أُجريت المقابلة بالإنكليزية وترجمتها براءة فاروق.
صورة الغلاف لـ إيزابيل ستاشتشِنكو.
في نوفمبر الماضي وصلني في الإيميل سؤال حول اهتمامي بإجراء مقابلة مع جيروسلم إن ماي هارت، كونهم سيمرّون في رافينا، مسقط رأسي بالتبنّي، كجزءٍ من جولتهم في أوروبا لترويج ألبومهم الجديد قلق؛ وشاءت الصدفة أن أكون الفنان الذي سيقدمهم تلك الليلة في قاعة برونسن الشهيرة في رافينا. بعد أن قام كلانا بفحص الصوت، تجاذبت أطراف الحديث مع المنتج رضوان غازي مومنة، وتناقشنا مع صانعة الأفلام إرين ويسجربر حول ألبومهم الأخير الذي لاقى استحسانًا كبيرًا.
بدافع الفضول، ولأن إرين قالت أنكم أديّتم بعض العروض في ألمانيا خلال الأسبوع الماضي، هل تسبّب اسم جيروسلم إن ماي هارت لكم بالمشاكل وأنتم هناك؟ حيث أي حديثٍ مرتبط بفلسطين وإسرائيل يُعتبر من المحرّمات.
أجل، نلنا نصيبنا الوافر من المشاكل مع بضعة بشر مختلّين. مشاكل حقيقية، وبالطبع الكثير من التأخيرات، خاصةً في الجزء الشرقي من البلد، وتحديدًا في لايبزيج. حقيقةً، كان لدينا عرض كجزء من مهرجان، وأُلغي من قِبل المضيفين، خوفًا من حركة أنتي-دويتشه؛ وهي حركة “نشطاء يساريين” يهاجمون أي انتقاد للصهيونية انطلاقًا من شعورهم الهائل بالذنب تجاه فظائع النازيين في الحرب العالمية الثانية. يتمثّل أسلوبهم بالتشهير بأي قاعة تحجز فنانًا يدعم حركة المقاطعة (بي دي إس)، وأي فنان عربي – عدا الفنانين الذين يقدّمون تلك الأشياء الإكزوتيكية العربية، والاتصال بالبلدية مدّعين أن القاعة أو المهرجان الذي يحجزهم يؤوي فنانين معادين للسامية، ما قد يحرمهم من التمويل.
لكن هذا ليس أمرًا تواجهونه كثيرًا.
لا، لا.
إذا، كيف جاءت فكرة ألبوم قلق؟
وُلِدت فكرة الألبوم بينما كنا نعمل على الألبوم السابق، دقائق تضايق. فكّرت بأنني أريد تسجيل ألبوم يكون بمثابة إصدار شقيق. ليست الصلة بين الإصدارَين بذاك التماسك، لكن الفكرة كانت في: ماذا لو كانت الأوركسترا مختلفة؟ أوركسترا مفككة. لذا فالفكرة كانت موجودة منذ فترة طويلة، حوالي خمس سنوات؛ لكن لم أباشر بها إلا بعد انتهائنا من جولة السنة الماضية. كنا في جولة حول أوروبا حتى آذار / مارس ٢٠٢٠، وكنا ذاهبون إلى ترينتو، قلب الجائحة في إيطاليا، وتحطّم بعدها كل شيء، فعُدنا إلى ديارنا. مرّت ثلاثة أشهر جنونية، فكّرت بعدها في أن الوقت حان لنبدأ التسجيل وحدّثت إرين بذلك، راسمًا تصورًا مبدئيًا لما سنفعله. طبعًا، لم أخرج بموسيقى أستطيع مشاركتها لفترة طويلة، لأنني أعمل بهذه الطريقة؛ وكأن كل شيء يقبع في برزخٍ ما، حتى أبدأ العمل عليه إلى أن ينتهي.
إذًا فقد بدأت كتابة الألبوم قُبيل انفجار بيروت؟
الألبوم بمثابة صدى للانهيار الحاصل منذ أربعة سنوات، وكان الانفجار مثل كرزة على كيكة من الخراء. اكتملت الأفكار وراء الألبوم قبل الانفجار، وعندما وقع كنت غارقًا في مرحلة التأليف.
هل غيّر الانفجار شيئًا في مقاربتك للألبوم؟
من الصعب أن أقول لا. كيف يمكنك ألّا تتأثر بشيٍء بهذه الدراميّة؟ توقّف كل شيءٍ بالطبع لفترة من الوقت، بينما كنا نحاول أن نفهم ما يجري، مع وجود أختي ووالدَي وقلقنا حول ما يجري. من المستحيل القول أن الألبوم لم يتأثر مباشرةً بما حدث، لكنّني أيضًا لا يمكن أن أقول أن هناك في الألبوم ما صُنِعَ كنتيجة مباشرة للانفجار. لكن طبعًا غلاف الألبوم، والصور بداخله، كانت لقطات لِما بعد الانفجار، حيث استخدمنا أعمال توني إليا.
أيضًا، تطرّق بيان الألبوم الصحفي إلى ذكر الأحداث الأخيرة في غزة …
في الحقيقة هذا لم يكن كلامنا نحن، بل شركة التسجيل. مع ذلك، اسم المشروع هو القدس في البال، والبذرة التي أردت حصدها معه هي شعورنا بالضيق في المنطقة، حيث يتركّز أغلبه حول مسألة الصهيونية داخل الشرق الأوسط والمشروع الاستعماري الأكبر للمنطقة، ما هي مشاكلنا ولماذا هم هناك؟ وكيف أننا لا نملك ولو قدرًا ضئيلًا من السيطرة على المسارات التي تتخذها بلادنا.
يستلهم الألبوم بجزء كبير تصوراتك للأحداث الحاصلة في لبنان من الخارج. هل ترى أن رسالته قادرة على مخاطبة المستمع اللبناني الذي يعيش في بيروت؟
هذا سؤال جيّد، ومشروعٌ بالطبع، لأننا تحدثنا حول هذه النقطة مع العديد من الأصدقاء. ليس من السهل أن تكون جزءًا من الشتات، وأن تعيش الأحداث بعدسة الإنترنت والسوشال ميديا وتويتر ويوتيوب. بالطبع، أنت تعايش شيئًا تتفاعل معه عاطفيًا، بالمقابل، هنالك شخص يعيش فعلًا في ذلك الخراء. كان بيت توني أحد البيوت التي دُمّرت تمامًا (بفعل الانفجار)، وعندما أنهت إرين فيديو أبيض برّاق، مزيج لقطات توني مع الموسيقى، أرسل توني: “لقد بكيت وأنا أشاهد الفيديو، صدمني هذا العمل فعلًا.”
كان للعمل صدًى عميق داخله، كشخصٍ طُرِد من لبنان. أعني … غادرها بإرادته الكاملة، لكن الوضع في لبنان طرده بشكل أو بآخر. لفظته الظروف في لبنان، كما فعلت مع الجميع، فحطّ توني في برلين، وهو يعيش هناك منذ سنة ونصف. عندما أرسل إلي تلك الرسالة الوجدانية دمعت عيناي، خاصةً أنه شخص كان هناك (في لبنان) بالفعل وخسر الكثير. قال أنه اختبر هذه المشاعر لأول مرة، وأن الذكريات تدفقت كاملة، وأصبح من الواضح بالنسبة لي لماذا نصنع عملًا كهذا.
لا بد أن هذا زاد فخرك بالمشروع.
بالطبع، وبالطبع عندما انتهينا من التسجيل أرسلت رسالة طويلة لكل المشاركين من لبنان، لأخبرهم أن العمل انتهى، وأنني تراودني مشاعر غريبة تجاهه. كنت فخورًا به وبمساهمتهم فيه، لكنّني أدرك أنهم جزء من هذا المشروع كأناس عاشوا فعلًا تلك الأحداث، وأنني لم أعِشها، وأتمنى أنهم راضون عن كل ما نفعله. خضت معهم نقاشًا مفتوحًا أخبرتهم فيه أن يراجعوني فورًا لو شعروا بأن شيئًا ما غير مريح أو في غير مكانه، وجميعهم أجابوا: “ما الذي تتحدث عنه؟ يعني، ما مشكلتك؟ لماذا تتعامل بهذه الحساسية تجاه الموضوع؟” (يضحك).
أظن أن من يعيشون هذه المواقف ما زال يتعيّن عليهم الاستيقاظ يوميًا للذهاب إلى العمل، بينما تحصل كل الأحداث في الخلفية، في حين يبدو الأمر مختلفًا تمامًا من الخارج.
بالعودة إلى الأوركسترا المفككة، يوجد لديك قائمة طويلة من المتعاونين في هذا الألبوم. كيف جرت هذه التعاونات؟
جميعهم أصدقائنا، أشخاص لعبنا معهم في جولات سابقة وتبادلنا معهم أطراف الحديث وتسكعنا معهم. إنها سلسلة من العلاقات، لا يوجد شخص واحد منهم لم أعرفه قبلًا. وُلِدَت التعاونات من مجموعة محادثات عائمة عن إمكانية التعاون يومًا ما، ولدى العمل على الألبوم فكرت: “حسنًا، لنجرّب لك، قد تكون هذه هي اللحظة المناسبة”، لذا فإن العلاقة الوحيدة التي تربط بين هذه الأسماء هو أن بيننا علاقات في الأساس.
ما فهمته أنك ترسل لهم ملفات وهم يضيفون عليها، ويعيدون إرسالها وتعاود أنت العمل عليها.
أجل، المبدأ الذي أتبعه هو أنني أرسل لهم ما يشبه هيكلًا عظميًا، وأطلب منهم بناء كائنٍ ما حول هذا الهيكل.
وهل تعطيهم أيّة تعليمات؟
رضوان: لا، لا. الإرشاد الوحيد الذي أعطيه هو أنه أيًا كان ما سيعيدونه فإننا سنقوم باستخدامه، لا مجال للتبادل. رمية واحدة فقط لا غير.
إرين: لنكون دقيقين، أنت ترسل لهم هيكلًا وهم يعملون عليه ويعيدون إرساله، ثم تعمل أنت عليه مجددًا.
رضوان: أنا أقوم بمزجه، نعم، لكنّني لا أعيد إرسال أيّة شيء من قبيل “أرسِل كذا وعدّل كذا”. معكِ حق، ليس ما أرسلوه هو ما نسمعه في التسجيل النهائي، فهم يرسلون لي ستِمز وأنا أمزجها وأتلاعب بها. لكن في بعض الأحيان، كما في حالة تراك قلق ٦ لـِ فيز، لم أقم بتدخّلٍ يُذكر. أيضًا، تراك تانتو لـِ لوكريشيا كان تمامًا كما وصلني، حيث أرسلتُ لها بعض الستِمز، وأرسلتْ لي إضافاتها، بعدها قمت بإزالة أجزائي كلها عدا الصوت البشري، وكان هذا التراك النهائي. في حالة ربيع بعيني فقد أرسل لي مزيج ستيريو، كما أرسلت موور مذر تسجيلًا صوتيًا.
رائع، ومن ناحية تقنيات الاستوديو – أعني أن عملك الأساسي هو إدارة هوتِل-تو-تانجو، هل كان هنالك شيء مختلف في طريقة تعاطيك مع الألبوم؟
جرى تسجيل أغلب الألبوم في استوديو التدريب الخاص بي، لا في هوتِل-تو-تانجو، لسبب بسيط هو تطلّبه سلسلة لا نهائية من التعديلات والتبديلات. استخدمنا الاستوديو فقط لنستمع للألبوم بعد اكتماله، خاصةً فيما يخص الترتيب النهائي؛ حيث دخلت أنا وإرين حرفيًا في ليلة التسليم، متخذين قرارات هلِعة في الدقائق الأخيرة. كنت في حالة أنني لم أعد أستطيع تمييز الصورة الأشمل، تائهًا في التفاصيل، فجاءت إرين لتعطي منظورًا خارجيًا، الذي يشبه تمامًا الترتيب، والذي، كما تعلم، يمكن أن يصنع أو يدمّر الألبوم.
سؤال لـ إرين: إذًا هناك شيء موسيقيّ في عملكِ مع الفرقة؟
إرين: لقد ظهرتُ في النهاية، وأنا أقول: “ضع هذا التراك هنا” (تضحك).
رضوان: لا يمكنكِ التقليل من أهمية ما فعلتِ، فعادةً، أتقاضى أجرًا لأقوم بهذا العمل. هذا ما أفعله عادةً، أظهر عندما يهلع الجميع لأقول: “اهدؤوا، فقط قوموا بـ كذا وكذا … ما رأيكم؟” ويردّون: “هذا رائع” وأنا لم أفعل شيئًا حقًا، كل شيء موجود أمامك، عليك فقط أن تراه.
أظن أنك حين تنخرط في صياغة شيءٍ ما لوقتٍ طويل تتغير طريقة نظرك للأشياء.
وتصبح لديك أفكار ثابتة في رأسك حول ما هو صحيح وما هو خاطئ، لذا فإنك تحتاج لشخصٍ آخر لا يملك هذا الارتباط بالعمل ليخبرك لو كان هناك بالفعل شيء ما خاطئ أو في غير مكانه أم لا. أنت تحتاج إلى ذلك. أُدرِك ذلك لأنه في ٩ مرات من أصل ١٠ ستصدمك فكرة إلى أي درجة ينحصر عملي في مُجرّد إراحة الآخرين، وإعطائهم ما لا يزيد عن ٥٪ من بعد النظر الذي كانوا يحتاجون لسماعه من شخص آخر. أدركت أنني أيضًا أحتاج إلى ذلك، لذا أصبحت أقول تعالوا كل يوم.
ومن حيث التقنيات المستخدمة في الاستوديو وكيفية التنفيذ؟
بقدر ما أحب أن أبدو وكأن لدّي تقنيات مجنونة أو أسرار، إلا أن الأمر بالفعل أبسط من ذلك. يجري الكثير من العمل على آيبلتون لايف وماكس فور لايف، والقليل على ماكس/إم إس بي، والكثير من السنثات الموديولر، والباقي عبارة عن مجرّد مزج. أعني أنك لو اطلعت على جلسات التسجيل فهي ليست بذاك الحجم، لا يوجد عدد مسارات ضخم ولا شيء بالغ الدقة. هذا هو عملي، أحب أن أُبقي الأمر بسيطًا في فنّي.
إذَا فالعملية أكثر استرخاءً.
يجري الأمر بسرعة. أنا أمزج بسرعة، بالتزامن مع التسجيل. كان العمل على التراك الأول أبيض برّاق هو الأصعب، لأنه احتاج الكثير من التعديلات على الدرَمز. أرسل لي جرِج خمس نسخ من تسجيلات الدرَمز، أرسلت له الهيكل وأرسل لي خمسة تسجيلات درَمز، ثم قمتُ بتقطيعها مرارًا وإعادة تشكيلها. كان هذا التراك الذي استغرق الوقت الأكبر، لأننا تحدثنا بشأنه وظننا أنه سائرٌ في اتجاه جيّد؛ وفي النهاية، بصراحة، لم أكن حتى واثقًا أنه وصل إلى الشكل المرغوب.
إنها طريقة رائعة لتبدأوا فيها الألبوم، وكأنه يوقفك في مكانك.
هذا ما حاولنا فعله.
سؤال لـ إرين: كيف تُطَوِّرين العرض الحيّ؟ هل تبدأين به خلال عمل رضوان على الألبوم أم بعد ذلك؟
حالما أسمع التراكات، أبدأ بالعمل على البصريات وأحاول اكتشاف ما سيكونونه. بمجرّد ما نبدأ بالأداء والتدريب، أستطيع أن أرى إن كانت البصريات تنسجم مع التراكات كما تخيلتها. لكن نعم، يحاول رضوان أن يشاركني بعض الأفكار. نتحدث قليلًا حول الألبوم ومن يعمل عليه، ومن سيعمل على الغلاف. أتعلم، عندما رأيت غلاف الألبوم أدخلته في العرض الحيّ. إذًا، يتعلق الأمر أكثر بالمحادثات العفوية التي نجريها حول الألبوم، لا بشيء موسيقي. هنالك بعض العناصر الموسيقية في الإسقاطات داخل العرض الجديد.
رضوان: جزء كبير مما نفعله هو أننا نتحدث كثيرًا، نلتقي على الغداء أو العشاء ونتحدث كثيرًا حول هذه الأشياء. بالنسبة لي، أنا لا أرتاح بالعمل إلا من خلال الحديث عن مواضيع وأفكار عائمة، تشبه المشاعر والصور التي نريد استثارتها. مثلًا في بداية العرض، اقترحت إرين أن ننفذه كما نفعل عادةً، وهو ما لم أكن لأقترحه، لكننا فعلنا ذلك. إذًا هناك شيء موسيقي أو تأليفي في العرض الحي. هنالك حس تأليفي في التسجيل، لكن هناك أيضًا شيء تأليفي في العرض، وهو تأليف تشاركي إلى حد كبير. يجب أن نكون إلى حد كبير على نفس الموجة، وأحيانًا أقل لكن بدرجة كافية تُمكننا من المد والجزر معًا.