توفي متعب السقار تاركًا وراءه ذكريات تجاوزت المحيط الفني، لتشتبك اشتباكًا اجتماعيًا عميقًا مع كل من حضر له حفلًا عامًا أو خاصًا؛ إلا أن الذين عرفوه في حفلات خاصة كالأعراس التي مهد بها طريقه للشهرة، سيذكرونه ما ذكروا قصص حبهم أو زواجهم التقليدي وما ذكروا أقرباءهم وأصدقاءهم. لكن كيف يمكن تقييم تجربة متعب، أو بمعنى أدق، أين تقع تجربته في ميزان التأثير والأثر؟
بدأ متعب السقار مسيرته منذ التسعينيات عبر الحفلات الشعبية، التي ردد فيها أغنيات الشمال الأردني المتصلة بالتراث الحوراني في بلاد الشام، واستطاع أن يحقق اختراقًا في هذا اللون، أوصله إلى أغنية هلا يا واسط البيت، أول انعطافة في تاريخه الفني. قدم الراحل هذه الأغنية بمناسبة اعتلاء الملك عبد الله الثاني بن الحسين للعرش الأردني خلفا لوالده الحسين بن طلال، عام ١٩٩٩، وقد كتبها الشاعر الكبير حبيب الزيودي ولحنها إميل حداد.
لاقت الأغنية انتباهًا كبيرًا، كان وراءه – إلى جانب الكلمات واللحن المميزين – أداء متعب السقار ذو السمات الخاصة، التي تطورت في سياق بيئي بسيط، جعل من مزاوجة الخبرة والبساطة سمة بارزة في رحلة السقار. يقول الدكتور أيمن تيسير أستاذ الغناء في الجامعة الأردنية: “إن متعب السقار انعكاس حقيقي لبيئته، قدم تراث البيئة تلك وكان سباقًا في نقلها عبر الغناء والألحان التي ينتمي إليها”، ويضيف أن “أبرز ما ميز الراحل أنه كان السبّاق في خوض هذا اللون، الذي استمر في غنائه حتى الرمق الأخير، ما يدل على الانغماس القوي في بيئته، حتى أثّر لاحقًا في من لحّن له، ما أدى إلى انتشار اللون الحوراني.”
لم يمتلك متعب السقار صوتًا قويًا يحمل على عاتقه الغناء الشعبي، إنما جعلت حلياتُه المميزة صوتَه صعب المقارنة، حتى إن كثر مبارزوه على حلبة الغناء الحوراني ذاتها. تأتي القوة في صوت السقار من الإحساس لا من الخامة الجهورية، من التمثيل الصحيح والمدهش للحن والكلمة، الذي انطلق من الرمثا مدينته المرتاحة في أقصى الشمال الأردني، إلى الإقليم بأسره.
يضيف الدكتور أيمن تيسير أن “تجربة متعب التي ثبتها من خلال أغنيات التراث، ثم أغنياته الخاصة، بما في ذلك التراويد التي أداها في المسلسلات البدوية، أكسبته ولونَه انتشارًا واسعًا، يمكن البناء عليه.” كما يشير إلى أن “أبناء الشمال الأردني من الفنانين الشباب ذهبوا في طريق السقار، وحاولوا أن يجاروه إلا أنهم عادوا بنتيجة يمكن اختصارها بالقول إنهم أصبحوا متشابهين وبقي السقار مختلفًا.”
يمكن تلمس ما أشار إليه الدكتور تيسير من خلال مسح على الأصوات الأردنية الشابة القادمة من الشمال، وتبيُّن أثر السقار فيها. على سبيل المثال حسين السلمان ورامي الخالد ونجم السلمان وعيسى السقار، الذين بدأوا يختطون مساراتهم بعد أن قطعوا طريقًا حفره الراحل بصوته وأدائه غير المتكلف. لم يقفز متعب مثلًا إلى إيقاعات غريبة عن إيقاع غناء بلدته الشعبي، إيقاع اللف، ولم ينخرط في توزيعات موسيقية مستوردة، بل اعتمد المجوز كسائس لمجمل أغنياته بما فيها الأغنيات الخاصة. في ذلك وجهان، الأول هو الالتزام بهوية فنية جعلت من شخصيته كيانًا خاصًا قادرًا على ابتلاع من يقترب منه حتى يجعله جزءًا منه، أو مستندًا على أساسٍ انفرد السقار بوضعه على المسرح الغنائي الأردني؛ لأنه أول من تجرأ على تقديمه كلون غنائي مستقل ومتكامل، بعد أن كان مجرد أغنيات تردد في الأعراس وفي المناسبات الشعبية الشمالية. هذا ما منح السقار مع الوقت شهادة الاختصاص في اللون الشمالي، بعكس عمر العبد اللات مجايله، الذي اشتبك في غنائه مع تراث ولون الوسط الأردني والجنوب أيضًا، وعبر عن ذلك من خلال أغنياته العاطفية والوطنية؛ تحديدًا في الألبوم الذي خصص فيه لكل محافظة أغنية صيغت على الإيقاعات والقوالب الخاصة بها.
أما الوجه الآخر فيشير إليه المغني والملحن والشاعر الغنائي فايز سلطان، حيث يقول إن مشروع متعب امتاز من ناحية بأصالته فعلًا، إلا أن شعرة تفصل الأصالة عن التقوقع، تسببت في حصر مشروعه؛ رغم أنه امتلك صوتًا يضاهي إلى حد بعيد من ناحية الخامة والتكنيك كلًا من نبيل شعيل وحسين الجسمي، وكان يمكن لو اشتُغل على هذا الصوت أن يقطع مسافات طويلة في المدى الغنائي العربي. بالنظر إلى تجارب المتأثرين به، نلحظ أنهم تمكنوا من قطع الحدود عبر تلوينات توزيعية أهّلتهم للوصول بأغنيات منطقتهم إلى مدن بعيدة في الشام وما حولها، ويؤكد ذلك حظهم في إحياء حفلات في مهرجانات خارج الأردن.
يلتقي سلطان بالرأي في محطة ما مع الدكتور تيسير الذي يقول إن نقاط الضعف كانت تتمحور حول شخصية متعب، فالراحل لم يكن يسعى إلى النجومية، بل كان ينتظر الفرص أن تطرق باب بيته، واكتفى بوظيفته، إذ كان يعمل في إحدى الجامعات، كما أنه في مرحلة ما افتقر مشروعه للرؤية، ويعزو ذلك إلى ارتباطه ببيئته ارتباطًا عضويًا، حد من تحركه. على صعيد آخر، لم يتمكن السقار من المعاصرة، كما فعل أبناء منطقته من الشباب، كحسين السلمان ونجم السلمان ورامي الخالد. كما جعله التزامه ببعض المبادئ معتمدًا على أغنية المناسبة الوطنية، ما تسبب في حصر مشروعه أكثر.
مع ذلك، قدم متعب السقار بعض الأعمال الاجتماعية التي انتقد فيها الحالة التي وصل إليها الناس من اللامبالاة والفساد، مثل وبتسأليني يا بلد، وقدم أغنيات عاطفية، حريصًا على أن تكون منسجمة مع ما يمليه التراث من كلمة ولحن. حتى عندما شارك في غناء الأوبريت الرسمي لمئوية الدولة الأردنية خلينا إيد بإيد، الذي كتبته ولحنه عبد الرحمن القيسي ووزعه أحمد رامي، اختار الغناء على وتيرته المعروفة، ليجري مزج مقطعه بصورة توفيقية للمزاوجة بينه وبين اللحن المعاصر لباقي مقاطع الأوبريت؛ رغم أنه كان على وتيرة من الحماس دفعتنا جميعًا للعمل بجد، حين بارك اللحن المتجدد والكلمة المدينية. شكّل متعب إضافة للعمل الذي احتفت به وزارة الثقافة الأردنية وقدمته عبر منصاتها بالإضافة إلى الشاشات الرسمية وغير الرسمية في الأردن، ليكون آخر عمل يضع عليه الفنان الراحل صوته، كأنه يحمل فيه القرية إلى المدينة.
بالنظر إلى الوراء لا يمكن أن نقول إن الأثر الغنائي الذي تركه السقار، يمكن اتخاذه كمادة صالحة للتدوير والتحوير والاستفادة منه في أفق تطوير الأغنية الأردنية. تعود الأسباب إلى انقطاع ملكية الراحل لهذا اللون؛ فريادته في تقديمه لا تعني بحال من الأحوال ملكيته له، إنما يمكن احتسابها في رصيده وهو يزيل عن هذا اللون الغبار ويعيد تقديمه. هذا على عكس مثلًا تجربة توفيق النمري (١٩١٨ – ٢٠١١) – وهو ابن الشمال الأردني أيضًا – الذي تمكن من صياغة ألحان متجاورة مع التراث الأردني إلا أنها من نسج إبداعه، مثل لوحي بطرف المنديل وغيرها، ما أهّله لتلحين أغنيات لوديع الصافي وسميرة توفيق ونجاة الصغيرة.
كما لا يمكن وضع تجربة السقار في كفة مقابلة لجميل العاص (١٩٢٩ – ٢٠٠٣) الذي استنهض ألحانًا فلسطينية وأردنية وأعاد تقليمها وترتيبها، ووضعها في قوالب أكثر قدرة على المواصلة قطع بها مسافات بلغت لبنان، حيث لحن لوديع الصافي وسميرة توفيق، ومصر حيث لحن لفايزة أحمد ووردة الجزائرية ومحمد منير. قد يُعتبر من غير المنصف مقارنة متعب بالعاص والنمري كملحنين، لكن اعتماده على اللحن التراثي يضعه في سياق المقارنة معهما، بفارق تطويرهما عليه من جهة، واستئثاره به كما خُلق من جهة أخرى؛ ما يدفعنا لوضعه في الميزان مع عبده موسى أيضًا. هنا ترجح كفة الأخير ليس لأنه طور ألحان التراث، بل لأنه قدم أغنيات مسجلة يمكن العودة إليها وتأملها كمشروع، وهو ما لم يستطع السقار أن يفعله، لتظل مجمل أغنياته مقاطع من حفلات ومشاركات، باستثناء الأغنية الوطنية وتراويده في المسلسلات البدوية.