انكسر خاطر الأمُّورة | عن خسارات وداد الثمينة

يعتمد المقال كاملاً على مقابلات وداد المسجلة، ولقاءات مع أفراد من عائلتها.


لو كانت وداد لا تزال على قيد الحياة لقصدتُ منزلها في بيروت وقلت لها: “شو يعني إنك خسرتي بحياتك عرضين من محمد عبدالوهاب؟ تتحسريش، إنت أجمل من إنو تحسي بالحسرة.” لكن الجميلة التي بدّلت اسمها ثلاث مرّاتٍ ماتت قبل ثمانية أعوام. وحده صوتها لم يمت ولم يتبدل، بل بقي يغني ببحته الدافئة حتى اليوم على إذاعات الراديو العربية، ويوجه كل عاشقة تهدد حبيبها على طريقة الستينات: “بتندم.”

لم تدخل بهية الطفلة معهد موسيقى، بل تربت في أحضان أسرة فنية بامتياز، ما أكسبها مهارات الغناء وإتقان اللحن منذ سنٍ صغيرة. جالست كبار العازفين والملحنين في تلك الحقبة من معارف والدها فرج عوّاد، وهو موسيقي حلبي قاد فرقة منيرة المهدية في الثلاثينات. أما والدتها فهي صالحة المصرية، مطربة من الإسكندرية. جاب الثنائي في جولاتهم الفنية عددًا كبيرًا من المدن العربية وأنجبوا بهية خلال مرورهم على تونس عام ١٩٣١. تنقلت الأسرة الصغيرة بين حلب وبغداد والقاهرة ومراكش وباريس، إلى أن استقرت في بيروت عام ١٩٤٠، حيث بدأت بهية تغني في بثٍ مباشر على الإذاعة اللبنانية أعمال السنباطي ومحمد عبدالوهاب وغيرهم، وأطلق عليها مدير الإذاعة آنذاك فؤاد قاسم اسم الآنسة بيبي نظراً لصغر سنّها.

في بيروت الأربعينات المبكرة إذًا، وقفت بيبي على كرسي لتصل إلى المايكروفون وتغني. وصل صوتها عبر الإذاعة إلى عبد الوهاب الذي كان في زيارة لبيروت، وسمعها تغني سجى الليل، وهي قصيدة من تلحينه وكتابة أحمد شوقي. بعد أن عرف أن طفلةً لم تتعدَ الأحد عشر عامًا هي من أتقن اللحن والتنقل بين مقامي النكريز والرست، اتصل بوالدها وقال له: “إيه دي؟ دي كانت عاشقة وعمرها تلات سنين؟ دي بتغني إزاي؟ أنا عايز أطلعها من بيتي بنت عبدالوهاب.”

بالرغم من أن والدها هو من دربها على الغناء وسمح لها بالذهاب إلى الإذاعة، إلا أنه رفض جميع العروض الفنية المقدمة لها بحجة متابعة دراستها، ولم يكن آخرها عرض عبدالوهاب. هكذا سجى الليل على العاشقة الصغيرة أول مرة.

يا بهية خبريني يابويا عن حالي

لم تهتم الآنسة بيبي لما حدث. تجلس إلى جانب العوّاد الصارم، يعطيها النوتة، تخرج باللحن الصحيح رغم طفولة حنجرتها. كيف لا وأستاذها الأول حاضر دائمًا حولها ليوجهها ويعلمها كيف تلعب بطبقات صوتها بين مقامات يصعب على أي أحد إجادتها. في إحدى الجولات الفنية مع والدها في القاهرة، اتصل أحدهم به وسأل عن ابنته الصغيرة ذات الصوت الجميل. كان المتصل قبل فريد الأطرش هذه المرّة، وطلب مقابلتهم لأنه يريد أن يقدم لها عرضًا للتمثيل والغناء في عددٍ من أفلامه. ذهبت العائلة لمقابلته في استوديو القاهرة حيث كان الممثلون يتمرنون على مشاهدهم. لم يُعجِب الوالد ما رآه من مشاهد حميمة وقُبَل. أمسك شعر ابنته الطويل وسحبها إلى الخارج دون أن تنبس بكلمة.

هكذا خسرت بيبي تشجيع عائلتها بدلاً من أن تكون الداعم الأول لها، فقررت إيجاد حلٍ يخلصها من يد معلمها الأوَّل ويبقيها في القاهرة، أرض الفن الخصب. قبل عودة العائلة إلى بيروت، استيقظ والداها يومًا ولم يجداها. هربت الآنسة بيبي ابنة الخامسة عشر لتتزوج عازف القانون في فرقة أم كلثوم تحدثت وداد عن هذه الزيجة سريعاً في إحدى المقابلات، محمد عبده صالح. تمخترت العروس الصغيرة بعد أن أغدقها صالح بالوعود الكبيرة بأنها ستغني وتمثل لتصبح نجمة مشهورة. رافقته إلى بروفات أم كلثوم حيث انتقلت إلى مرحلة متقدمة من الإلمام بالموسيقى، لكن ما إن طالبته بوعد تحقيق حلمها بالغناء جاءها الصد، واكتشفت أنه يغار كثيرًا. هكذا طارت وعوده في الهواء وطارت بهية لتعود مكسورةً إلى بيروت، بعد أن رفع أهلها دعوى قضائية على القانونجي الغيور واستعادوها بمساعدة أم كلثوم.

أهلاً بالسيدة بهية وهبي. تفضلي.

كل هذه الأحداث التي تلقتها طفلةً لم تمنعها من متابعة الذهاب إلى الإذاعات اللبنانية للغناء. ازداد طولها لتصل إلى المايكروفون براحة، كما أن صوتها نضج واتضحت معالمه،  ليشد الشعراء والملحنين الذين بدؤوا بالتهافت عليها مقدمين كلمات وألحان ألفوها لها خصيصاً.

في كواليس الإذاعة اللبنانية تعرفت على الشاعر الغنائي عبد الجليل وهبي، الذي سرق قلبها بعد أن نظم قصيدة لأمها التي اشتد عليها المرض في تلك الفترة. أخذتها همروجة الشاعر الذي كان يسطع مجده في نهاية الأربعينات، فتزوجته قبل أن تتم عامها الثامن عشر.

“في الحقيقة لم يكن حباً عميقاً، فقد كنت مأخوذة بكونه شاعر كبير يتهافت عليه الفنانون، ومن جهته كان معجباً بصوتي وبأدائي، ما أنشأ بيننا مودة كبيرة تحولت حبًا وإن لم يكن حبًا جارفًا.” – مقابلة

لكن هذا الحب، وإن لم يكن جارفاً على الصعيد العاطفي، فقد جرف بهية لتكون طرفًا في بناء الهوية الموسيقية للأغنية اللبنانية في مشروعها الأول.

قبل هذا المشروع، تأثر الموسيقيون اللبنانيون من شعراء وملحنين ومغنيين باللهجة المصرية التي سمعوها عبر أول إذاعة عربية في العالم العربي، الإذاعة المصرية عام ١٩٣٤. لكن بعد استقلال لبنان عام ١٩٤٣ بدأ مشروع لبننة الأغنية، وأصدر مدير الإذاعة اللبنانية آنذاك فؤاد قاسم أمراً يطلب فيه من الفنانين اللبنانيين بأن يغنوا بلهجتهم.

أتى عبد الجليل وهبي بعدها ليكون من أوائل الشعراء الذين صنعوا مجد الأغنية اللبنانية، برفقة عددٍ كبيرٍ من الشعراء والملحنين، قبل ظهور الأخوين الرحباني بسنوات. شكل وهبي مع زوجته التي تحول اسمها إلى بهية وهبي والملحن فيلمون وهبي: الثلاثي وهبي. وتحكي بهية أنهم حققوا نجاحاً باهراً.

“كانوا يقولون في إذاعة الشرق الأدنى كلمات عبد الجليل وهبي، ألحان فيلمون وهبي وغناء بهية وهبي. حققنا شهرة ونجاحاً ساحقاً. وبعد توقفنا بفترة انطلق الأخوان الرحباني.”

أثرى عبد الجليل المكتبة الغنائية اللبنانية وأسس قاعدة قوية لبناء مشروع الأغنية العامية، ومن أهمها أغنية عاللوما التي غنّاها وديع الصافي أواخر الأربعينات. تحكي وداد أنه في إحدى الأمسيات بعد ولادة ابنتها البكر فاطمة بثلاثة أشهر، زارهم وديع برفقة زوجته. في السهرة أخذ عبد الجليل يلاعب ابنته فاطمة ويرندح شعراً كتبه لها:

“عاللوما عاللوما  يا حلوة يا فطومة

دخل الله ودخل عيونك يا حلوي جننونا”

ما إن سمعه وديع حتى طلب منه أن يعطيه هذه القصيدة على أن يستبدل اسم ابنته بكلمة مهضومة. ورغم طلب بهية بأن تحصل هي على القصيدة إلا أن الشاعر استجاب لطلب رفيقه الذي كان في بداية مشواره. غيّرت هذه الأغنية مسار وديع الصافي بكلماتها البسيطة واللحن التراثي القديم الذي أضفاه وديع. أدى الأخير الأغنية في الإذاعات حتى اشتهر وذاع سيطه من بلاد الشام إلى مصر.

ماذا لو قبل الشاعر المغمور يومها أن يعطي عاللوما لبهية؟ ربما كانت ستنافس بها فيروز بعد سنوات. خاصة وأن الأخوين الرحباني وبعد سطوع نجمهما مع فيروز بوقتٍ قليل نافسوا هذه الأغنية. لا بل أخذوا الكلمات، مسحوا عنها اللحن التراثي الجميل، وأسقطوا عليها لحنًا غربيًا مستوحى من موسيقى فيلمٍ قصير لتشارلي تشابلن.

غنت وداد من قصائد عبد الجليل وهبي حوالي ثلاثين أغنية مفقودة أو ربما مخبأة في أدراج الإذاعة اللبنانية، وأنجبت منه ولدين هما فاطمة وعلي. لم يستمر هذا الزواج إلا خمس سنوات، تطلقوا من بعدها بسبب خلافات شخصية رفضت بهية الحديث عنها. وبين انفصال الثلاثي وهبي ووفاة والديها في بيروت في فترة قريبة، انقطعت بهية عن الغناء مرة أخرى.

العرض الخاسر الثاني

امتلكت بهية صوتًا خفيفًا يعبر الأذن إلى الروح مباشرة. تم تشبيهه بصوت الفيولا، عريض وهادئ بنفس الوقت. فاض من عمقها وازدادت صلابته في منتصف عشريناتها. كانت تتنقل بين مسارح بيروت وحلب وتغني مع وديع الصافي في حفلاته حتى أصبح اسمها معروفاً. عادت إلى مصر، طامحة في نجاحات أكبر. طلبت مقابلة محمد عبد الوهاب لعلها تعيد الرباط الذي فكّه والدها، وأخبرته بأنها أتت إلى القاهرة خصيصاً لتغني أعماله. جلس عبد الوهاب أمامها، نظر إلى صديقه المحامي مجدي العمروسي الذي حضر اللقاء، أعطاها وعدًا بأنها ستغني أجمل ألحانه، لكن بشرط أن تعيد تقديم أغانيه القديمة. أخرج مجدي العمروسي عقدًا وضعه أمامها، أشار إليه وطلب منها أن تحدِّد المبلغ الذي تريده.

“جابلي مجدي العمروسي العقد قالي حطي المبلغ الي بدك ياه قدام عبد الوهاب، قلتلو معلش سيبني أفكر أسبوع.”

جواب بهية كان صادمًا، كان آخر ما كان يتوقع سماعه الموسيقار المغرور الذي حرد وتراجع عن عرضه قائلاَ للعمروسي: “شيل العقد.” وهكذا انقطع التواصل بين بهية وعبد الوهاب، وكتبت في دفترها الفني خسارة جديدة كما تسميها دائمًا عندما تتذكر هذه القصة بندم وحسرة في معظم المقابلات التي أجرتها.

بعد وفاة عبد الوهاب حاولت بهية أن تعيد لنفسها الحق بغناء قديمه، فسجلت أغنية من غير ليه، أذيعت لفترة على الإذاعات اللبنانية ثم لم يسمع أحد بها مرة أخرى.

أهلاً بالسيدة وداد. تفضلي.

من بروفات أم كلثوم مع زوجها الأول محمد عبده صالح، إلى كواليس ولادة الأغنية اللبنانية مع عبدالجليل وهبي، دخلت بهية هذه المرة إلى استديو الموسيقار اللبناني توفيق الباشا، ليكون زواجها الثالث الذي أثرى حياتها الفنية. كان توفيق الباشا في بداية حياته الموسيقية، وربما أوقعته طبقة صوت وداد بكل الحنان المطوي في داخلها بالحب، وعرض عليها الزواج فقبلت.

“تالت إنسان تزوجتو توفيق الباشا، حبيتو كتير حب فعلاً مش طبيعي، مش عاقل.”

عمّق الباشا دراسته الموسيقية في جامعة بيروت الأميركية، وأصبح قائد أوركسترا وكاتبًا موسيقيًا من عصابة الخمسة التي تشكلت في الخمسينات. هي مجموعة من خمسة موسيقيين: زكي ناصيف، عاصي ومنصور الرحباني وتوفيق سكر، حاولوا الانتقال من مرحلة تأسيس هوية الأغنية اللبنانية إلى مرحلة جديدة تعتمد على التوزيع الأوركسترالي الغربي.

قبل أن تبدأ بهية مشوارها الفني مع زوجها الثالث الذي سينقلها إلى مرحلة جديدة ويطور قدراتها، كان عليها أن تختار اسماً جديدًا. عاد الباشا في أحد الأيام إلى المنزل بعد جلسة من جلساته المعتادة مع الأخوين الرحباني في إذاعة الشرق الأدنى، نادى عليها وأخبرها أنهم وضعوا عددًا من الأسماء في قرعة، سحبت منهم فيروز ورقة حملت اسمًا: وداد.

هكذا دخلت وداد مرحلة النهضة في تاريخ الأغنية اللبنانية. اتكأ الباشا على موهبتها وقدرتها على إيجاد المقامات، كان يعرف أين هي مميزات قوة صوتها، وكيف يتعامل معه جيداً ليضعه في قوالب غنائية متفردة نقلت إحساسها وحنان صوتها، وقد تجلّى هذا واضحًا في أغنية الزفة الحزينة اتمختري يا عروسة الذي أعاد توفيق توزيعها تاركاً روح ملحنها السيد درويش تلعب بحنجرة وداد لتخرج بهذه البساطة الحلوة.

على الرغم من أن صوت وداد لم يكُن ذا مساحات واسعة، إلا أن الباشا استفاد من بحة هذا الصوت عندما أراد إعادة تلحين بعض الموشحات القديمة ووضعها في قالبٍ حديث. تعاون معها في عددٍ من الموشحات كـ لي حبيب من كلمات نزار الحر. أعطى للموسيقى هدوء صوتها المتناغم مع الآلات واللحن بانسيابية جميلة.

“توفيق الباشا بيغار لأنو عاصي الرحباني طرح عليه فكرة، قالو شو رأيك نعمل مسرحيات أختين فيروز الأخت اللبنانية وبهية الأخت المصرية، توفيق ما قبل وإلا وين كان اسمي وين؟”

تستحضر وداد حقبة الباشا في حياتها، متألمة من يوم آخر لم تستطع فيه أن تفعل ما تريد. رغم قوتها وحِدَّتِها، إلا أنها حاولت دوماً أن تبقى وداد الهادئة، التي تحب أن تفرك الرجال من أذنهم وتقول لهم أنهم سيندمون جميعاً على أغلاطهم، لكن كل ما فعلته هو أنها استمرت بإخراج نغمات يتفرد بها صوتها كل مرة وقف رجل في وجهها ليضع عصاه في دولاب مسيرتها الفنية.

دخلت وداد عام ١٩٦٣ عقدها الثالث، تطلقت للمرة الثالثة بعد أن أنجبت ثلاثة أطفال من توفيق الباشا. وبهذا عادت وحيدةً إلا من ولاداتها المتكررة التي أثمرت أطفالاً وأغانٍ رافقوها حتى موتها.

عن وداد وسامي الصيداوي

كانت علاقة وداد بالرجال طردية، أحبتهم بقدر ما خذلوها، وكرهتهم بقدر ما أعطوها، إلا سامي الصيداوي – الذي تعرفت عليه في منزل والديها، بقي صديقها الوفي في حياتها وفنها حتى آخر عمره.

وجد الشاب الموهوب، الذي كتب ولحن الكثير من الأغاني وغنّاها أحياناً، في وداد رفيقةً له في هذه المسيرة، وتشاركا معاً أيضاً الاختفاء القسري في ظلال الرحابنة وزكي ناصيف وفيروز وغيرهم مِمَّن استأثروا بالساحة الفنية في أواخر الخمسينات.

كان يستمد منها قصص الندم واللوعة والهجران ليفرغ ما في قلبها على شكل أغنيات. من أشهر قصصهما، قبل طلاق وداد من توفيق الباشا، أنها جلست يوماً على كنبة منزلهما بعد مشاجرة زوجية، خافت من الوحدة وهددت توفيق ألّا يغادر المنزل برفقة سامي قائلة: ” بتندم … وحياة عيوني بتندم.”

بعد أيامٍ تربعت هذه الكلمات على ورقة جاء بها الصيداوي إلى وداد. لقد لحّن المجنون مأساتها، هكذا بكل بساطة وضعها في قالب غنائي غنته وداد على مقام البياتي لتقيم الدنيا ولا تقعدها، وتطبع هذه الأغنية في الذاكرة الموسيقية اللبنانية لتصبح إحدى أشهر أغاني الستينات، وأشهر أغاني وداد حتى اليوم. يبدأ البزق بلحن أوركسترالي هادئ، يستكين قليلاً، ثم تُخرج وداد من جيب صوتها مسدساً تصوبه نحو رأس الباشا بثقة وتقول له :”بتندم.”

رغم كل الرقة التي توارت في صوتها إلا أننا نتعرف في هذه الأغنية على وداد زعيمة المافيا الحزينة، تقف في ضواحي إحدى المدن الإيطالية الباردة، ترتدي معطفاً سميكاً من الفرو، تحمل سيجارة طويلة في يدها اليسرى، وفي يدها اليمنى مسدس تهدد وتتوعد به كل من سيتركها وحيدة.

“سامي كان يحب أني أقرصهم للرجال”

نجح الصيداوي بربط الواقع بكلمات عتاب وداد في العديد من المرات، وأظهر في ألحانه قوة صوتها وشخصيتها. كانت ألحانه سلسة كما في أغنية لا قلبي ولا بعرفك. يأتي فوقها صوت وداد مبحوحًا ملوّعًا متناسبًا مع واقعها. وكأنه كان يراها في كل مرة تجلس وحيدة على الكنبة وتطرق قلبها بكل جدران المنزل. تشتمه وتلقبه بالخائن ثم تطوي ساقيها وتنام على حزنها.

انكسر خاطر الأمورة

“بيظهر خاطرها مكسور ليش ما بتزورها”

تقول وداد في أغنية في وردة بين الوردات التي لحنها وكتبها زكي ناصيف، وكأنها تخاطب كل من لم يدخلها على ذاكرته الصوتية. يتربع اسمها اليوم في قائمة طويلة لكبار الملحنين والموسيقيين. زكي نصيف، حسن غندور، فيلمون وهبي وغيرهم الكثير. من هذه الأعمال ما نجده في متناول الأيدي، والباقي ينتظر إفراج الإذاعة اللبنانية عنه.

في ٢٠ شباط ٢٠٠٩، وبعد معاناةٍ مع مرض السكري والفشل الكلوي، أغمضت وداد عينيها في تابوت هادئ ودفنت في بيروت.

أخذت معها ذاكرة كاملة عن ولادة الأغاني، الهروب من الرجال، الغيرة، والجلوس على الكنبة للبكاء. ذاكرة مليئة بالهجرة، اللوعة، والحزن. ذاكرة أقفلت على صور القاهرة التي أعادتها مقهورة من زواجها الأول في مراهقتها، ذاكرة طوتها على صور بيروت في أوج عزّها، وبشاعة ظروفها. بيروت التي تعاند البحر وتحجبه دائماً بكاسرات الموج، عاندت وداد وكسرتها بقصص الحُب والخذلان.

الجميلة التي حملت كل هذه الذاكرة وأخرجتها في صوتها لنعرف بأننا سنندم إن لم نبكِ ونحكِ قصصها، الوردة التي عاشت تشتُم بقلبها، زعيمة المافيا الحزينة التي قرصت الرجال بقدر ما خذلوها.