرة الأولى التي شغلت فيها أغنية أنا مسافر في غرفتي في أمريكا أصابني نوع من الصدمة، جمود وانفصال غير شعوري عن المكان والزمان الذي كنت فيه. كان صوت الوسوف يصدح في الغرفة وشريط من الذكريات والتساؤلات والمشاعر تلعب داخل رأسي الى أن تكّ الكاسيت وأرجعني إلى وعيي. أعدت الوجه الأول ولعبت الموال من جديد. سمعت الوسوف يغني “وإذا بهجري جرحتك سامحيني”، أخذت الأغنية نوعًا من الثقل ومعنى لم أدركه حين كنت أسمعها في لبنان.
عندما عدت إلى بيروت، باحثًا عن هويتي السياسية، دخلت الأجواء اليسارية وتفاجأت أن اليساريين لايتعاطون الوسوف. كانوا غارقين في شعارات مارسيل وزياد وجوليا وباقي الجوقة. قال لي “رفيق” مرة إن جورج وسوف يغني للبرجوازية، وهو بالتالي حليف البرجوازية ويجب مقاطعته. لم أفهم هذا “التحليل الجدلي” في تلك المرحلة واعترضت أن الرفيق لم ينصف أبو وديع، فرد الرفيق قائلًا إني ساذج.
انتِ وأنا ياريت عنا كوخ / مخبى بفي الحور والكينا / وما يكون عنا لا كهرباء ولا جوخ / ونعيش وما يعرف حدا فينا.
هل كان جورج وسوف ماركسيًا، شيوعيًا او اشتراكيًا حين غنى هذه الأغنية؟ لا أعتقد أن أبو وديع كان يسعى الى تسويق أيديولوجية حين غنى هذا الموال الذي تحولت كلماته الى مانيفيستو يلخّص خليطًا من مشاعر حب ورومانسية وسط الحرمان والمأساة في أعماق بحر سميعة الوسوف. أصبح هذا الموال تعويذة لعشاقه، يُحفظ غيبًا لتطمين النفس أن العيش في القلة ممكن وأن السعادة تكمن في البساطة. غنى جورج وسوف من تحت، من وحي العامة ليطرب الناس، لم يعرف مهنة أو صنعة غير الغناء؛ فكان صوته حرفته التي يخترق بها كافة الطبقات والطوائف والأديان. على الأقل هذا ما شعرتُ به في لبنان في التسعينات وأول الألفية.
موسيقيًا، كان أكثر ما شدني إلى الوسوف هو الكيبورد والسينث، وألحان شاكر الموجي التي غنى عليها وسوف مجسدًا الكلمات بشغف. عندما أطلق حبيت إرمي الشبك عقلب ما بينشبك أصبحت الأغنية النشيد غير الرسمي لدفعة مجندين الإجباري في الجيش اللبناني سنة ٢٠٠٢، ومن خلال اللعب على الكلام تمكن المجندون من شخصنة الأغنية، فبدل “لا تتمرجل على عاشق قلبه ابتلى/ معوَّد يحمل قهر معَّود يحمل سهر” صارت “لا تتمرجل على مجند بالبدلة ابتلى/ معوَّد يحمل قهر معَّود يحمل حرس.” تحولت الكثير من كلمات الوسوف إلى شعارات شخصية، وقد يكون ذلك بسبب الهم الشخصي الذي يتدفق خلال أداء الوسوف، خصوصًا عندما يبدأ بدخلة ملحمية جامدة يحسسك فيها بأنه على وشك ان يفرم شخصًا ما. خذ/ي هذا المقطع كمثال:
“جرحونا برمش عين يا عين كلامهم مسّنا / سألونا نبقى مين مين قدمنا نفسنا / قلنا احنا اللي القمر يا قمر ما عرفش يذلنا / الناس طلعوا القمر وقمرنا نزلّنا.”
هذا الأسلوب جعله كبيرًا في عيون جمهوره وعشاقه، وتمثل بصوته وأدائه الذكوري الحِمِش المتحدي المتعالي الرافض للتنازل: “الناس طلعوا القمر وقمرنا نزلّنا.” كم من خلايا دماغية احترقت في سلطنة الوسوف، على عكس هاني شاكر وجمهوره الميلانكولي المنكسر. عدا عن هذا، ظل جورج وسوف كبيرًا في عين جمهوره لأنه لم يجلجق ويبهدل حاله في الإعلام، فمع بداية التسعينات وفورة البرامج الفنية ومحطات الساتلايت الطامحة الى تسويق رخيص للفنانين/ات كان ظهور الوسوف نادرًا، حتى عرف بأنه لا يُحب الإعلام، لأنه يحب البقاء على طبيعته بينما “الإعلام كله تمثيل وكذب.”
طريقة استخدام او إلقاء كلمة حب في غناء الوسوف جعلت ترجمتها في الشارع، ودائمًا من خلال عشاقه، تأخذ معان مختلفة. تحولت كلمة حب، أو عبارة “شو يا حب” إلى كلمة تعني شيئًا محظورًا أو كلمة مرور أو رمز تعارف وتضامن بين جمهوره. لكن السؤال هو لماذا جورج وسوف؟ عندما استفسرت من جيل أهلي قالوا: “جورج وسوف رجع ذكرنا بأيام أم كلثوم.” أما بالنسبة لأبناء وبنات جيلي، مواليد الحرب الأهلية، كان أبو وديع من عرّفنا على عالم أم كلثوم وطرب تلك الحقبة. لذلك فإن الاعتراف بشرعية الوسوف في استنباط ذلك الطرب جعله فنانًا ثابتًا راسخًا كمنارة في ظلام بحر مغنيين انتشروا مع تفشي روتانا وتدفق أطنانٍ من الموسيقى الاستهلاكية. تحول جورج وسوف الى سلطان الطرب وأصبح جنرا بحد ذاته عندما ظهر في أواخر التسعينات فنانون جدد تمثلوا به وقلدوه بالشكل والمضمون، سواء من خلال التيشرت السوداء والجينز واللحية الخفيفة المخططة، أو في التقليد الببغائي لطبقة صوته، حتى في أسوأ أيامها.