أصدر وائل كفوري عام ٢٠٠٦ حبك عذاب، أغنية رومانسية متقنة صوتًا وأداءً، تقليلية في موسيقاها؛ أسلوب لم نسمعه كثيرًا وقتها سوى ربما في ألحان مروان خوري. لم تخلُ ألبومات وائل كفوري السابقة من أغنيات رومانسية كما لم تخلُ من المواويل وأغنيات الدبكة، لكن لم يكن متوقعًا أنه بتقديمه أغنية منفردة سيفضّل هذا النمط الأبعد عن بداياته في أداء المواويل والشعبي اللبناني، والأقرب إلى ما كان يقدمه فضل شاكر وإليسا وقتها.
اتضح في ألبوماته اللاحقة أن وائل كفوري تخلى عن كونه الشاب “مزعل كل البنات“، خفيف الأداء والمتنقل بين أساليب مختلفة، إلى كونه الرجل مكسور القلب، صاحب أغنية رومانسية شرقية مليئة بالعتب واللوم والحنين. مع استمراره في هذا النمط ومع ألبومه الغرام المستحيل ٢٠١٤ بدأ يدور تساؤل حول إذا ما كان وائل كفوري يكرر نفسه، حتى عاد ليتصدر المشهد مع أعماله هذا العام. هل كانت المشكلة فعلًا هي التكرار؟ وما المختلف في أعماله الأخيرة؟
بدأ وائل كفوري عام ١٩٩٢ طالبًا في برنامج استديو الفن، عن فئة الأغنية الشعبية اللبنانية، كأحد تلاميذ المدرسة الصافيّة (نسبة إلى وديع الصافي)، وهو ما وضحه وائل كفوري بنفسه حين ذكر أنه حاول تقليد طريقة غناء وديع الصافي في بداياته. لم يكن وائل كفوري أكثر التلاميذ فهمًا لأستاذه، إذ أخذ عنه أناقة العُرَب ودقتها في البداية، ثم أضاف عليها المبالغة في الأداء في سعي لاستعراض أعلى النوت التي بإمكانه الوصول إليها، حتى لو لم يضف ذلك إلى جمال الأداء. لاحقًا، ظهر الكثير من المغنين الذين ارتكزوا على أعلى طبقاتهم الصوتية رغبةً في مزيد من الشحن العاطفي، مثل أدهم نابلسي الذي اشترك في برنامج إكس فاكتر واشتهر كأحد الأصوات الشبيهة بصوت وائل كفوري.
بالإضافة إلى الأغنيات ذات الطابع الشعبي اللبناني والتمويلي، التي كان أشهرها من ألحان سمير صفير مثل ليل ورعد وما وعدتك بنجوم الليل، طرق وائل كفوري باب أكثر من أسلوب غنائي. غنى الخليجي مثل الشوق الشوق أو لا تلوعيني، والمقتبس عن التركي في أغنيات مثل تبكي الطيور من ألحان سلامة شاهين، أو بالغرام المأخوذة عن أغنية لإبراهيم تاتليسس، المأخوذة بدورها عن مقدمة ليه تلاوعيني لأم كلثوم والقصبجي. كما قدم أغانٍ مصرية مثل قلب وجرح وشوق التي لحنها رياض الهمشري ووزعها حميد الشاعري.
كانت له محاولات تلحينية أيضًا، إذ لحّن في ألبوم شو رأيك (٢٠٠١) أغنية عم بكذب عليكي من أشعار عيسى أيوب. حين وصفت المذيعة جومانا بو عيد الأغنية بالموال صحح لها إيلي العليا موزع الأغنية أنها ليست موالًا بالضبط، إنما فكرة “هندسناها بطريقة معينة.” تبدو الأغنية محاولة سرد درامي، وتقع شكلًا بين التمويل وبين الغناء الرومانسي، الذي يشبه ما قدمه وديع الصافي بمشاركة الرحابنة في أغنيات مثل رح حلفك بالغصن يا عصفور أو ولو. بعيدًا عن التصنيفات، فإن الأغنية، ومن بعدها من بعد ألف نهار من ألحان كفوري أيضًا، قدمتا شكلًا مختلفًا عن شكل أغنية البوب التجارية واقتراحًا عما يمكن أن تحتويه.
أصدر وائل كفوري بيحن عام ٢٠٠٧، ألبوم رومانسي عالحل، كلامًا وأداءً ولحنًا، اختفى منه الموال وأغاني الدبكة والاستعراض الصوتي بالكامل، وتعاون مع أسماء جديدة في التوزيع مثل ميشال فاضل. ألحق الألبوم بأغنيتين منفردتين، شو مبكيكي، وقلبي وشو بدي قله، على نفس النمط.
بعد أن أصدر عام ٢٠١٠ ألبومًا ضم أغلب كلاسيكياته وأغنياته المشهورة، استمر وائل كفوري على نفس نمط الأغاني الرومانسية في ألبوم وائل ٢٠١٢. كان الألبوم بداية تعامله مع بلال الزين، الملحن والموزع الموسيقي الذي قدم فضل شاكر في أغلب أغنياته التي نعرفه بها اليوم، كما قدم لوردة الجزائرية آخر أغنياتها، أيام، التي صدرت بعد وفاتها.
يخلط البعض أحيانًا بين التجديد والتنويع؛ إذ تكون اقتراحاتهم للمغني تقديم أنماط أخرى موجودة على الساحة، أو العودة إلى أنماط قدمها في بداياته ولم يعد يقدمها اليوم. يقولون مثلًا وائل كفوري ما عاد أصدر أغنيات مثل ليل ورعد أو مثل شو رأيك أو لم يعد يغني الموال. التزام وائل كفوري بالأغنية الرومانسية الشرقية ليس مأخذًا عليه مثلما أنه ليس مأخذًا على فضل شاكر، ولا على على فارس كرم التزامه بالأغنية المرحة ريفية الطابع، كما أن العودة إلى أشكال سابقة مغامرة غير مضمونة النتائج. في ألبوم وائل ٢٠١٢ مثلًا، لم تشتهر مش مسموح ذات الطابع الشعبي اللبناني للملحن وسام الأمير، الذي لحّن شو رأيك لوائل كفوري، وأحلى أغنيات فارس كرم وملحم زين، مثلما اشتهرت يا ضلي يا روحي في الألبوم نفسه، التي صنع منها السوريون ميمز عن حالهم مع طائرة الميج الحائمة فوقهم:
“إنتي وعم تفلّي لا تبرمي صوبي / خايف بهاللحظة يوقع … يوقع / يوقع أنا قلبي.”
قد تشير الشكوى من التكرار إلى مشكلة ما في شكل الأغنية نفسه الذي جرى الاستقرار عليه، الشكل الذي اتخذته الأغنية الرومانسية الشرقية اللبنانية، كما يسميها صناعها. تعاني هذه الأغنية من تكرار أشكال لحنية وجمل موسيقية مستهلكة، ومن اقتصارها على مقامات شائعة ومحدودة، ما أكد عليه اعتراف الملحنين أنفسهم. يذكر بلال الزين في إحدى مقابلاته أن الأغنية تتجه إلى الاعتماد على مقامين هما عجم ونهاوند، وأن الكثير من المقامات الشرقية فيها تختفي وأنه يحاول تمرير البعض منها في أغنياته لكن بصعوبة. أصبح الغوص في الألحان واكتشاف مضامينها المحتملة أمنية بعيدة.
خلال العشرين عامًا الماضية كان التوزيع هو الجانب الأبرز الذي اتكأت عليه الأغنية في نجاحها وتجديدها، مستفيدًا من الاستثمار الكبير في صناعة الألبومات، وتطور التقنيات والأدوات المستخدمة فيه نتيجةً لذلك. مع ذلك يبدو أن استغلال تطور التوزيع في الأغنية الشرقية الرومانسية ظل في أدنى حدوده مقارنةً بالأغنية الراقصة أو الشعبية، أو حتى الرومانسية ذات الطابع الغربي. حتى موزّع بحرفنة عمر الصباغ لم يقدم في أغنية البنت القوية لوائل كفوري هذا العام مثلما قدم في بدنا نولعها لفارس كرم، أو حتى أغنية ممكن لسيف نبيل وبلقيس، ملتزمًا بالشكل المعتاد لتوزيع الأغنية الرومانسية اللبنانية.
تعاني أغنية وائل كفوري أيضًا، وتشترك في ذلك مع أغلب أغنيات البوب العربي، من الثبات على نفس القالب الشعري المؤلف من مذهب وكوبليهَين، شكلًا ومحتوى، وإن أعطى أحيانًا استخدام ألفاظ أو تراكيب عامية جديدة تلائم عصرها وهمًا بالتجديد. هذا ما حصل في البنت القوية، إذ كانت صفة القوة سببًا للتغزل دونًا عن جمال الروح والشكل الخارجي اللذين اعتدنا عليهما؛ رغم أن مفردة “القوية” ترد في الأغنية بدون سياق ويمكن استبدالها بأي مديح على نفس الوزن. احتوت الأغنية أيضًا على مفردات تذكّر بالمهرجان المصري بنت الجيران: “يا ويلي من حبّا / سكر على مربى” لتبدو الأغنية ككل، المغناة من مقام النهاوند على أوتار الجيتار الهادئة، كمحاولات شبيهة بتطويع المهرجانات وتحويلها إلى أغنيات يستطيع أحد مثل محمد حماقي غناءها؛ محاولات لا تخلو من نظرة فوقية إلى المهرجانات ومفرداتها.
على صعيد آخر، تفتح أحيانًا الدراما بابًا للتغيير في مواضيع الشعر في التترات إذا كانت مرتبطة بها. في عام ٢٠١٧، في وقت فقدت فيه الشخصية الدرامية التي تعتمد المسالمة مقدمةً التروي على الفعل صلاحيتها، بدأ المنتجون وصناع الدراما المشتركة بطرح رؤيتهم الجديدة في السوق، رؤية تقبل بالقليل من الشر والقليل من القسوة كمنطقة رمادية بين الصبر على الظلم وبين الإجرام المطلق، منطقة “خلقتها ظروف الحياة”. كانت النتيجة شخصية جبل في مسلسل الهيبة، الذي “عنده ماضي ونقط سودا ما بتنعد” لكن “أكثر ناس عرفوا الصح هني اللي عملوا غلط” كما تقول كلمات تتر المسلسل، التي غناها ناصيف زيتون وأصبحت سببًا من أسباب شهرة المسلسل.
ظهر مسلسل عشرين عشرين استكمالًا لهذا التوجه، ثم داون تاون الذي غنى شارته وائل كفوري، بعنوان كلنا مننجر. لم يكن التغيير في التتر على المستوى اللحني أو حتى على مستوى التوزيع. اقتصر التغيير على كونه أول عمل لوائل كفوري في تترات المسلسلات من جهة، بعد أن سبقه عليها ملحم زين، إليسا، مروان خوري وغيرهم، وفي كونها لا تخرج عن هذا السياق من الأعمال التي تتملّق المشاهدين.
على كل حال، نجحت كلنا مننجر، على عكس عودة وائل كفوري المنتظرة إلى الأغنية المصرية. هناك سببان عادةً لاتجاه المغني غير المصري إلى الأغنية المصرية، الأول البحث عن إضافة فنية، والثاني توسيع الانتشار وكسب جمهور أكبر. تذكّر تجارب وائل كفوري في الأغنية المصرية بخطوات جورج وسوف فيها، كلاهما صوت قادر على أداء الموال أتى باحثًا عن فرصه في مدرسة الطرب المصري.
تعامل كفوري مع الأسماء نفسها تقريبًا التي لحنت لجورج وسوف، من بينها شاكر الموجي وصلاح الشرنوبي، مع ذلك لم يستطع كسب المستمعين بأغنياته المصرية مثلما فعل الوسوف. لا يذكر صلاح الشرنوبي في مقابلاته مثلًا ناداني الشوق أو على بابك مثلما يذكر كلام الناس لجورج وسوف أو حتى مغرم يا ليل لراغب علامة. يعود ذلك لأسباب عدة، منها شخصية الوسوف التي استطاعت كسب قلوب الشعب المصري، وفي امتلاكه للحن وقدرته على التعريب واللعب بالصوت في مساحات الأغنية الضيقة والآخذة بالسرعة في تلك الفترة؛ بينما أعاق وائل كفوري عن ذلك ارتباكه أمام اللهجة المصرية من جهة، واعتياده لأغنيات ذات سرعات أبطأ تظهر فيها مساحته الصوتية أكثر راحة وجمالًا. كما كان الملحنون أكثر جرأة مع الوسوف مما كانوا مع وائل كفوري من جهة التعامل مع الصوت. في كل الأحوال، ظهر وائل كفوري في الأغنيات اللبنانية الشعبية والتمويلية أو حتى الرومانسية الشرقية بشكل أنسب مما ظهر في الأغنية المصرية، وكانت لُعبته، كما وصفها مرّة.
جاءت أغنية برضه بتوحشني مع أنغام ضربة حجر لم يصب فيها كفوري أيًا من الطائرين، لا الإضافة الفنية ولا زيادة الانتشار. لم تقدم الأغنية، المتشابهة ألحانها مع ألحان مروان خوري في أغنية تيا لـ نوال الزغبي، صوته في أحلى صوره، مضطرًا إلى استخدام طبقة غير مريحة لتناسب غناءه مع أنغام. أما من ناحية الانتشار، فمرة أخرى تفوقت أغنيته اللبنانية على المصرية وانتشرت البنت القوية في مصر أكثر مما انتشرت برضه بتوحشني.
في الحقيقة، تبدو الأغنيات الشرقية الرومانسية التي يقدمها وائل كفوري الآن تعويضًا عما أراد تحقيقه في الأغنية الكلاسيكية المصرية، أو ما بقي منها في التسعينيات. تبدو هذه الأغنيات امتدادًا في البوب التجاري لأعمال بليغ حمدي من جهة، والرحابنة في جانبهم المتأثر بالطرب الوهابي من جهة أخرى، لكنها تأخذ عن الاثنين الشائع عنهما، وأغلب من غنوها عرفوا بنسخ استعادية لأغنيات وردة المشهورة مع بليغ وعبد الوهاب، مثل خليك هنا خليك بصوت فضل شاكر، أو لولا الملامة بصوت إليسا.
يذكر وائل كفوري لدى حديثه عن ألبوماته أنه يفضل أغنيات مناسبة لعمره. يبدو أن مفهومه عن ذلك هو تناسب العمر طردًا مع الاستقرار، بعيدًا عن تحديات جديدة يدفع بها حدود صوته وألحانه. أحيانًا، سمحت الأغنية الرومانسية التي يقدمها وائل كفوري بتشذيب أدائه وتنقية صوته من المبالغات بمساعدة بعض ملحنيها وموزعيها الجيدين، إلا أنها لا زالت عالقة بين مطرقة متطلبات السوق وسندان التردد في تجاوز الكبار.