ما بين بيسي سميث وبيورك سنوات عديدة بدأت فيها وانتهت سير مهنية من كل صنف. توجد نقاط على الخط الافتراضي بين الاثنتين جعلت وجود الأخيرة ممكنًا، وجعلت ربطها بالأولى لا مفر منه. كايت بوش نقطة، إن لم تكن بحرًا على هذا الخط.
الجسد
تقول المفكرة النسوية هيلين سيكوس إن إحدى الطرق التي تجد بها النساء صوتها هو أن تكتب أجسادها، وهو ما فعلته بوش بالفعل بدءًا من السبعينيات حتى الآن. بالعودة إلى كتابات لاكان نستطيع فهم أن جسد الذكر هو الأساس في اللاوعي الجمعي، لذلك سيتطلب إضافة جسد الأنثى مجهودًا جبارًا يُبنى على مهل.
أسمت ألبومها الأول ذ كيك إنسايد، على اسم آخر أغنية فيه. تدور الأغنية حول أخوين وقعا في حب بعضهما، لتختار الأخت الانتحار بعد حملها، وتكون الأغنية باختصار رسالة انتحارها لأخيها. هنا نرى الجسد الذي يجب إخفاؤه، في أغنية آرت روك ضمن ألبوم من أنجح ألبومات السبعينيات. في نفس الألبوم تجسدت كايت في صورة شبح كاثرين من رواية وثرنج هايتس، في أغنية الإصدار الترويجية، وهى تنادي على حبيبها هيثكليف لتطالب بروحه. يعود الجسد الميت إلى الحياة أو بمعني أصح يطارد الحياة. أصبحت هذه الأغنية أول أغنية كتبتها مغنيتها تتصدر مبيعات الأغنية الإنجليزية.
يتكون خامس ألبومات بوش، هاوندز أُف لُف من جزأين: هاوندز أُف لُف وذَ ناينث وايف. يدور الجزء الثاني حول امرأة تغرق في البحر، وتوحي كلمات الأغاني بأنها غرقت في ظل وحدة كاملة لفترة كافية لاسترجاع ماضيها وحاضرها ومستقبلها، أثناء انتظار النجدة التي تأتي في النهاية. تعيش البطلة في جميع أغاني الجزء داخل رأسها، مثل أي كاتب، وهذا غالبًا السبب الذي جعلها تصمد فترة كافية لإنقاذها.
الجسد هنا جسد الكاتبة، ربما حتى جسد كايت بوش، فهو في النهاية جسد يعاني من الفقد في سبيل إنتاج أعماله. يبتعد عن أحبائه، يبتعد عن حياته المادية، يتوه في مكان ناء عن كل ما يعرفه ويهواه من أجل العيش داخل رأسه. هنا يختلف جسد الكاتب عن جسد الكاتبة. عندما تغلق الكاتبة بابها عليها فهى تغلقه أمام زوجها، والديها، أبنائها، أصدقائها؛ بحيث يُحكم عليها بعدم التقبل من المجتمع، هذا الجسد الذي يختفي بعيدًا عن الأنظار من آن إلى آخر ليصبح جسدًا آخر لجزء من الوقت.
أما الجزء الأول من هاوندز أُف لُف، فيعبر بشكل صريح عن الاختلافات بين الجنسين منذ أول أغانيه راننج أب ذات هيل. تقترح بوش على رجلٍ ما، غالبًا حبيبها، أن يتبادلا جسديهما ليعرفا ماذا يخوض الآخر في حياته.
منظور الآخر
يكاد يكون أهم ما فعلته كايت بوش هو اهتمامها بالشخصيات غير المعتادة في المطلق، وبالأخص في تاريخ البوب الإنجليزي.
يتحدث الباحث الموسيقي رون موي في بداية كتابه كايت بوش آند ذ هاوندز أُف لُف أن ظهور بوش في الساحة لخبط القوالب المعدة مسبقًا للفنانات والموسيقيات، حيث كن إما المغنية وكاتبة الأغاني الحساسة / شديدة الذاتية مثل جوني ميتشل، أو مغنية الأغاني العاطفية مثل باربرا سترايسند، أو مغنية الآر أند بي الساسي مثل تينا ترنر. جاءت كايت بوش لتغير مفهومنا عما يمكن وضعه في أغنية بوب وما لا يمكن الكتابة عنه، وأنه ببساطة يمكن الغناء عن كل شيء. اشتهرت بوش بكتابتها من منظور شخص آخر مع استثناءات بسيطة.
“أنت وأنا نعلم أن الحياة نفسها هي / التنفس / شهيق، زفير، شهيق، زفير / أتنفس أمي داخلي / أتنفس محبوبتي / أتنفس، أتنفس النيكوتين الخاص بها” في إحدى أغانيها كتبت بوش من منظور طفل مازال في بطن أمه وعن رعبه من الخروج إلى العالم وتعامله مع واقع يعكر صفوه القنابل النووية. أما في آرمي دريمرز فكتبت بوش من منظور أم ترثي ابنها الذي توفي وهو يحارب. في أغنية ذَ دريمينج، الأغنية التي عنون اسمها ألبومها الرابع، حاولت بوش التعبير عن السكان الأصليين في أستراليا لحظة احتلال الرجل الأبيض. هنا يمكن أن نقول أن موضوع الحروب التي يشنها الرجل وتشغل جزءًا كبيرًا من حياته كان يشغل حيزًا من خيال بوش طوال مسيرتها، وهو على أي حال موضوع مختلف وغير تقليدي لنسمعه بتكرار في أغاني بوب تذاع على الراديو وتُباع منها ملايين النسخ حول العالم.
في أغنيتها نايت أُف ذ سوالو كتبت من منظور مهرب بضائع وحبيبته الخائفة عليه وعلى مصيره. في إحدى الفيرسات كتبت من منظور المهرب: “أعطني فرصة / دعيني لأطير / أعطني شيئًا أستطيع التفاخر به / في هذه الحياة الحزينة / شيئًا لأخذه / هل ستكسرين أجنحتي / مثل طائر السنونو.” الجميل أنها عبرت عن تهور مهرب البضائع وعدم خوفه من أن يُقبض عليه وأيضًا نجد أن بوش عبرت عن ربما خوف عميق للمهرب من أن حبه وحبيبته – وليس الإجرام – هم من سيكسرون أجنحته وسيحرمونه من أن يطير.
أما في أغنية كلاودباستنج المكتوبة عن العالم ويليام ريخ من وجهة نظر ابنه فكتبت بوش: “أنت مثل لعبة اليويو الخاصة بي / التي تضيء في الظلام / الأمر الذي جعلها مميزة / أيضًا جعلها خطيرة” هنا يمكن أن تكون الأغنية عن الأب العبقري أو المجنون أو المهووس ووجهة نظر الابن التي ترعرع مع أب استثنائي، مع ذلك فهي أيضًا عن كل الأبناء والبنات الذين ترعرعوا مع آباء وأمهات يراهم المجتمع لسبب أو لآخر مختلفين، وانبهار هؤلاء الأبناء بهم وخوفهم منهم.
استعانت بوش طوال مسيرتها بقصص الفولكور كما في أغنية ذ رِد شوز، واستعانت بالأفلام مثل أغنية جِت آوت أُف ماي هاوس، والكتب مثل في ذ سِنشوال وورلد. كانت تبحث بوش عن كل ما يثير اهتمامها لتدخله في قلب عالمها دون أن يطغى على غيره. استوحيَت أول أغاني بوش وثرنج هايتس من مسلسل بريطاني مبني على الرواية ذات نفس الاسم، لكنها استقلت عن المسلسل والرواية لتبني تأثيرها الخاص. من كل تلك المرجعيات الفنية تصنع بوش عوالم تمكنها من التعبير عن رغبات دفينة ممكن أن تكون موجودة عند عدد مهول من البشر، مثل الرغبة بسرقة روح الحبيب في رمزية لرغبة تملك الآخر.
ربما كان ذلك سبب أن بوش أصبحت أكثر ذاتية في ألبوماتها الأخيرة. لأنها غاصت في عوالم الكتب، والسينما والأسطورة كفاية لدرجة أنها عادت إلى نقطة البداية، إلى نفسها. ربما لهذا السبب احتاجت بوش للتغيير في ألبومها ذ رِد شوز. أنتجت بوش فيلمًا بصريًا مكونًا من عدد من أغاني ألبومها السابع ذ رِد شوز، وعُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان لندن عام ١٩٩٤. يمكن اعتباره الألبوم البصري الأول في تاريخ البوب.
الاستقلال
ما بين إصدارها أول ألبومين وبدئها الأداءات الحية المصاحبة للألبومين أسست بوش شركة كايت بوش ميوزك للنشر والتوزيع وشركة نوفيركا للإدارة وكلاهما تكونتا من أفراد عائلتها المقربين. أدارت بوش حياتها الفنية كما الفاميلي بيزنس وتملكت أصول ألبوماتها، ومع حصدها لثروة من وراء مبيعات أول أربع ألبومات لها بنت استديو خاصًا بها في منزل أهلها وانتقلت خارج لندن، وخارج الاستديوهات التابعة لشركة الإنتاج الخاصة بها. بهذه الخطوات ضمنت بوش لنفسها استقلالية تُحسد عليها. برغم توقيعها عقد مع إحدى أكبر شركات الإنتاج في بريطانيا منذ أن كانت في السادسة عشر من عمرها، إلا إنها قضت مسيرتها كلها تحارب لتفعل ما يحلو لها، ومع كل اختيار تبرهن لشركتها أنها تستحق الثقة.
منذ ألبومها الأول وبوش تحارب لكي تختار الأغاني الترويجية التي تصدر في بداية ألبوماتها واختارت وثرنج هايتس من ألبومها الأول وبرهنت لشركتها أنها تعرف ما الذي قد يعجب الجمهور أكثر منهم. في ألبومها الثالث طلبت من أندرو باول منتج ألبوميها الأولين أن يتنحى عن الإنتاج لتتولى هى عجلة الإدارة، وعادت لصدارة المبيعات بقوة بألبومها الثالث بعد أن كان ألبومها الثاني محل انتقاد النقاد والجمهور.
بألبومها الرابع لاحظت بوش أن الاستقلال ليس فقط في إدارة الأمور، لكن أيضًا في لعب الموسيقى كيفما تشاء، وبدأت في إنتاج أغانٍ على سنثسايزر وسامبلر الفايرلايت. بين ألبوميها الرابع والخامس ابتعدت عن أجواء الاستديوهات الكبيرة والعازفين الكثر لتنتقل إلى الريف، إلى بيت أهلها لتنشئ استديو خاصًا بها وبذلك حققت خطوة مهمة في حياتها المهنية، ملهمة الكثير من الموسيقيات بعدها. أنتجت بوش من الاستديو الخاص بها وباستخدام الفايرلايت أنجح ألبوماتها على الإطلاق: هاوندز أُف لُف. أسس هاوندز أُف لُف لصوت بوب جديد، حر، ذكي، مفاهيمي، وشديد الإتقان.
عند مشاهدة المقابلات الخاصة ببوش يُلاحَظ تكرارٌ متوقع لسؤال “كيف تستقين مواضيع أغانيكي؟” ويظهر على مدار سنوات طويلة أن بوش تكرر الإجابة ذاتها: “اوه، من الناس. أجد الناس مثيرين للاهتمام للغاية، ألا تتفق معي؟” بقراءة عدد من مقابلاتها المنشورة إلكترونيًا وورقيًا يتضح أن إجاباتها ليس فقط على هذا السؤال، لكن أيضًا على أية أسئلة تُسأل لها متشابهة جدًا لدرجة قد تحيد بالكامل عن السؤال الأصلي للمحاور وتتجه بنفسها وبه إلى منطقة آمنة جدًا، إما من خلال إجابة مقبولة لدى عدد كبير من الجمهور، أو بإجابة متكررة من ضمن إجابتها المعلبة مسبقًا التي ترد بها على أسئلة الصحافة. نستطيع ببساطة أن نفهم أن بوش أدارت حياتها الفنية بسيطرة كبيرة لا نراها في نجمات بوب معاصرات سوى في بيونسيه على سبيل المثال، وباستقلالية مشجعة وملهمة.