بعد نهاية الحرب الأهلية في الجزائر ١٩٩٢-٢٠٠٢، وبينما كانت الجزائر تدخل عهدًا جديدًا، كانت أغنية الراي تبدأ فصلًا جديدًا أيضًا. لم يعُد الراي يعتبر خارجًا عن القانون والأعراف، ولم يعُد مقتصرًا على الغرب الجزائري فقط. منذ منتصف الثمانينيات ربح الراي جماهير عريضة ونال اعتراف النظام / الحزب وقتها. لم تستطع التسعينيات بكلّ ما فيها من دم وعنف إيقافه، بالعكس، فجّرت التسعينيات الراي حتى وصل إلى العالمية في الخارج، وفي الداخل حيث أصبح ملجأ للشباب؛ خصوصًا شباب الخدمة العسكرية اللّذين جُرّوا الى الجبال لمُكافحة الارهاب، والذين لم يعرف أحد إن كانوا سيعودون أم لا. ربما تلخص لقطة من فيلم وثائقي حول التسعينيات الموقف كلّه: جنود يطلقون قذائف آر بي جي على مواقع للإسلاميين وسط الغابة، ووسط كلّ هذا يصرخ أحد الجنود (ليسمعَه المصوّر والصحفي): “في النهار رصاص وف اللّيل راي وسكس.”
بعد التسعينيات خرج الراي من وهران مدينته الأولى، وصار مغنو الراي يظهرون كالفطريات من المُدن المجاورة وحتى من العاصمة ومن خلف البحر في باريس ومرسيليا. أحدثت التسعينيات قطيعة بالنسبة لهؤلاء على مستوى صناعة الموسيقى، حيث أنّ جيل الثمانينيات إمّا هاجروا أو ماتوا أو اعتزلوا. كان الراي مستمرًا في الجزائر وحاضرًا كصوتٍ، لكنه تراجع كصناعة سواء على مستوى استعمال الآلات وجودة الصوت، أو على مستوى الكلمات والمواضيع.
كانت الأولية للاعتراف بأبرز أسماء الجيل الأسبق، أولئك اللذين منحتهم مؤسسات الدولة منصّة في الثمانينيات. الشاب خالد الذي لم يدخل الجزائر طيلة عِقد التسعينيات بسبب تهربه من الخدمة العسكرية، عاد وبأمر شخصي من بوتفليقة.
خرجت عشرات الأسماء من العِتمة، خرج مغنو راي من كل المدن الواقعة بين العاصمة ووهران، عشرات الأسماء أحيَت ليالي الكباريهات الصغيرة التي عادت للخدمة بعد نهاية التسعينيات، وأحيَت أيضًا عبر الدي–جاي مئات الآلاف من الأعراس في مواسم الصيف. أسماء مثل: الشاب عز الدين صاحب الموهبة الكبيرة والذي انتهى في السجن أكثر من مرّة لزواجه من بناتٍ قاصرات، الشاب جلول الذي انتهى به الحال تائبًا وداعية، الشابة خيرة، الشاب حسان، هواري الدوفان الذي بدأ الغناء في كباريه حقير اسمه دوفان (دلفين). كل هؤلاء بدؤوا بالظهور إلى جانب أسماءٍ تسعينية، مثل الشاب محمد لمين، وكان هذا الأخير من أبرز الوجوه التي دشّنت نوعًا جديدًا من أغاني الراي ظهر مع بداية الألفية، وهنا أقصد الفيوجن الذي جرى بين موسيقى الأر–آن–بي والراب المغاربي في فرنسا موسيقى ضواحي المُدن الكبرى والأحياء الشعبية للمهاجرين والراي في الجزائر، حيث ظهرت موجةٌ قد يكون أبرز ممثليها مغني الراب ريمكا وفرقته ١١٣، أيضًا فرقة لا كوسيون وأغنيتهم الأشهر شاي بالنعناع، حيث قاموا بالاشتراك مع مغنيي راي محمد لمين، الزهوانية، بلال، عقيل، الشاب خالد، وحتى الشيخة الريميتي في أغانٍ وكليبات كانت تعتبر وقتها أنجح أغاني الصيف على ضفتي المتوسط.
دارت أغلب الأغاني حول موضوع واحد: العودة إلى البلاد. سواء كان لقضاء عُطلة صيف، أو العودة نهائيًا بعد سنوات من الغربة. في كل الفيديوهات تقريبًا، نرى صورًا / كليشيهات تتكرّر: المطار أو الميناء في مرسيليا، سيارات المهاجرين العائلية الكبيرة وهي ممتلئة عن آخرها بالسلع والحقائب، الوصول الى البلاد حيث الشمس والبحر والأقرباء وتدخين الزطلة. وهو ما بدأ مع كليب Tonton Du Bled سنة ١٩٩٩، لـ ريمكا. لكن موضوع الغربة والحنين للبلاد رافق الأغنية الجزائرية منذ بدايات الهجرة الى الضفّة الأخرى، في أربعينيات القرن العشرين. رافق ريمكا نفسه نجمًا جديدًا لأغنية الراي، رضا الطلياني، سنة ٢٠٠٥ في أغنية يا البابور أو Partir Loin، هذا بعد أن اقتحم الطلياني عالم الراي بأغنيته – التي يعتبر البعض أنّها بداية انحطاط كلمات الراي – جوزِفين التي أصدرها في ٢٠٠٤، والتي يقول في مطلعها: نحُط راسي ف الرايّة … نجيب زوج شهود عليّا / أضع رأسي فوق سكّة الحديد… وآتي بشاهدَين. سافر الطلياني بعد ذلك الى فرنسا حيث أصدر بعض الأعمال وعمل بين فرنسا والمغرب والجزائر، قبل أن يختفي. ثم عاد بقوّة سنة ٢٠١٣ بأغنية فابيني التي صوّرها في كليب لاحقًا مع مغنّي الراب الفرنسي ذي الأصول المغربية لافوين.
هنالك أغانٍ كأنّها علامات ترقيم لتلك الفترة، ظهرت في أفلامِ جزائرية مشهورة وكان أصحابها يظهرون على التلفزيون الحكومي ليؤدوها في برامج عائلية هذه الكلمة هي مفتاح الخطاب المُحافظ الطاغي في الجزائر، منها أغنية الشابة جنّات ما تجبدوليش وحتى أغنيتها الثانية عريس وعروسة، أغنية الشاب عبّاس راني سوليتار، أغنية الشاب عز الدين أنا هو المَال وآش جابك ليا يا خيرة، أغاني الشاب بلال نتيا عمري نتيا مافي، سهيلة، ساراقوسا، الشاب جلّول وأغنيته صغيرة وبلوطة والشاب عبدو الذي دشّن عهد مُغنيي الراي المِثليين بعد انفصاله عن الشيخة الريميتي ومواصلته الغناء بطريقة المدّاحات، بعد دخوله القوي بأغنية مادري مادري، والذي خلفه اليوم أحد أشهر نجوم الكباريهات الشاب هواري المنار.
قد تعني هذه الأسماء والأغاني الكثير لمَن عاشوا تلك الفترة بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، لكن هنالك أيضًا الشاب عقيل، والذي بعد عدّة تجارب مع هذا الجيل عاد سنة ٢٠١٠ مع ألبوم ديرولها العقل بمشروعٍ للأغنية العاطفية، وبدأ يُحقّق نجاحات جعلتنا نفكّر أنّنا قد نجد خليفةً للشاب حسني، خاصة مع ألبومات جاك المرسول والعِشق الممنوع، لكن لم يدم نجاحه سوى ثلاث سنوات، إذ توفي عقيل في حادث سير بعد حفلة له في المغرب يوم ١٤ حزيران ٢٠١٣.
بعد كل هذه التجارب وبعد أن توفي أغلب الرواّد في العقد الأول من الألفينيات كالريميتي، جيلالي عمارنة، ومؤخرًا بلقاسم بوثلجة، وبعد أن صار الشباب “الكِبار” كخالد يُنتجون موسيقى وورلد ميوزيك (رُبما آخر تجارب الشاب خالد الرايوية كانت مع ألبومه لاليبرتي سنة ٢٠٠٩)، سَجْن الشاب مامي وتردده في العودة للغناء بعدها، وبعد أن صارت أسماء الشباب تتكرّر بعد أن صاروا بالعشرات ممّا اضطر المنتجين الى إضافة نعت مُلحق بالاسم كادير الجابوني أو صِفة الصغير (حتى يُفرّق بين الكبير والصغير، الشاب بلال والشاب بلال الصغير مثلًا). بعد كلّ هذا صار المُتابعون لموسيقى الراي يتحدثون بفكرة “انتهاء زمن الراي“، إذ أن ما يُنتج ويُذاع اليوم في كل مكان من الكباريهات والحفلات الخاصة إلى الإذاعات وسمّاعات السيارات عبارة عن قالب إلكترو–موسيقي، مزيج من المؤثرات الصوتية والعزف السيء للسانتي الكيبورد، الترومبيت والدربوكة. كتب الناقد نظام عبدي مرّة يقول إن الموسيقى الجزائرية عندما تتخلّى عن الآلة لتعوّضها بالسانتي تموت. هذا القالب تًصنع به الأغاني المُعدّة للاستهلاك الموسمي، سواء كانت من الراي أو من طبوع موسيقية جزائرية أخرى مثل السطايفي، العنّابي، القبائلي، الشاوي، لكن هذا لم يمنع من ظهور طفرات، تظهر بين الحين والآخر، شيءٌ يُشبه موسيقى المهرجانات في مصر لكنها بقيت (لحسن الحظ) دون مستثمرين ثقافيين يحاولون أن يجعلوا من هذه الموسيقى شيئًا نخبويًا، ما يُسمى راي اليوم بقي بين مئات آلاف الشباب المُعجبين، وتيّارات أخرى موزّعة بين نقّاد أخلاقيين (وهو ما يُعيدنا لبدايات الراي) وسمّيعة يحنون لأصول الراي الأولى ويعتبرون أنّ لا راي بعد التسعينيات.