يستعرض هذا المقال خمسة كتب نقدية وتاريخية صدرت حديثًا، تغطي أصنافًا موسيقية جديدة لم يجرِ تناولها بالدراسة الجدية بشكل مكثف، منها الموسيقى الإلكترونية التجريبية في العقد الماضي والفايبر وايف والبوب والجرايم. تشترك هذه الموسيقات بربطها بين الجماليات والأوضاع الاجتماعية والثقافية بشكل أدى إلى بروز مفاهيم جديدة في العقد الماضي، مثل الخيال الصوتي والهونتولوجي والمادية الصوتية وما-بعد-الإنسانية والتسارعية وأطياف السايبر بَنك والنظرية النقدية، وإلى عزوف العديد من المنظرين عن الفلسفة المثالية الألمانية والمدارس الفلسفية التي تبعتها.
Agnes Gayraud | Dialectic of Pop
دار النشر: أوربانوميك
سنة الإصدار: ٢٠٢٠
عدد الصفحات: ٤٥٦
في ديالكتيك البوب، تسلك أنييس جيرو طريقًا مغايرًا للخوض في تناقضات البوب من خلال قراءتها ضمن الموسيقى الرائجة عمومًا، بعيدًا عن الثنائيات الأدورنية النخبوية.
تشتبك جيرو بشكل أساسي مع نقد أدورنو للبوب، فتناقش تشيؤ البوب واستيعاب الرأسمالية له، وتتفق معه حينًا وتعارضه أحيانًا أخرى، مستكشفةً الإمكانيات السياسية الكامنة في البوب وقدرته التعبيرية العالية، وخلقه للحس التشاركي، وتحريره لرغبات المستمعين وقدرته على إطلاق جماليات جديدة. تصل جيرو إلى نتائج مشوقة من خلال استكشاف عناصر البوب الموجودة في الموسيقى الكلاسيكية وأثرها على البوب. كما تفكك تابوهات أدورنو الجمالية مثل الآلات الإيقاعية والنغمية والتكرار والرقص، بالإضافة إلى حسّه التطهري والطبقي من خلال ما أسماه بالموسيقى “الجادة”، لتواجه بذلك نخبوية وسلطة الأكاديميين ومفهوم الثقافة “الراقية”، وتقريب الفجوة بين الجماهيري والنخبوي. يشرح الكتاب كيف تتقادم بعض الموسيقات لتصبح كلاسيكية، وكيف تتطوّر موسيقات أخرى، وكيف انقلب أدورنو من مستمع نهم للجماليات الجديدة إلى حبيسٍ للقوالب ”الجادة”.
في الجزء الثاني من الكتاب وهو الأكثر إثارة وأهمية، تتجاوز جيرو مفاهيم الأورا وإعادة الإنتاج والأصالة، وتناقضاتهم لدى فالتر بنيامين وأدورنو من خلال الحديث عن دور التكنولوجيا، بالإضافة إلى تأثيرها على الخامات الموسيقية التي باتت أكثر تأثيرًا على إنتاج الموسيقى من النوتة الموسيقية وصوت الآلات الموسيقية التقليدية الخام، الأمر الذي أدى إلى إنتاج موسيقى تتصدى للفيرتووزية، وتصل إلى شريحة أكبر من الناس. نهايةً، ترصد أنييس جماليات البوب وتغيرها عبر الزمن، كما تحاول تحديد مقومّات الأغاني الضاربة، لتصل إلى نتائج غير متوقعة.
ديالكتيك البوب غني بمعلوماته وأفكاره النقدية، ويعد كتابًا أساسيًا في مواجهة ميراث أدورنو ومدرسة فرانكفوت التي ما زالت أصداؤها موجودة بقوة بين النخب الأوروبية والعربية. من خلال رصد الموسيقى الرائجة في القرن الماضي، يشجّع الكتاب النقاد والمستمعين على التعامل مع البوب بشكل جدي يخلو من التنميط والثنائيات والاستهانة.
Grafton Tanner | Babbling Corpse: Vaporwave And The Commodification Of Ghosts
دار النشر: زيرو بوكس
سنة الإصدار: ٢٠١٦
عدد الصفحات: ١٠٤
يرصد الكاتب والموسيقي جرافتون تانر البعد النقدي والمتمرد لموسيقى الفايبر وايف التي ظهرت على ساحة الموسيقى الإلكترونية بداية العقد الماضي، والذي ظل جانبها المفاهيمي والجمالي قيد العديد من التساؤلات. لا يقدّم تانر قراءة تاريخية للفايبر وايف، وإن كان الكتاب يبدأ أطروحته من كلاسيكيات فايبر وايف مبكرة مثل إيكو جامز لـ تشاك برسون (دنيال لوباتان) وفلورال شوب لـ ماكينتوش بلَس وكالتشر آيلاند لـ ميامي فايس وفانيشينج فيجنز لـ إنترنت كلَب، حيث يركّز تانر على الجانب النظري والجمالي للفايبر وايف وتأثيره الثقافي. مثل مارك فيشر في كتابه أشباح حياتي، يرى الكاتب أن المشهد الثقافي والموسيقي وصل طريقًا مسدودًا بسبب الواقع الاستهلاكي وعدم القدرة على تصوّر مستقبل مغاير، واستثمار الرأسمالية في النوستالجيا الجماعية وتشييئها، حيث يقدّم الفايبر وايف كنوع موسيقي ناقد للرأسمالية وقادر على التعبير عن فشل الحاضر، مستعينًا بمصادر من الماضي الاستهلاكي ليشوهها ويسخر منها، ساعيًا إلى تدمير وعود الرأسمالية الكاذبة بمستقبل أفضل.
يربط تانر جماليات الفايبر وايف المنغمسة في الماضي والمشوّهة والغريبة بصوت الوسائط الموسيقية المتهالكة والجليتش الناتج عن التلاعب بالمؤثرات الصوتية، لتكشف هذه العناصر عن الموسيقى كأشباح في مواجهة الواقع الرأسمالي. يُستدعى هنا مفهوم الهونتولوجي لـ جاك دريدا ليقدم تانر نظرة مختلفة للتعامل مع ماضٍ يخلو من نوستالجيا الرأسمالية. بالإضافة إلى ذلك يشرح الهدف العبثي والساخر من عنصر التكرار الغالب على مصادر الفايبر وايف التي يحصرها ضمن نظرية اللا مكان لمارك أوجيه، مؤكدًا بذلك على تفكيك الفايبر وايف، وقدرته على تكسير مفهومنا للمكان والزمان. يأتي تانر بمقاربات مثيرة لأفكاره من أمثلة لأفلام مثل بولترجايست وذَ شاينينج وذَ كابين إن ذَ وودز، كما يرصد أوجه الاختلاف بين الطابع النقدي للفايبر وايف ونقد فريدريك جايمسون وليندا هوتشون لما بعد الحداثة.
يتطرق الكتاب بشكل ذكي إلى أفكار الواقعية المضاربة speculative realism وعلم الوجود الشيئي object oriented ontology ويربطها بالفايبر وايف، راصدًا معالم الفايبر وايف الثقافية التي تتحرر من المثالية والمركزية البشرية. يعكس جرافتون أوجه التشابه بين ثقافة البانك والفايبر وايف الذي يظهر في الطابع الجماعي والحس اللا مركزي وحس الـ DIY، بالإضافة إلى توظيف الإنترنت على نحو تشاركي.
يحمل الكاتب نظرة تشاؤمية للحاضر والإنترنت بالأخص، ليقع في تناقض مع أطروحته، حيث أن الفايبر وايف نفسه نتاج الإنترنت، ما يثبت أن الأخير ليس بمكان مظلم تمامًا. من ناحية أخرى لا يرصد الكتاب تطوّرات الفايبر وايف وجماليته ومفاهيمه التي تغيّرت مع الوقت عن شكله الكلاسيكي، فطغت عليه سرديات شخصية وخيالية وشيء من المثالية. بالرغم من ذلك، يبقى الكتاب إضافة مهمة بلا شك في مكتبة ضئيلة عن الفايبر وايف.
Dan Hancox | Inner City Pressure: The Story of Grime
الناشر: ويليام كولينز
سنة الإصدار: ٢٠١٩
عدد الصفحات: ٣٥٢
بعد نشره مقالات عدة عن الجرايم وصدور كتابه ستاند أَب تول عام ٢٠١٣ عن ديزي راسكال، يستكمل الكاتب والصحفي دان هانكوكس مشروعه في إينر سيتي برِشر، الذي يرصد فيه تاريخ الجرايم خلال العقدين الماضيين. من خلال مقابلات مع أبرز منتجي ورابرز الجرايم، يكشف هانكوكس عن قصص مشوقة لأسماء لامعة في المشهد مثل سكيبتا وديزي راسكال وستورمزي وجاي إم إي وكانو ودايف ودي دبل إي وآخرين. يعرض هانكوكس تلك القصص تاريخيًا، بادئًا من ديزي راسكال وسو سليد كرو ووايلي وميوزيكل موب كحركة مضادة للـ يو كاي جاراج أنتجتها طبقات مهمّشة، منتقلًا إلى نمو المشهد واختراقه قوائم الموسيقى الأكثر رواجًا.
ينقل الكتاب بشفافية واقع المشهد ويربطه بالطبيعة الثقافية والاجتماعية لشرق لندن تحديدًا والسياسية في انجلترا، كما يصاحب كل فصل صور نادرة تقرّب القارئ من المشهد. يتطرق هانكوكس أيضًا إلى الجانب التقني فيكشف عن معلومات مثيرة حول طرق الإنتاج والتسجيل والطباعة وَسِعة حيلة الفنانين في مواجهة السلطة، ويركز على حياتهم اليومية وتأثرها بسياسات تقشّف حزب العمل الجديد والإحلال الطبقي، نهاية بدعمهم لجيريمي كوربن في انتخابات ٢٠١٧.
من خلال عرض سلس ومسلّي ولغة بسيطة تكشف عن تماسك مشهد الجرايم على مدار عشرين عامًا واستكماله للبايس البريطاني الذي لم تصمد مشاهده الفرعية أكثر من عقد، قد يكون إينر سيتي برِشر أفضل قراءة تاريخية للـ جرايم، الذي وصفه هانكوكس بأنه “آخر مشهد محلّي حقيقي”.
Emile Frankel | Hearing the Cloud: Can Music Help Reimagine The Future
دار النشر: زيرو بوكس
سنة الإصدار: ٢٠١٩
عدد الصفحات: ٢٤١
بسبب قلة الكتب والدراسات النقدية عن الموسيقى الإلكترونية، يستقبل منتجو ومتابعو المشهد ما يصدر باحتفاء وتحفّز. يأتي كتاب المؤلف والموسيقي إيميل فرانكل كمحاولة جريئة وضرورية لقراءة عدّة ظواهر جمالية ومفاهيمية وثقافية لهذا المشهد.
يطرح فرانكل في كتابه رؤية نقدية حالمة لهذا المشهد، ويؤكّد على الدور التراكمي الذي تلعبه الموسيقى في تشكيل الوعي السياسي، مشيرًا إلى واقع ما بعد رأسمالي يعتمد على تملّك التكنولوجيا، إذ لا يرى المؤلف التكنولوجيا كشيء مدمّر بالضرورة، على عكس الرؤية التي باتت سائدة لفترة طويلة لدى قطاع كبير من اليسار.
في الجزء الأول من الكتاب يرصد فرانكل الإمكانيات الإيجابية الكامنة في الإنترنت من خلال مشروع أمنيجيا سكانر وبيل كوليجاس: لِكساتشاست وموسيقى تي سي إف، وكيف تستخدم اللوغاريتميات والبنية التحتية مفتوحة المصدر في الإنتاج، يبحث فرانكلين في كيفية اختيار وتوظيف الأصوات وكيفية استماعنا إلى الموسيقى وانتشارها والأثر الثقافي لذلك، كما يحتفي بالسرديات الخيالية التي تعزز من خلق مستقبل أفضل معتمدًا على مفهوم الـ hyperstition. ينتقد الكتاب الجماليات الديستوبية بحدة والاحتفاء بالتشاؤم والموجة الإحيائية للسايبر بَنك والتنبؤات المظلمة للمستقبل السائدة لدى منتجين مثل تشينو أًموبي وإليسيا كرامبتون وآخرين. من ناحية أخرى يعرض وجهة نظره عن الدور السلبي التي تلعبه الشكلانية من حيث تشجيع الرأسمالية. من هنا يعتبر الكتاب مدخلًا مثيرًا لأفكار المفكّر نيك لاند، ناقدًا إياها من خلال بنيامين نويس في كتابه ملاين فيلوسيتيز، ليسقط ذلك النقد على الموسيقى. قد يحمل الكتاب بعض الشطحات التي تذهب إلى نقد لاذع للموسيقى البريطانية الراقصة في التسعينات والزعم بإعادة إحياء أفكار لاند الهدّامة من خلال بعض أعمال الموسيقى التجريبية والراقصة المفككة الحالية، لكنه يعود مرة أخرى إلى نيك سيرنك وأَلكس ويليامز المنتسبين إلى الشق اليساري من التسارعية، ليتحدث على إمكانيات التكنولوجيا التي يستغلها بشكل واعي منتجون مثل هولي هرندون.
في الجزء الثاني يركّز الكتاب على جماليات جانب آخر من الموسيقى الإلكترونية التجريبية وطرحها المستقبلي الذي يحاول الإبقاء على بعض الأمل. يأتي ذلك من خلال مصطلحات مستحدثة ومجازية مثل الموسيقى الزيتية والبلاستيكية، كما يسلّط الضوء على ألبومات تنتقد الاستهلاكية والرأسمالية بشكل عام من خلال أعمال جاينت كلو وجيمس فيرارو والعديد من إصدارات الفايبر وايف، ثم ينتقل إلى جماليات موسيقى ألعاب الفيديو، والتي تُنتج باستخدام برامج بناء الألعاب نفسها. ينتقل فرانكل بعد ذلك إلى مفهوم الكيميرا للمنظّرة الما بعد إنسانية دونا هراواي، ثم ينتقل إلى الأصوات البشرية ودلالات توظيفها، بالإضافة إلى إمكانيات الآسمر. من أكثر الأقسام إثارة في هذا الجزء هو حديثه عن نظرية جوليا كريستيفا عن المحقّر (the abject) وربطها بالموسيقى وثقافة الفور تشان واليمين الجديد (alt-right)، بالإضافة إلى جدوى الأعمال الصادمة والمتهكمة والساخرة في وقتنا هذا.
هيرينج ذَ كلاود كتاب مهم، يتعرض فيه فرانكل لعدة مفكّرين ويلخص مفاهيمهم بأسلوب سلس، مسقطًا إياها بمهارة على الموسيقى، مستخدمًا أسلوبًا قريبًا من ذاك الذي أسس له كوجو إيشون في مور بريليانت ذان ذَ سَن. يقع فرانكل في شيء من المزايدة الأخلاقية في عدة مواقع من الكتاب، ولكن ذلك لا يمنعه من تقديم تحليل مقنع لمشهد الموسيقى الإلكترونية اليوم.
Holger Schulze | Sonic Fiction
دار النشر: بلومزبري أكاديمي
سنة الإصدار: ٢٠٢٠
عدد الصفحات: ١٩٢
في كتابه مور بريلاينت ذن ذا سَن، استحدث المنظّر والكاتب كوجو إشون مصطلح الخيال الصوتي في أحد أهم الكتب التي طرحت رؤية نقدية واستكشفت أسلوبًا جديدًا في الكتابة عن الموسيقى. أحد أهم الجدالات التي أثارها الكتاب هي عدم تفسير إشون لمفهوم الخيال الصوتي بشكل صريح، مكتفيًا بالاسترسال بالحديث عن بيئته وعناصر. ضمن هذا الإطار، يحاول شولتسه تتبع جذور هذا الخيال الصوتي التاريخية وأثره، من خلال التركيز على المدرسة المادية الصوتية مثل إشون وسالومي فوجلن وكريستوف كوكس وستيف جودمان ومارك فيشر وغيرهم، معتمدًا بشكل أساسي على كتاب مور بريليانت ذان ذا سَن.
نتعرف في الكتاب على أهم مصطلحات ومقومات الخيال الصوتي الثلاثة، الميث ساينس والميكسيلوجيك والميوتنت تكستشر، كما نقرأ عن مفهومي الهايبر ستيشن وعلاقته بالمفكر نيك لاند الذي صدم الكثيرين من زملائه وأتباعه بأفكاره المتطرفة. ينتقل شولتسه بعد ذلك إلى مارك فيشر، متحدثًا عن مشروع وحدة أبحاث الثقافة السيبرانية الذي مهّد للخيال الصوتي إياه. يوجه شولتسِه نقده للفلسفة المثالية منطلقًا من مفهوم الانحراف للمفكرة النسوية كارن باراد وكتابات ستيف جودمان وسالومي فوجلن متّبعًا طرحًا ماديًا ورابطًا إياه بقدرة الموسيقى والصوت السياسية. يتعامل الكاتب مع الصوت ليس كموضوع للتنظير بل كأداة للتفكير والتنظير، وأثره السياسي والاجتماعي والمعرفي (إبستيمولوجي)، مستخدمًا لغة شاعرية حافلة بالخيال وملهمة لنقاد الموسيقى خاصةً والفن عامةً.
ينتقل شولتسه بعد ذلك إلى مشروع الشيوعية الأسيدية الحافل بالأمل لـ مارك فيشر، والذي تركه الأخير غير مكتمل إثر انتحاره. نستكشف في هذا الجزء مفهوم الهونتولوجي لجاك دريدا وعلاقته بالهونتولوجية الموسيقية لفيشر، ثم ننتقل إلى الألترا بلاك لأشيم تسيبانسكي واللا فلسفة لفرانسوا لا رووال وإسقاطهما على الخيال الصوتي وعرض قدرتهما الراديكالية لمواجهة الرأسمالية والسلطوية.
قد لا يتحدث الكتاب عن الموسيقى بشكل أساسي، ولكنه يدعونا إلى الاستماع إليها بشكل مختلف، مركزًا على الانفعال العاطفي والتجربة الحسّية وتحليل الموسيقى والتفكير من خلالها بأسلوب محمّل بالخيال. من ناحية أخرى يركز الكتاب على الموسيقى والصوت كفعل للمقاومة بعيدًا كل البعد عن الكليشيهات الثورية “الهادفة”.