أشعلت حفلة لفرقة مستقلة في الإسكندرية حوارات محتدّة حول أسعار تذاكر الحفلات في مصر، اختلفت الآراء بين مؤيد ومعارض كل منهم استشهد بمسمياته ومرجعياته التي خلقها لقولبة أشكال الفرَق والإنتاج من حوله. زعم البعض أن فرق الأندجراوند كما يسميها لا ينبغي ان تهدف للربح من الأساس، وكان تعليق البعض “ليه تذاكر غالية؟ دي مش حفلة لتامر حسني يعني” وذلك يعني انه يرضى أن يدفع الكثير لحضور حفل لمطرب وليس لفرقة مستقلة. وصف البعض الفرق أنها تحولت لفرق تجارية فيما رأى البعض أنّ الأسعار تتناسب مع ما تقدمه الفرق المستقلة. اشتعلت حرب المسميات بين اندجراوند ومستقل وcommercial وmainstream وغيرها. فرأيت أنه من الأفضل أن نسترجع بدايات ظهور الفرق المستقلة كما عاصرتها وتشرفت أن أكون جزءً منها منذ بداية ظهورها (للمرة الثانية أو الثالثة في مصر) في فترة منتصف التسعينات.
في تلك المرحلة، لم يكن في الساحة غير فرقة افتكاسات وفرقة نغم مصري ويحيى غنام وفرقة خالد شمس والقليل من الفرق الأخرى. وكانت تقتصر العروض على مسارح الأوبرا وبعض الجامعات. تعرفت سنة ١٩٩٧ على نبيل البقلي مؤسس فرقة الحب والسلام التي ظهرت في السبعينات وأصدرت ألبومي إسكندرية..أذكريني (١٩٧٨) والحب تحت العشرين (١٩٨٢) ثم اختفت كما فعلت باقي الفرق في ذلك الوقت مثل المصريين والچيتس وطيبة وغيرها. وبعد هذا الإنقطاع الطويل قرر نبيل البقلي العودة إلى الساحة الفنية من جديد مع مجموعة من الشباب وكان لي الحظ ان أكون أحدهم وكنت في التاسعة عشر من عمري.
بدأت الفرقة بمرحلة إعداد استمرت لأكثر من سنة ثم بدأت في تقديم حفلات في الأماكن المتاحة في ذلك الوقت، ثم ظهرت فرقة وسط البلد التي أسهمت في تغيير ذائقة الجمهور مما شجّع الكثير من الفرق على الاستمرار في ما تقدمه على الرغم من قلة عدد الجماهير وضعف الإمكانيات الإنتاجية. ومع ظهور فرق مثل رسالة ومسار اجباري وصحرا وبلاك تيما وغيرها، وأماكن عرض مثل ساقية الصاوي، ومهرجانات مثل SOS Music Festival، بدأت الفرق المستقلة في شقّ طريقها للتواجد في الساحة الفنية في مصر. ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وظهور تقنيات بسيطة وغير مكلفة للتسجيل والتصوير استطاعت الفرق تحقيق انتشاراً واسعاً، فرأينا صوت الحرية لـ كايروكي تحقق نجاحاً عظيماً في ٢٠١١ معلنة بداية مرحلة جديدة للتيار الموسيقي المستقل. ومع بداية هذه المرحلة وجد المستمع نوعاً مختلفاً من الموسيقى يختلف كثيراً عن الموسيقى السائدة mainstream التي تعوّد على سماعها فحاول البعض إيجاد تصنيفات ومسميات لما يدور من حوله، فرأيت أنه من الأفضل مراجعة بعض المصطلحات والمسميات والتي في الحقيقة لا أفضّل استخدامها، فالموسيقى أو أي فن بشكل عام يعتمد على الذوق الشخصي وليس على التصنيف.
الأندجراوند
يتعامل البعض مع كلمة أندجراوند كصنف موسيقي يقدمه الفريق كالروك أو الجاز أو غيرهما وهذا خطأ فادح. ليس الأندرجراوند نوعاً موسيقياً، بل طريقة انتاج قائمة على عدم الظهور بشكل مباشر نظراً لرفض المجتمع للمادة المقدمة لأسباب ثقافية أو سياسية وهو أمر لا علاقة له بنوع الموسيقى أو بشهرة الفنان أو كفاءته. أوضح مثال في مصر على ذلك هو الشيخ إمام. فنظراً لأسباب سياسية اتسمت بها تلك الفترة، لم يتسنى للشيخ إمام التواجد في الإذاعة التي كانت أكثر الوسائط انتشاراً آنذاك، ولم يكن باستطاعته تقديم حفلات علناً خوفاً مما تطرحه أغانيه من موضوعات سياسية حساسة، فنجد أنّ معظم تسجيلات الشيخ إمام هي من حفلات خاصة في أماكن غير معلنة تم تسجيلها على شرائط كاسيت وتم تداولها ونشرها حتى أصبح أحد أهم رموز الغناء في مصر والوطن العربي وفاقت شهرته الكثير ممن أتيحت لهم فرصة التواجد في القنوات الطبيعية. نجد الحالة ذاتها تتكرر الآن مع فرق الميتال حيث يعتبرها جزء كبير من المجتمع عبدة شيطان وغيرها من الخرافات، مما أدى لأن تواجه فرق الميتال مشاكل عنيفة في فترة التسعينات أدت إلى سجن العديد من الموسيقيين. تقوم الآن فرق الميتال بتنظيم حفلات بشكل غير معلن في فيلات خاصة مثلاً تجنباً لأي صدام مع المجتمع مثلما حدث مؤخراً مع فرقة أطفال الشوارع التي تقدم مضموناً سياسياً أدى إلى محاكمة أعضاء الفريق. أما باقي الفرق فتقدم حفلات معلنة ولها دعاية مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي وأحياناً دعاية في الشوارع.
إذاً لا يمكن اعتبار أي فرقة موسيقية “أندرجراوند” حتى ولو كان عدد الحضور في حفلاتها لا يتجاوز العشرات، فكما قلنا ليس عدد الحضور وحجم الشهرة مقياساً. فنجد هنا أول تصادم، فيتسائل البعض معترضاً لماذا تقدم فرقة “أندرجراوند” (كما يعتبرها هو شخصياً) حفلاً في مكان تجاري؟ أو لماذا أصبحت أسعار تذاكر حفلات الـ“أندرجراوند” تشبه أسعار حفلات المطربين الـماينستريم؟ ولماذا تشارك الفرق في دعايات منتجات تجارية؟ تأخذنا هذه التساؤلات للمصطلح الثاني وهو “مستقلّ“.
المستقل
الفرق المستقلة هي الفرق التي لا تعتمد في إنتاجها على شركات الانتاج الفنية كما هو الحال مع أغلب مطربي الماينستريم. الاستقلالية هذه تعطي الفنان الحرية في التعبير دون التقيد بآراء منتجٍ لا يريد المغامرة ويفضّل الكسب المضمون خاصةً بعد انتشار ظاهرة الـتنزيل المجاني free downloads ضاربة عرض الحائط كل قوانين حماية الملكية الفكرية، مما أدى لانهيار سوق الكاسيت كما كان يسمى في الثمانينات والتسعينات. فكانت مبيعات بعض الألبومات تتجاوز عشرات الملايين، أما الآن فأصبحت المبيعات لا تتخطى مئات الآلاف. نظراً لهذه التغيرات على الساحة الفنية فضّلت الفرق المستقلة الإنتاج الذاتي أو الاعتماد على وسائل تمويل بديلة. يعتمد التمويل الذاتي على ما تحصل عليه الفرق من الحفلات أو أي مصدر آخر للدخل، قد يكون عن طريق استقطاع جزء من إيراد كل حفلة، أو استقطاع جزء من الدخل الثابت الذي يحصل عليه كل عضو في الفريق من وظيفته التي قد لا يكون لها علاقة بالموسيقى أساساً وتخصيصه للإنتاج.
تكلفة أي فرقة مستقلة في تسجيل ألبوم لا تختلف كثيرا عن الكلفة التي يتحملها مطرب خاصةً عندما تسعى الفرق لتقديم أعلى جودة ممكنة في تسجيلاتها. وهذا لا يعتمد فقط على الاستوديو ومهندسي الصوت فحسب بل يعتمد أيضاً على الاَلات المستخدمة وسنوات الدراسة الطويلة والتدريب المستمر الذين يقوم بها العازفون لتحقيق أعلى مستوى. فنجد مثلاً أن كايروكي يقومون بعمل الماسترنج إتقان الصوت لألبومهم الأخير ناس وناس في ستيرلنج ستوديو ساوند Sterling Sound في نيويورك وهو أحد أفضل استوديوهات العالم، كما نجد أنّ مشروع ليلى قد قاموا بتسجيل البومهم الثالث رقصوك في استوديوهات Hotel2Tango في مونتريال.
يلجأ البعض إلى مصادر تمويل بديلة إما عن طريق التمويل الجماهيري crowdfunding، وهي طريقة أثبتت نجاحاً مبهراً في رقصوك لـ مشروع ليلى، حيث استطاعت الفرقة جمع ٦٦ ألف دولار لإنتاج ألبومها وتجهيز خطة إصداره على أعلى مستوى احترافي. يلجأ البعض الآخر للمؤسسات الثقافية كما فعلت افتكاسات في انتاج ألبوم مولد سيدي اللاتيني بدعم من مؤسسة المورد الثقافي، كما أنتج طارق يمني ألبوم لسان الطرب بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون. البعض الآخر تساعده شعبيته الواسعة في الدعاية لمنتجات تجارية في مقابل انتاج ألبوم أو فيديو كليب مثل كايروكي وشارموفرز، والبعض يفضّل التمويل الذاتي مثل مسار اجباري في ألبوم تقع وتقوم.
لا نستطيع الحكم بأن أي من هذه الطرق أفضل من غيرها، فكل فنان أو فريق يختار ما يناسبه، والأمر المشترك هو أن كل وسائل التمويل هذه لا تعطي الممول الحق في التدخل في شكل الموسيقى المقدمة أو نوعها وهو ما تسعى اليه الفرق المستقلة. وبالرغم من هذا، نرى البعض يتهم الفرق بأنها تحولت لفرق تجارية، فيأخذنا هذا الاتهام لمصطلح التجاري.
تجاري
تنطبق كلمة تجاري على أي منتج (فني أو غير فني) له القدرة على البيع والانتشار. فمن منا لا يريد لألبوماته أن تنتشر وتُسمع وتحقق أرباحاً؟ هل هناك فنان يفضل أن يضيّع سنوات من عمره ومجهوده لإنتاج موسيقى لا يسمعها إلا أصدقاؤه؟ وأي من الفرق التي التي ذاع صيتها في العالم لم تكن تجارية؟ ألم يصدر مايكل جاكسون أو البيتلز أو بينك فلويد ألبومات حققت مبيعات وأرباحاً غير مسبوقة؟ لماذا نعتبر تحقيق مكسب مادي أمراً مسيئاً؟
وجود عائد مادي هو السبيل الوحيد لضمان استمرارية المشهد الموسيقي. بعيداً عن المثاليات والشعارات الحالمة التي يرفعها البعض في وجه كل فنان حقق مكسباً مادياً، لنفكر قليلاً بشكل عملي وواقعي كيف يستطيع الفنان المحترف (سنتطرق لتفاصيل كلمة محترف وهاوي لاحقاً) أن يشتري آلاته الموسيقية التي تعتبر القلم الذي يكتب به أفكاره: هل تباع الاَلات لموسيقي مستقل بسعر أقل مما تباع به لأي موسيقي آخر؟ بالطبع لا، فالأسعار لا تتغير حسب ما يقدمه الموسيقي أو حسب طريقة إنتاجه. فنجد أنّ مصطلح تجاري هو الأقرب للواقعية وهو السبيل الوحيد لضمان استمرارية وتطور المشهد المستقل.
الموسيقى السائدة
الموسيقى السائدة هي الأكثر انتشاراً وسيطرة على الساحة، ولا ترتبط التسمية بصنف الموسيقى المقدمة. ففي التسعينيات كانت فرق روك مثل بون جوفي ورد هوت تشلي ببرز وغيرهما وفرق الـبوب مثل تايك ذات وسبايس جيرلز وغيرهما الأكثر انتشاراً، ولم تنقطع أغانيهم عن محطات الموسيقى مثل إم تي في MTV التي عرضت لهم عشرات الفيديوهات يومياً. في تلك الفترة لم يكن هناك أنواع مختلفة من الموسيقى في العالم العربي، وكانت الـPop كالتي يقدمها عمرو دياب وإيهاب توفيق وغيرهما هي المسيطرة، فسمي هذا النوع الموسيقي بالـ mainstream. في ٢٠٠٧ واجهت فرقة وسط البلد هجوماً واسعاً بعد اصدار ألبوم وسط البلد واتهمهم الكثيرون بأنهم تحولوا لفريق تجاري وأنهم أصبحوا يقدمون موسيقى تشبه الموسيقى السائدة، وهو أمر مغلوط تماماً. فما فعلته وسط البلد هو جعل ذائقة الجمهور تتقبل نوعاً جديداً من الموسيقى فاتحةً المجال لجيل كامل من الفرق المستقلة للتواجد بشكل واضح على الساحة. فلو أصبحت الفرق الموسيقية أكثر انتشاراً ولم تنقطع أغانيها عن القنوات والإذاعات والحفلات، فهل سنعتبر ذلك أمراً سيئا؟ بالعكس، فالانتشار هذا سيؤدي إلى إثراء المشهد الموسيقي، وهذا لن يتحقق إلا بالاحترافية.
الاحتراف / الهواية
لا تقاس الاحترافية بمستوى إتقان العازف، فمن الطبيعي أن نجد مهندساً أو طبيباً يعزف الجيتار بمهارة أكبر من عازف محترف، لكنه في النهاية يعتمد على وظيفته الثابتة لكسب العيش، على عكس الموسيقي المحترف المتفرغ الذي لا يكسب عيشه سوى من الموسيقى، فيكون دخله الرئيسي مما يقدمه في مشروعه الخاص أو بالاشتراك في العزف أو التسجيل مع مطربين قد يقتنع بما يقدمون أو لا يقتنع.
من أجل أن يحقق الموسيقي كسباً مقبولاً من مشروعه الخاص يجب أن تتوافر عوامل عديدة غير الموسيقى مثل البراندنج Branding والإدارة والتسويق وهو ما تقوم الجامعات المتخصصة في الموسيقى بتدريسه في مناهج منفصلة تحت مسمى الـ Music Business. فنجد أنّ جامعة Berklee College of Music، وهي إحدى أشهر جامعات العالم في الموسيقى، تقوم بتدريس أكثر من ٢٠ مادة خاصة في بزنس الموسيقى منها التسويق والإدارة والقوانين المتبعة في العملية الإنتاجية وحقوق الملكية الفكرية وإدارة أماكن العرض وغيرها. شاهد الكثير منا موسيقيين في قمة التمكن والمهارة يعزفون في محطات المترو في أوروبا، قد يكونون أكثر تمكناً من الكثير من العازفين في أشهر الفرق العالمية، لكنهم يركزون بشكل أساسي على العزف متناسين تماماً باقي العوامل الأساسية في العملية الإنتاجية. فالموسيقى مثل السينما هي صناعة تعتمد على التوازن بين المحتوى المقدم وطريقة تقديمه. إذا حاولنا تقييم فريق مثل مشروع ليلى، فهل أعضاء الفريق أكثر العازفين مهارةً؟ وهل ألحانهم هي الأفضل من حيث جماليات اللحن؟ ليس بالضرورة إطلاقاً، لكن ما يتبعه الفريق من إدارة وتسويق جعلهم الأشهر والأكثر انتشاراً في الوطن العربي وجعلهم من أشهر الفرق العربية على المستوى العالمي.
ختاماً ومن تجربتي الشخصية في المشهد الموسيقي المستقل منذ التسعينات، مازلت أذكر حفلات يحيى خليل في قاعة المؤتمرات في الإسكندرية التي كان عدد الحضور فيها لا يتجاوز بضع المئات وظهور الفرق مروراً بحفلات صندوق التنمية الثقافية في بيت الهراوي وبيت السحيمي وحفلات الأوبرا، ثم مهرجان إس أو إس الذي حضر أول دوراته حوالي ٦٠٠٠ متفرج، و٢٠ ألفاً في آخر دورة أتوا ليحضروا ١٠ فرق مستقلة. ثم حفلات لفرق مثل كايروكي يحضرها ١٠ آلاف متفرج حضروا لمشاهدة فرقة واحدة، ومهرجانات مثل أشطورة الذي يقام على مدار ثلاثة أيام متتالية في الصحراء ويضم فرق وفنانين من دول مختلفة. ما كان هذا التطور في المشهد المستقل ليتحقق لولا مثابرة الموسيقيين ومجهودهم وظهور مجموعة متميزة من مهندسي الصوت الذين اعتمدوا على دراسات حرة بجهود ذاتية وأسهموا بشكل واضح في الارتقاء بجودة المنتج المقدم في الحفلات، وبدورهم قاموا بنقل خبرتهم وعلمهم لجيل جديد فجعلوا عملية التطوير مستمرة. يرتبط التطور الموسيقي هذا بظهور مجموعة من مديري الفرق الذين ساعدوا في جعل العمل أكثر احترافية. كل هذا التطور لا يعتبر سوى خطوة أولى في التطوير، ونأمل أن يستمر هذا التطور لكي تتمكن الفرق من التواجد بشكل أوسع لتشكل جزءً أكبر في الموسيقى السائدة وتحقق دخلاً يضمن استمرارية المشهد لتسليم أجيال قادمة من الفرق والفنانين. وأرى أن عمليات التصنيف والتقسيم تحت مسميات مختلفة في المرحلة الحالية ليست إلا محاولة من البعض لتفتيت وإضعاف وهدم ما سعى جيل كامل من الفنانين لبنائه خلال عشرات السنوات.