لم يكن صعبًا طلب لقاء مع الجليدي العويني، أحد أهم شعراء الأغنية في تونس. بالرغم من شيوع اسمه في المشهد، تغيب عن الكثيرين هويّة الشاعر الذي يقف وراء أغانٍ أيقونية حفظها التونسيون واستمرّت معهم لأجيال، مثل سلطان حبك ويا حسرة على أيامك يا حمة. التقيت بالجليدي في مقهى ليبراتي في جهة لافاييت، التي كانت مقاهيها سوقًا للشعر الغنائي منذ فترةٍ ليست بعيدة. حدّثني الجليدي بابتسامةٍ عريضة عن صدمة قدومه إلى العاصمة، رتّل بعض أشعاره، وروى مغامراته التي عاشها في بداياته الشعرية والتأثيرات التي شكّلت أسلوبه. تحدّث عن تحوّله إلى الكتابة بالعامية، وعن دوره في البوب التونسي لأكثر من عقدين.
كيفاش بديت تكتب في الشعر الغنائي؟ بديت بالعامية وإلا جرّبت الفصحى من لوّل؟
لحقيقة بدايتي مع الشعر قديمة، ملّي أنا نقرا في الثانوي كنت ننشر القصائد بالفصحى. إلى غاية بداية الثمانينات، وقتها بديت نكتب بالدارجة ولقيت إلّي أنا نجّم نكتب قصائد باللهجة العامية يكونوا قراب للناس. وزيد أنا عشت في وسط معبّي بالشعر الشعبي والشعر الملحون والعامي والغناء.
لو كان توصفلي أكثر شنوة الجوّ إلّي عشت فيه؟
وأنا صغير، بابا كان يخدم في معتمدية منزل شاكر في ولاية صفاقس. والمعتمدية هذيكا من ميزاتها أنه يعيشوا فيها عشائر من أصول مختلفة كيما المثاليث والنفّات والجلاص. نتفكّر كانت كل قبيلة كيف تعمل عروساتها تجيب المغنين متاع القبيلة هذيكا، فهمتني، مثلًا جماعة الجلاص يجيبوا جماعة من القيروان، المثاليث يجيبوا جماعة من جبنيانة، والورغمّة يجيبوا جماعة من الجنوب. أنا في الحفلات هذيّا اكتشفت برشا حاجات.
كيما شنوة؟ وقداش عمرك وقت إلّي بديت تكتشف في الموندو هذا؟
[يبتسم] ملّي عمري ٧ سنين، بدات عينيا تتحلّ على الجوّ هذا متاع الحفلات. من بين الحاجات إلّي نقعد للتوّا متفكرهم، كيف تفرّجت على محمد الصغير ساسي يغني غناية إسمها الليل ليا وأنا لليل، يقول فيها: “الليل ليا / وأنا الليل يواتيني / لا نقلق من سهر الليل / ولا تاخذني عيني.” صغير ساسي هو اللي كاتب قصيدة مرحوم إلّي سمّا عيشة اللي غناها إسماعيل الحطاب. نفتكر زادة كيف الشاهد لبيض يغنّي مرّ فراقك ما طقطاش وإلّي يقول فيها “مرّ فراقك ما تقطاش / يحرق في جاش / والعيشة بلا بيك لواش.” أسامي الفنانين هذوما مستحيل تتمحى من ذاكرتي، خاطر معاهم دخلت لموندو الشعر الغنائي وغطست فيه وكبرت على إيقاعاته وحفظت البحور الموسيقية متاعه.
نتفكّر زادة أسامي متاع غنّاية (مغنين) يتسماو في جهة الساحل الإدبة (جمع الأديب في العامية التونسية)، شيعملوا يبدا الأديب واقف وزوز واقفين معاه يتسماو السعفة (الكورال المردد وراء الأديب). توّا الباهي فيهم وإلّي قعد هو خليفة الدريدي إلّي يغنّي كبّي الفولارة، يقول مطلعها: “كبّي الفولارة يا لبيّة / العشّاقة منك محتارة.” النوع الموسيقي هذايا حلّيت عليه عينيا، خاطر أنا عرفته قبل التلفزة، قبل ما نعرف الفرقة الموسيقيّة والمغنّي اللي كنت نسمعهم في الراديو. أنا أوّل فرقة موسيقية اكتشفتها بعيد على جوّ التراث الشعبي كانت في سبيطار (مستشفى)، وشفت الكمنجة والعود، كان وقتها فمّا برنامج في الإذاعة اسمه الأسرّة البيضاء يدور على السبيطارات ويعملوا حفلات للمرضى. كنت نقزّ (أقفز) مع صحابي من سور ونمشيوا نتفرجوا. فمّا جهات ما يعرفوهاش الإدبة، على هذاكا عملت التلفزة الوطنية عام ١٩٨٠ في افتتاح مهرجان قرطاج عرض اسمه المحفل وهي حفلة عظيمة.
أمّا بالنسبة لقدومي للعاصمة، تخرّجت في بداية حياتي معلّم. قريت في مدرسة ترشيح المعلمين، وكان عندي الهاجس باش نكون قريب من العاصمة. شديت صحيح في حلمتي، بعثت قصائدي لمسابقات غناء تنشط في تونس كان وقتها عمري ٢٢ سنة.
وين بعثت؟ وشنية أوّل القصائد إلّي بعثتها؟
نتفكّر وقتها بعثت لجريدة البيان، كان فيها ركن اسمه همزة وصل للشعراء الغنائيين، والمشرف عليه كان عبد المجيد بن جدّو إلّي كتب قصائد كيما بني وطني لعليا، وكتب لعبد الحليم حافظ يا مولعين بالسهر. شاركت زادة على مدى عام في مسابقة نجوم الغد، صحيح هي خاصة بالمغنين لكن فيها ركن للشعراء الشبّان. في الحلقة الختامية قعدت أنا وحاتم القيزاني وصلاح الدين ساسي الله يرحمه، هو صديقنا انتحر عام ١٩٨٩، كتب وقتها غناية جرحي لشكري بوزيان. كيف تجي للإذاعة والتلفزة، تولّي تعرف الموسيقيين وجماعة من الوسط الأدبي والمسرحيين. هكّا كانت بداياتي معبّية ببرشا تجارب وتعب وشغف.
قصائدي الأولى فيها كانت مطبوعة بجوّ متاع صدمة المدينة، كتبت غناية آش جاب رجلي للمداين زحمة، نقول فيها: “أش جاب رجلي للمداين زحمة / وأش جاب قلبي للناس ما يحبوه / وأش جاب عيني لبرّ ناقص رحمة / لا يطولوا في الودّ لا يصونوه / وأش جابني ما نابني كان التعب وخوه”، وإلي غنّاها عدنان الشواشي من بعد.
كيفاش أثّر قدومك للعاصمة على أسلوبك في كتابة الشعر الغنائي؟
عندي توّا تقريب ٤٠ عام في العاصمة، [يشعل سيجارته ويرتشف منها قليلًا ثم يتابع حديثه] ما نجمش نحصر التغيير في الانتقال الجغرافي من منطقة إلى منطقة أخرى. جيت نقرا في الجامعة تاريخ وجغرافيا، وزيد خالطت شعراء يكتبوا بالفصحى. طبعًا الموروث الثقافي، وخصوصًا الغنائي حاجة مهمة، لكن يتكتب بطريقة عفوية وبإيقاعات معادة. وساعات القصيدة ما تطلّبش تكون طويلة، التفاصيل هذي تولّي تحطها في اعتبارك. والغناء كيف يقرب للموسيقى يولي يعطيني بعد آخر وأفكار أخرى. معاشرتي للملحنين والموسيقيين عاونتني باش نجدد إيقاعات القصائد إلّي نكتبها، فمّا كلام مثلًا ما يتغنّاش، نولي نختار كلمات فيها مدّ ونفس باش تسهال الكتيبة وتكون إيقاعيًا متناسقة ومتناغمة.
بالرغم من كل شي، نقعد ديما نفتكر التصاور اللي تفرجت عليهم في صغرتي في العروض القبايلة كيما طايفة (فرقة) غبنتن، وأنا منهبر وشايخ علّي يعملوا فيه. كيفاش بدنهم يتحركّ ويتمايل على الطبلة، كيفاش الفنانين يغنيوا. هذا الكل يقعد ديما في البال ونستحضره في كتاباتي الشعرية.
خدمت في عام الثالث في الجامعة على التراث الشفوي وجمّعتها. كيما خدمت زادة في وزارة الثقافة، في ٣ سنين جمعت أكثر من مائة كرّاسة متعلقة بالموروث، شعبي غنائي، وبشعراء توانسة من القرن ١٩، وحطيّناها في أرشيف المكتبة الوطنية على ذمّة الباحثات والباحثين في المجال الموسيقي؛ كيما ديوان أحمد بن موسى، وديوان المنصور العلاّقي، أحمد الملاّك والعربي النجّار. فمّا زادة أسماء عاشت في آخر القرن ١٩ وأوّل القرن ٢٠ كيما قاسم شقرون، وكيما عبد الرحمان الكافي إلّي كتب ملزومة الزبوبية: الصبر لله والرجوع لربّي. الجانب البحثي هذا أثّر عليّا وعلى صفتي الإبداعيّة وعلى طريقة كتابتي، خلاتني نفطن (أتيقظ) لإيقاعات ما نعرفهاش. في نهاية الأمر، نلقى روحي ولّات عندي دائرة معرفة حبيت أو كرهت تأثّر على طريقتي في الكتيبة.
شنوة أوّل قصيدة كتبتها في صغرك؟
عام ١٩٨٢ شاركت في مسابقة نجوم الغد بنص سوداوي للتوّا متفكره، متشبّع بشحنة من الوطنية إلى درجة وأن المشرفين على المسابقة قالولي راك مازلت صغير علاش تكتب في كلام كيما هكا.
فكرتني بغناية مازلت صغير غير الوقت مكبرني للشاذلي حاجي. كيفاش كانت الكلمات؟
النص يقول “مظلوم أنا والهنا عدّاني / وإلّي قسم الحظوظ ما ناداني / كل حد عاش أفراحها / وأنا الوحيد ما عشت يوم في راحة / أنا جناين بور / متروك من الفلاحة / وغيث المطر ما يصب في بستاني / مظلوم أنا والهنا عدّاني.” هو نص كيف تسمعه تحسّه متماسك، لكن فيه ياسر سودوية وهينات كتابية، أما هذي هي البدايات ولازم نغلطوا باش نتعلموا.
كيفاش تلقيت الصدمة؟
وأنا صغير في السابعة أساسي قريت ٤ سنين في مدينة كبيرة اسمها صفاقس، ومن بعد مشيت للقابس. يعني أنا علاقتي بالمدن محصورة برك بين الأساتذة والإطار التربوي اللي قريت فيه، ومافيهاش تعقيدات كبيرة. من بعد كيف جيت للعاصمة لقيت حاجة أخرى، وكان وقتها شغلي في التعليم. كيف دخلت للمجال الفني والمجال الأدبي تفاجأت بأنها معبية بالصراعات والمصالح الفردية. وفيها ناس في مرتبة معينة ما يحبوش شكون ينافسهم. فبالضرورة تلقى صعوبات، وتلقى ناس تضرّك من غير حتى سبب أو مبرّر. لين تقعد انت باهت وتسأل في روحك علاش هُمَّ يعملولي هكاكا. يعني أنا ما دخلتش في حياتهم وما فكّيتلهم شي، ولكن من بعد فقت إلّي هُمَّ حسّوني نزاحم فيهم، ونشكللهم خطر في تركينة من التراكن. فيحاولوا بأقصى جهدهم إنهم يقصيوني ويكرهوني في المسألة، وأنا نتفكّر وقتها فمّا شكون جا معايا ومن بعد هرب.
نتفكر وقتها شاعر باهي اسمه عبد الستار السعيداني مشا لإيطاليا، الصحبي الشعير ما كملش مشا رجع لمارث. عبد الصمد كورشيد إلّي كتب ميحي مع الأرياح رجع لمدنين. صلاح الدين ساسي إنتحر [يتنهّد قليلًا ثمّ يستطرد]، يعني المرحلة كانت صعيبة برشا. أما أنا شدّيت صحيح، فهمت أنه يعني لازم نقاوم وقتها الظروف هذيكا، ونرسّخ اسمي في المجال الموسيقي وتولّي عندي مكانة كيما اللي سبقوني. صبرت وتعبت وتحمّلت برشا من غير ما نستسلم. فمّا ناس نعرفهم جاو لهوني معمّلين على المجال الأدبي، جاعوا وماتوا بالغبينة (دلالة على الحسرة والألم والغبطة). أنا كنت محظوظ، خاطر كنت نقرّي ونخدم عندي شهريتي. وكنت زادة نكتب في الجرائد كيما الشروق والأنوار على الكورة خاطر كنت مغروم بيها وقتها. خدمتي خلاتني مستقر ماديًا وما نجوعش، ونهارت إلّي نحس إلّي هوما نزلوا عليا برشا هوكا نشد داري، وأنا مخّي مرتاح من المصروف. الصعوبات هذي كانت بالنسبة ليا امتحان لازم ننجح فيه، [يضحك] ما تخلّينيش نسرح برشا في الكلام ديما وقّفني.
بالعكس، كل تفصيل تحكيه مهم برشا باش نزيدوا نتعمقوا معاك في الكواليس اللي تكتب فيها قصائدك وتخلينا نعيشوا معاك لحظة بلحظة كيفاش تستلهم أسلوبك الكتابي. مثلًا كيف نسمعوا شعرك الغنائي نلاحظوا أنه معجم الأرض والفلاحة حاضر بقوّة في نصك، وهذا من التقاليد المميزة للشعر الشعبي ومن خصوصياته زادة، كيما مثلًا صورة البرق (أي وصف للسحاب والمطر في الشعر الشعبي). نرا في هذا تأكيد علّي حكيت عليه بخصوص تأثيرات البداية والنشأة. أما هل اعتمدت على العامية الجنوبية المحمّلة بالتراث الشعبي، وإلا على عامية المدينة؟
صحيح العاصمة بالنسبة ليا فيها مغريات وفرص هامة، أما هذا ما خلانيش نتنكّر للمدينة اللي عشت وكبرت فيها وحفظتني شوارعها. بالعكس زادت خلاتني نرجع للجذور أما بروح نقدية وحس مختلف، تكوّنلي من برشا تجارب عشتهم في أعوام قرايتي في الجامعة وانخراطي في الوسط الثقافي من الثمانينات. وفي الأخر نلقى روحي انتصرت للعامية التونسية، وهو دور هام استوحيته من تجربة مثقفي الثلاثينات كيما علي الدوعاجي وجماعة تحت السور إلّي جمعوا بين دور المثقف والناطقين بلسان الشارع، يعني باللهجة العامية.
أوّل النصوص إلّي كتبتها كيف جيت للعاصمة، كان نص آش جاب رجلي للمداين زحمة، وقصيدة أخرى زادة اسمها خلوهولي إلّي لحنها من بعد سمير العقربي وغنّاها الهادي حبوبة وانتشرت برشا في العروسات. هذوما أغاني مكتوبين باللهجة الأم متاع الجنوب، ولكن من بعد تدخل في تجارب كتابية أخرى جديدة ومتطبعة بلهجة المدينة. عملت مثلًا غناية للطيفة العرفاوي اسمها من عينيا شبيك هارب نقول فيها: “هارب من عينيا شبيك / ظاهر فيك يا تكذب يا كذبوا عليك.” كتبت غناية آخرى لحسن الدهماني على نفس الإيقاع ومن العينين عليك خايف تقول: “خايف من العينين عليك / موش ناسيك / كيف نخلف ميعادي ليك / افهم لمّا عليك نغير / راني قريبلك أما باش نجيك صعيب / فمّا واحد موش غريب يتبّع فيك / يلوّج في حكايات عليك.”
فمّا عامّية أخرى كتبت بيها وقريبة من الفصحى، مثلًا قصيدة سلطان حبّك اللي غناتها أمينة فاخت ولحنها سمير العقربي: “سلطان حبّك ذلّني / ما دلّني / اليوم الكلام بيه نحكيلك / يالّي غرامك علّني / ما تملّني / لو يوم جيت نشكيلك.”
قريبة من أسلوب الزجل الأندلسي المتوارث في تونس، اللي يجمع بين العامية والفصحى؟
يعني أنا كتبت مفردات القصيدة هذي (أي سلطان حبّك) على إيقاع شعبي معروف باسم المردوف. أنا ديمًا نستفيد من الأصول، ولكن نسعى زادة باش ندمج بينها وبين لهجات أخرى، سواء لهجة المدينة وإلا لهجة نصنعها أنا باعتباري شخص متعلم. كيف تسمع أنا عاشق يا مولاتي اللي لحنها سمير العقربي أيضًا: “يا أحلى لحظة في حياتي / خوذ الحاضر / خوذ الآتي / إنت في عيوني سهرانة / إنت في نبضي سلطانة / وأنا عاشق يا مولاتي.” هوني تحسّ الرنّة متاع الدارجة، لكن الكلام الكل فصيح. وصلت مرحلة فيها مصادري في الكتيبة أو اللهجة أو القفة إلّي ناخوا منها في الكلام تمشي وتزيد تكبر.
أنا عشت في بيئة فيها برشا عشائر وقبائل، ما نتقلقش كيف نقول أنا وإلا أني خاطر جيراننا كانوا يقولوا ثانا وما تقلقنيش كيف نقول زادة. ما عندي حتى مشكل كيف واحد يقول بنمشي وإلا تنمشي وفمّا إلّي يقول باش نمشي، يعني أنا اللهجة التونسية من بنزرت إلى بن قردان نعتبر نفسي نعرفها وسمعتها وموش غريبة عليّا. على هذاكا ما عنديش مشكلة نعمل غناية بكلمة متداولة برشا في الجنوب وبكلمة أخرى من الشمال، يعني نجم نعمل توليفة بيناتهم. لهجتي بيدها تبدلت كيف جيت للعاصمة، صحيح تقعد فيها لهجتي الأم. أما فيها زادة اللهجة إلّي سمعتها، ولهجة الناس إلّي تعاملت معاهم، واللهجة اللي قريت بيها وإلّي هي سكنتني من غير ما أنا نعمل مجهود.
نفس الشيء كان متداول في بعض الأغاني التراثية اللي جمعت بين اللهجات البدوية والحضرية بفعل إضافات الذاكرة الشفوية. لو كان تحكيلنا على الخصوصية اللغوية والشعرية في أسلوب كتابة القصائد العامية، والإيقاعات والموازين التي اعتمدتها.
ما فمّاش خيارات محددّة، ساعات البيت الأوّل يجي وحده. وتلقا روحك تقوله وأكاهو، ماتعرفش عليه شكون بعثهولك، ملاك أو شيطان ما نعرفش [يبتسم]. هو (أي البيت الأوّل) يحطّك في الثنية وقتها وتختار القصيدة وحدها ايقاعها. بعد خدمتك إنت، يا إمّا تكمّل على نفس المنوال، وإلا في الغالب أنا نحب نعمل اجتهادات وإلا تلوينات إيقاعية. طبعًا الموضوع عادة يبقى هو نفسه، مثلًا موضوع عاطفي والا وطني والا وجداني. ولكن نحاول نخلق تصاور وتفاصيل جديدة، وحاجات إلّي تثير السامع. ما فمّاش قاعدة في طريقة الكتيبة، ما نجمش نقول للروحي أيا توّا باش نقعد في الطاولة باش نكتب قصيدة في ميزان المحدور مثلًا. أما فمّا ايقاعات أسهل.
كيما شنوة؟
فمّا إيقاع البورجيلة، هو بحر ساهل وكتبت بيه قصيدة آش جاب رجلي للمداين زحمة. وهو نفس الإيقاع السائد في تونس كيما قصيدة نيران جاشي شاعلة ميقودة، وهز الغطا على الخدّ يا خمّوري. فمّا إيقاعات أخرى كيما المسدّس، يعني فيه ٦ تشطيرات، كتبت عليه قصيدة تقول: “زايد ماعد نداريه / شماتة فيه / نعشق غيره ونخليه / إلي خذاني حبه مدّه / حرام نودهّ / نحسب حبّه سحاب وعدّاه / مع غيره تجمعني مودة / نسعد فيه / ومن باب الماضي نمحيه / شماتة فيه” غنتها نجاة عطية. كيف نقرا زادة بعض أشعار من الموروث الشعبي ويعجبني الإيقاع متاعه نولي نحب نكتب عليه، تولي لحكاية كيما تمرين تطبيقي. ساعات نعمل التمرين من غير ما نخرّجها القصيدة خاطر نحسها مفتعلة، طبعًا بالتجربة وليت نستوعب أكثر الميزان، ووليت نكتب قصائد ممتعة ومقنعة.
مع تنوع الموازين والمشارب الثقافية اللي طعّمت بها نصوصك، تشوف إلّي فمّا ملامح عامة مشتركة بين قصائدك؟
إذا كانت الفصحى هي اللغة الأم، فاللهجة هي لغة الأم ناخذوها من أمهاتنا. اللهجة فيها أكثر حنّ وأكثر قرب وأكثر حميمية في الكتابة. يعني أنت طفلة هكا يجي شخص يحب يعبّرلك على مشاعره، كان يقلّك أحبّك حبًّا جمًّا عظيمًا تظهر ماسطة شوية [يبتسم ثمّ يشرب قليلًا من قهوته]. أما كان يقلك بلهجتنا العامية محلاك وراني نموت عليك، وقتها تولي عندها مطعم آخر خاطر التعبير هذوما توصل فيسع. يعني هذي هي الخاصية الأولى للعامية، والغناء هي حاجة شعبية حتى كيف تكتب غناية ماذابيك (تحبّذ) الناس الكل تغنيها. والناس مستويات، على المستوى التعليمي والطبقي ولكن العامية تجمعهم الكل. كي نكتب بالعامية نولي نوزّعها على الشرائح الكل.
الكتابة باللهجة العامية فيها نوع من المرونة الايقاعية، مثلًا في الفصحى كيف تحب تكتب قصيدة على البحر الطويل يلزمك تكون ملتزم بيه. هذا يختلف في العامية، تنجم تاخو بحر ولكن الموازين عندها جسور تنجم تعدّي بين بعضها. تنجم مثلًا تبدا ببحر البورجيلة ومن بعد تتعدا لحاجة أخرى، يعني فمّا مرونة. يلزم زادة يكون عندك زاد لغوي باهي باش تكتب في اللهجتين، يتمثّل في الرصيد اللغوي إلي تعلمته من داركم ومن تجاربك الحياتية.
تختار مواضيع معيّنة تكتب عليها قصائدك أو لا؟
أنا في قصائدي نقدم أحاسيس، وما نخمّمش في المواضيع وما نطرحش أفكار. غنايات كيما آش جاب رجلي أو حسرة على أيامك يا حمة اللي غنّاها الطرودي، وإلّي تقول “حسرة على أيامك يا حمة / مربوط بعيلة وبمرا / واللي تلمه في شهر تلمه / في جمعة تلقاه وفاء / غطّست أيامك في الخوف / خايف لا كان من مصروف والضوء وتسكرة الماء”، موضوع اجتماعي و يمكن حتى سياسي ولكن أنا خذيته بشكل معاناة مشتركة بين برشا ناس. معناها أنا عبّرت على شخص ينجم يكون أنا، كيما ينجم يكون واحد صاحبي حكالي. كتبت زادة في الجو السياسي قصيدة قديمة شوية: “متقلق / ما تحبّش تسمعني علّق / المتمسّح والمتملّق / والمتخلّق باش يتسلّق / قلت نطلّق البلاد ونعطيها نفقة وإلا وفقة وإلا لا رحمة ولا شفقة / نقعد نتفرّج ونعلّق.” كلام تكتب ينقد في الوضع السياسي وقتها، أما من غير ما جبدت لا كرسي لا سلطة.
كيف نحكيوا على الأحاسيس، موش بشرط تكون عاطفية. صحيح قصيدة كيما يا مولاتي لسمير العقربي أو سلطان حبّك وإلا واش عجبه فيها التي كتبتها لنبيهة كراولي، تحسها متاع علاقة رجل بمرأة. فمّا غنايات أخرى في مواضيع مختلفة كتبت عليها بشكل حميمي وصادق كيما محلى ربيع شبابنا إلّي كتبتها عام ١٩٩٤ نقول فيها: “محلى ربيع شبابنا / مكتبنا وأصحابنا / قرايتنا ونجاحنا / ومحبتنا زمان / للناس الجيران / ودورتنا وصياحنا.” إلّي يسمعها توّا يحس بيها، وهذا هو سر نجاح الأغنية وبقاءها. مهمّ برشا أنها تعبّر على مشاعر ناس ما عاشوش مع بعضهم لا في نفس المكان ولا في نفس الزمان. كيف تكتب بصدق تنجح الغناية، والدليل على ذلك قعدنا نسمعوا في غنايات عندها أكثر من ٤٠ سنة.
علاش ما عملتش تجربة الكتابة مع مغني المزود؟
فمّا زوز أسباب، أولًا أنا تعاملت مع الهادي حبوبة وكتبتله غناية مشهورة خلوهولي في الثمانينات. كيما كتبتله حاجات أخرين، لأنه هو محترم وعنده رصيد هام. كتبت زادة لعبد اللطيف الغزي يا نوّارة. السبب الثاني هو رصيدي الثقافي، خاطر أنا زادة تابع مجال التربية والتعليم والكبير في أخوتي. الناس وقتها ما ترحمكش، وتقعد تحكي عليك كيفاش تكتب في المزود وأنت مربّي أجيال. ربما هذا وهم في راسي أنا، لكن أنا قعدت مقتنع بيه الوهم هذاكا. إضافة وأني نشوف نصوص المزود ما تهتمش بمعنى وبالإحساس كيما غناية يا كرهبة كمال رني رني، وهذا اللي يخليني ما نغامرش ونكتب في المزود.
كتبت لمغنين وملحنين مختلفين، كيما أمينة فاخت وعدنان الشواشي ونجاة عطية ونبيهة كراولي، وكلهم شكّلوا مشهد البوب بين الثمانينات والتسعينات. كيفاش تختار تعاملاتك مع الفنانين؟
تعاملاتي في البداية كانت بالأساس مع الملحنين وموش المغنين، وهذايا لسببين. السبب الأول لأن الملحن هو إلّي باش يلحّن القصيدة وباش يرجعها غناية. أنا أصدرت زوز دواوين فيها نصوص ما تلحّنتش، وهُمَّ الأغاني المنسية اللي صدر في عام ٢٠٠٣ وأنا حزين شوي عام ٢٠١٣. خدمت وقتها مع عدنان الشواشي خاطره مطرب ويلحّن لروحه، والشادلي الحاجي زادة كيف يلحن لروحه. السبب الثاني هو عادة الفنان ما يفهم الغناية كان كيف تتلحّن، يعني باش تمدله قصيدة باش يقلك الله سافا وأكاهو. أما كي يسمعها غناية، وقتها يقرّر باش يغنيها ويشريها ويسجّلها. يعني فمّا جانبين، جانب متعلق بالإبداع وجانب متعلّق بالتسويق باش تخرج الغناية للناس.
غناية سلطان حبّك عندها قصة غريبة شوية، كتبتها عام ١٩٨٩. لحّنها سمير العقربي. لحّنا من الأول الطالع متاعها، ومن بعد تلحّنت بقية الأبيات على امتداد شهر كامل. من عام ١٩٨٩ حتى إلى ١٩٩٩، ما خرجتش الغانية وما شافتش الضوء. غنّاها بعض ساعات سمير في قعدات، حبّوها برشا مغنين كيما كريم شعيب ونجاة عطية ونور الدين الباجي. الكلهم سمعوها ومشاوا ما غناوهاش. عام ١٩٩٩، كانت وزارة الثقافة تحب تخرّج سي دي لأمينة فاخت. أمينة كانت صديقة سمير، وانا ما نعرفهاش مليح وقتها. سمّعها سمير الغناية هذيكا، وهي شدّت صحيح باش تكون الغناية موجودة في السي دي. تقابلنا جميع أنا وسمير وأمينة وشفنا شنوة لازم نعملوا، ما بدّلنا فيها شي تقريبًا. سجّلناها في ستوديو سوكا (Soca) في طريق المرسى مع الفرقة القومية للموسيقى بقيادة عبد الرحمان العيادي وقتها. زمانها تغنّات مرة أو زوز، ومن بعد خذاتها شركة روتانا وقتها عاملة بيرو في تونس تحب تخرّجها في كاسيت. خرجت الغناية وما لقاتش صدى كبير. غناية سلطان حبّك تعرفت كان مع الانطلاقة القوية لأمينة فاخت سنة ٢٠٠٣، كاينها كانت تستنى في صوتها القوي وتحولت إلى حجر أساس في مسيرتها وأحد أهم الأعمال اللي تعكس أسلوب أمينة غير المسبوق.
أمينة كانت أيقونة البوب التسعيناتي، وصنعت نجاحات قوية بفضل نصوصك. شنوة تغير في القصيدة الغنائية العامية منذ فترة التسعينات إلى اليوم؟
نتفكّر في بداية الثمانينات، فمّا مجموعة من الشعراء خرجوا كيما أنا كيما حاتم القيزاني أو حسين شلبي. تقريبًا قعدنا نحنا على امتداد ٢٠ أو ٣٠ عام. معناها بقية الشعراء إلّي جات حذانا، ما طوّلتش. يعملوا فقط غناية ويمشي. توّا ولات حاجة أخرى، توّا الملحنين هُمَّ إلّي يكتبوا غنياتهم ويلحنوها على الجيتارة على طريقة سي لمهف. وآلات الغناية تلوّج على البوز (أي تعتمد على طريقة إثارة الرأي العام) والصدمة، كيما أسلوب مصطفى الدلاجي كيف غنى أنت موش مريق / يا بطية. هو ما يلوّجش على المعنى، بل على الكلمة إلّي تشد الانتباه والناس تسمعها وتحكي عليها برشا. الجو الجديد هذايا ما نجمش ندخل فيه ياسر، خاطر عندي حاجات نخاف عليهم. عملت رصيد ما نحبش ندمره. التغيير للأسف في القصيدة الغنائية العامية ماشي نحو التدمير موش للبناء. الوقت اليوم هو وقت فضائحي والمبتذل، إلّي يتعدا في التلفزة وفي الراديو ماعادش يحبوا يعيطولك كان كيف عندك فضيحة، موش كيف تبدا عندك إنجاز. خاطر كيف تبدا عند جائزة، حتى حد ما يعيطلك. اليوم إنت انسان محترم، يعني راك ما تصلحش للتلفزة.