يبدو لافتًا الحديث عن أغاني عمر الزعني (١٨٩٥ – ١٩٦١) في بيروت اليوم وإعادة أداء أعماله من مغنين متنوعي الأهواء ينتمون الى أجيال مختلفة. تعاد اليوم بشكل أساسي أغنيتا بيروت ويا ضيعانك يا بيروت على ألسنة عدة. يقول في الأولى “ضيعانها تدبل على أمها وتموت بيروت” أما في الثانية فيصف المدينة بأنها “مصمودة في التابوت.” لا يبدو أن مؤدي الأغاني تلك يعلمون عن أي موت يتحدث الزعني تحديدًا. يتركونه يتكلم بألسنتهم كأنه شاهد على موت آخر للمدينة على الرغم من اختلاف المشهد الثقافي والسياسي بين بيروت ذلك الزمن وبيروت اليوم.
ولد عمر الزعني في بيروت بداية القرن العشرين، حين كانت بيروت أقرب إلى تجمّع قرى منها الى مدينة مكتملة. عمل والده الشيخ محمد الزعني في تجارة الحنطة والشعير في محلة السور ساحة رياض الصلح حاليًا وكان بحسب محمود نعمان، مؤلف كتاب عمر الزعني شاعر الشعب، “يتعبد على الطريقة الشاذلية وله تلامذته ومحبوه الذين كانوا يقصدونه ليفقههم في الدين وليفض مشاكلهم الحياتية والدينية.” بدأ دراسته في المدرسة العثمانية التي أسسها الشيخ أحمد عباس الأزهري المعروف كأحد أعلام النهضة العربية في لبنان. حاز شهادة الكلية العلمية عام ١٩١٤ وانتقل بعدها بأعوام إلى الجامعة اليسوعية بمنحة لدراسة الحقوق. درّس في عدة مدارس كما شغل موقع مدير المدرسة الأهلية في بيروت. جُنّد في الحرب العالمية الأولى مع الجيش التركي وانتقل بين مدن عربية عدة منها حمص والقدس ودمشق.
عام ١٩٢٠، عارض الزعني الشاب ولادة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي. كانت أنظار مسلمي بيروت يومها منشدة نحو دمشق ونحو الملك فيصل الذي كان على وشك تأسيس مملكة عربية مستقلة تضم كل من بيروت وعمان وحلب. دفع الجو العروبي السائد بسياسيي المدينة المسلمين إلى مقاطعة أي مشاركة سياسية في البلد المولود حديثًا، إذ كانت القومية العربية مزدهرة في ذلك الوقت بعد تفاقم سياسات التتريك التي اتبعتها السلطنة العثمانية مع قدوم حزب تركيا الفتاة إلى الحكم عام ١٩٠٨. في تلك الفترة، يقال إن الزعني عايش إعدام قافلة من أصدقائه في وسط بيروت، منهم زملاء له في المدرسة العثمانية.
واجه الزعني تحول المدينة وتبدل أنماط عيش سكانها مع تحولها إلى عاصمة للدولة اللبنانية. كان الزعني يومها يتحضر ليصبح فنان مونولوج مكرس في ذلك الوقت من خلال مشاركته الأديب والمسرحي رائف الفاخوري عام ١٩٢١ في مسرحية جابرُ عثراتِ الكرام، ملقيًا بين فصول العمل أغانيه السياسية باللهجة المصرية التي احتفى بها نقاد ذلك الوقت. هكذا ترافقت ولادة الزعني الفنية مع ولادة الكيان اللبناني، ليصبح عمر الزعني من أوائل فناني الدولة الحديثة الذين ساءلوا طبيعة البلد السياسية المستحدثة. يقول مثلًا في إحدى أغانيه “طول عمرو جبل صغير بالكاد يكفي حالو، رسمالو توتة وتينة سبحان مغيّر حالو” وكان قبلها قد أنشد “سوريا هي الوطن وقلبي لها أحسن سكن.“
بدأت أغاني الزعني تنتشر على ألسنة سكان المدينة في تلك الفترة بما يشبه انتشار الأمثلة الشعبية بسبب بساطة الكلمات وارتكاز اللحن على مذهب يصبح سبب انتشار الأغنية. تميزت أعماله بطابع نقدي واضح ذو وجه اجتماعي وسياسي، وأصبح يهابه رجال السلطة. يقول الزعني عن نمط غنائه “ولد في فرنسا وشاع فيها كثيرًا، وبخاصة في عهد لويس السادس عشر، وشعراؤه هم الذين مهدوا للثورة الفرنسية وساعدوا على نجاحها، وقد شاء الله أن يؤسس فرعًا لهذا اللون في لبنان، فكنت أنا هذا الشاعر المؤسس.”
من أبرز الأغاني التي أطلقت شهرة الزعني في بيروت أغنية بدنا بحرية يا ريس التي انتقدت أول رؤساء دولة لبنان الكبير شارل دباس، وقد أجبر إثر إطلاقه الأغنية على ترك وظيفته الرسمية تحت ضغوط سياسية، فتفرغ كليًا للعمل الفني. لا تختلف كثيرًا أغنية بدنا بحرية يا ريس عن أغنية عندك بحرية يا ريس لوديع الصافي التي لحّنها محمد عبد الوهاب وتتطابق في أجزاء منها مع أغنية الزعني الأصلية.
تحولات بيروت
واجه الزعني تمدد تيارات أجنبية إلى بيروت في تلك الفترة كانت قد اقتصرت في السابق على الإرساليات الأميركية والفرنسية في الجامعة الأميركية واليسوعية. مع دخول الانتداب الفرنسي أخذ هذا التمدد شكلًا مختلفًا وانفتحت المدينة اقتصاديًا ودخلت البضائع الأجنبية التي استفادت من ازدياد النزعة الاستهلاكية عند السكان. مع دخول السينما أعيد إنتاج نماذج نمطية اتّبعها أهل بيروت وبدأت المدينة تتحول وتتغير عن شكلها السابق. لعبت السينما دورًا بارزًا في خلق تخيل للمدينة يبدو ظاهرًا في أغنية كله نضيف كله ظريف التي أعادت غناءها ياسمين حمدان وتانيا صالح مؤخرًا، حيث يبدو وصف المدينة فيها كأنه وصف محبوك لمشهد سينمائي:
هرج ومرج وسوق افرنج وتكسيات بتكرج كرج كله نظيف كله خلنج
والأسواق زي الشطرنج نظيفة ظريفة زي التلج
فيها الشبان تتمايل والبنات بتغنج غنج
لوكاندا وتياترات وعالصفين خمارات
الله يبارك بالبارات والنسوان عالتروتوارات
مبودرات محمرات طول النهار أوادم طول الليل نطناطات
بشكل موازٍ، كان هناك وجه آخر للمدينة يختفي في ذلك الوقت هو وجهها الريفي. يقول الزعني في أغنيته صندوق الفرجة التي تفصّل بعض أوجه هذا الاختفاء “الفلاح شلح التبان / عاف السكة والفدان /وراح تعين عند فلان / مغرور بحب الألقاب / وما حاسب للعزل حساب / كان سلطان وصار بواب”. يرى الزعني أن ابن بيروت السابق كان سلطانًا، حتى لو كانت سلطته تُحَد بقطعة الأرض التي يملك، لكن قدرته على الاكتفاء بما تقدمه أرضه كان يعتبر ميزة نادرة تبدلت. صار الاكتفاء والإشباع صعبًا بعد أن سادت النزعة الاستهلاكية بما لها من قدرة على التحكم بالفرد وسلبه حريته، بعكس ما ينظر في العادة للحياة المدينية على أنها أكثر تحررًا من حياة الأرياف. انتقد الزعني تخلي السكان عن ثيابهم التي نشؤوا عليها في أغنية شروال عتيق للبيع، واستبدال الطربوش بالبرنيطة في أغنية لبسنا البرنيطة. كما انتقد انتشار المقاهي التي اعتبرت مكانًا مثاليًا لاستعراض النخب البيروتية أشكالها الجديدة وتحولها التدريجي إلى التمدن. في أغنيته شبان شيك يسخر الزعني من توجه الرجال إلى الاهتمام بمظهرهم وتمثلهم بالفتيات. يقول: شبان شيك وسمباتيك / مشتهيين ريحة المتليك / منتديّن منتزيّن / كل يوم عن يوم منتفنن.” يرى الزعني أن كل هذه العوامل أخذت مدينته السابقة إلى موتها الحتمي وأدت إلى ظهور مدينة جديدة لا يعرفها.
في كل الأحوال، لم يكن الزعني قادرًا على استيعاب كل هذه التبدلات التي حصلت في مدينته، وهي تبدلات بدت خلال العشرينات أنها تصب في مصلحة فئة واحدة من السكان المسيحيين الذين لم يعارضوا الحكم الفرنسي، وتعامل الفرنسيون معهم كورثة سياسيين. أما المسلمون، فقد كانوا منقسمين بين متحمسين للقومية العربية أو القومية العثمانية خلال العقدين الماضيين، وعاينوا سقوط المشروعين سويًا. لذلك، رغم كل التغيرات الإيجابية التي كانت تحصل في المدينة، لم يكن أحد قادر على حل أزمة الهوية والهزيمة، كما أن عمر الزعني الذي رأى نفسه كمونولوجيست شعبي ساخر، كان عليه التقاط نبض الشارع الرافض حتمًا لأي تبدل في المدينة، مهما كان إيجابيًا، وحتى لو كان ذلك بأسلوب شعبوي لا يمكن إنكاره، يصل أحيانًا إلى حد التماهي مع النظرة الدينية التي كانت ترى في الانفتاح الاجتماعي الذي تشهده المدينة تعويذة شريرة ستنتهي أخيرًا بموتها الحتمي، الأمر الذي يمكن التماسه تحديدًا في أغنية بيروت.
يستذكر سكان بيروت اليوم أغاني عمر الزعني ويعيدون أداءها، خاصة تلك التي تنعي المدينة المختفية والمتحولة. هم بالفعل شهدوا اختفاء مدينة الوسط القديمة خلال إعادة الإعمار في التسعينات، والانفجار العقاري خلال العقد الماضي الذي أزال جزءًا كبيرًا من المباني التراثية، وساهم بشكل كبير في توليد خطاب في المجال العام، لا يتوقف عن البكاء على أطلال الماضي.
ورغم الازدهار الذي يشهده قطاع الخدمات الذي أدى إلى تعزيز ثقافة الحياة الليلية والحانات وشوارع السهر، وازدهار القطاع العقاري على أنقاض حرب تموز ٢٠٠٦، هناك شعور مترسخ بدنو النهاية عند اللبنانيين، والأزمات السياسية المتعاقبة التي يمر بها لبنان منذ اغتيال الحريري، تهدد البلاد بالحرب عند كل مفترق للطرق، خاصة مع اشتعال الجبهات في الجوار، والخوف المتزايد من تمددها في أي لحظة إلينا.
هكذا لا يمكن فصل نوستالجيا البيروتيين لعمر الزعني ولـ زمن الستينات الجميل عن الأزمة المتفاقمة التي نعيشها اليوم (وهي أزمة هوية وثقافة أيضًا)، وعن فشل الكيان اللبناني بعد تسعين عامًا على تأسيسه. فلبنان اليوم كالعجوز المريض الذي يحن عند اقتراب حتفه، إلى لحظات طفولته الأولى. هذا ربما ما دفع الى استذكار عمر الزعني في هذا الوقت بالذات، ظنًا أن هذه العودة إلى تلك اللحظات الأولى من عمر لبنان، ربما تقدم أجوبة عما يطرح يوميًا من أسئلة حول مصير هذا البلد المأزوم.