عرّاب الأوتوتيون | رضا الطلياني

عندما بدأ رضا التمني مسيرته كموسيقي في سن الرابعة عشر مع فرقة محلية، كان الأصغر بين أعضائها، وحتى يضمن مكانه بين البقية، عمد إلى ارتداء ملابس رسمية مع قبعة البورسالينو، متشبهًا في ذلك بآل باتشينو في فيلم العرّاب. تشبيهٌ يستعيده في أغنيته فا بيني التي يورد فيها: “عايش في آلجي وهران ولا ميلانو، نريسكي ونبوجي العقلية آل باتشينو.” إثر التزامه هذا المظهر أخذ الناس ينادونه بالطلياني، ومع إصداره لأول كاسيت طلبت منه شركة الإنتاج أن يجد لنفسه اسمًا فنيًا آخر غير الشاب رضا، فاستقر على كنية الطلياني التي لازمته إلى اليوم.

يتكلم رضا الطلياني عن بداياته وانتقاله من الموسيقى الأندلسية وعزفه على المندول، إلى الراي وشغفه بالنقر على السنث الذي مكّنه من استعادة أغاني شاب حسني. في مرحلةٍ أولى، تعرف على الأورج في المعهد الخاص بالموسيقى الأندلسية الذي كان يزوره منذ سن الخامسة – في هذا الإطار يسرد الطلياني كيف كان يسترق العزف على الأورج ويعيد جمل الراي التي علقت برأسه، وهو ما أثار حفيظة المشرفين على المعهد الذين نهروه عن العبث واحترام هيبة الموسيقى الأندلسية – وانتقل فيما بعد إلى السّنث وهو يرافق أحد أقربائه الذي عمل دي جاي في حفلات الزفاف والمناسبات.

تدرّج رضا بين أصنافٍ موسيقية شتى، من الأندلسي والشعبي مرورًا بالراي، ليصل إلى توليفةٍ مهمة من الأصوات جمعت بين الراي وجماليات محدّثة من البوب المغاربي، والتي طعّمها بتعاونات موسعة كان للراب فيها حظوة مميزة، مثل تعاونه مع ١١٣ وماستر سينا ودالي الطلياني وآخرين. طوال تلك المسيرة، استجاب صوت الطلياني لمغامرات التغيير والتحديث المستمرة، واستوعب أغلب التجارب على اختلاف مشاربها. بدايةً، اعتمد الطلياني على نبرته الخام وبراعته في المواويل والمقاطع التي تحتاج نفسًا طويلًا، والتي صقلها من تأثره بعلامات الطرب الأندلسي مثل رينات الوهرانية وجورج وسوف في المشرق.

رغم بداياته الكلاسيكية الأندلسية، ارتبط اسم رضا الطلياني بالراي. في ذلك الوقت، كان الراي الجزائري يدخل مرحلة مختلفة من خلال اعتماد أغلب الفنانين على تقنيات الأوتوتيون ومعالجة الصوت داخل استوديوهات التسجيل. تسرّب الأوتوتيون إلى الراي مع أغنية ما تجبدوليش لـ جنات عام ٢٠٠٢، التي افتتحت موجة جديدة من الراي العاطفي من خلال ترقيق الصوت. دفع ذلك البعض لاتهام الملتجئين إلى الأوتوتيون بأنه ضرب من التخنث، مثلما فعل سليم الشاوي صاحب أغنية زوالي وفحل. امتدت هذه المناهضة إلى الجهات الرسمية، حيث منع التلفزيون الجزائري الأغاني التي تعتمد على الأوتوتيون “حمايةً لتراث الراي من التمييع والتشويه.”

انخرط الطلياني في تلك الموجة، واعتمد في انطلاقته الأوتوتيونية على معالجة مباشرة للصوت. يظهر ذلك في ألبوم جوزفين الذي صدر عام ٢٠٠٤ وسطرَ انعطافةً مهمة في مسيرته. ظهر صوت رضا رقيقًا رغم ما بشّر به من إمكانيات في أدائه للأندلسي، ليحافظ على نفس تلك الملامح لاحقًا مع بقية إنتاجاته مثل خبز الدار ياكلو البراني. استمر اعتماد الطلياني على الأوتوتيون بشكل مكثف، كاستجابة لموجة الراي الألفينية، لكن التحول الملفت كان من خلال يا البابور التي تعاون فيها مع ١١٣.

يظهر الأوتوتيون بشكل جلي في نهاية كل مقطع غنائي يؤديه الطلياني، عبر تلوين مفرط لنهاية القافية بتمديد لحروف العلة ليخلق تأثيرًا مشابهًا لأداء المواويل. سمح صوت الطلياني بإضافة ارتعاشةٍ مميزة لمخارج الحروف، ما خلق زخارف أوتوتيونية لها ترددها الخاص. شكّل ذلك بصمة الطلياني التي بقيت حاضرة في أغلب أغانيه وتعاوناته الخاصة. في يا البابور، انتقل الطلياني إلى مرحلة جديدة وتغاضى عن الأوتوتيون كمجرد معدل للصوت، ليجد التوليفة المناسبة لخامته الصوتية التي تخادعنا في ترددها الأوتوتيوني بين مساحاتٍ مختلفة، منتقلة من الدفء إلى التردد المعدني، وهو ما وفر للطلياني مساحة هامة يحرك فيها صوته.

حافظ الطلياني على توقيعه الصوتي الأوتوتيوني، ومع أغنية فا بيني، أظهر نضجًا أكثر في التعامل مع الأوتوتيون من خلال تنويع طبقاته الصوتية وخلق تردد مغاير في أكثر من موضع من الأغنية التي حملت جملة مرجعية في فلسفة الطلياني أسوة بالشخصية العصاباتية التي يظهر بها آل باتشينو في أفلامه: “عايش في ألجي وهران ولا ميلانو، نريسكي ونبوجي العقلية آل باتشينو” (أينما أكون بالجزائر أو وهران أو حتى ميلانو، فإني أخاطر وأتحرك كثيرًا، مستمدًا روح المغامرة تلك من أل باتشينو).

مع باي باي التي تعاون فيها مع ماستر سينا، ظهرت بوادر مرحلة جديدة في مسيرة رضا الطلياني الأوتوتيونية. أصبحت المساحات الصوتية أكثر زخمًا، على عكس ماستر سينا الذي استخدم الأوتوتيون كمساحيق تجميلية. تظهر لنا الأغنية المسافة الشاسعة بين تعامل الطلياني مع الأوتوتيون وتعامل أقرانه. حافظ ماستر سينا على مستوى صوتي ثابتٍ، على خلاف الطلياني الذي أظهر استخدامًا مغايرًا وتطويعًا مختلفًا لصوته والأوتوتيون في اللازمة والمقاطع الغنائية.

وسع الطلياني من تعاوناته مع الرابرز ومغني البوب المغاربي، وكان من أبرزها تعاونه مع رفيقه في الكنية دالي الطلياني، الذي توّجه بإنتاجاتٍ مشتركة ناجحة أبرزها موشو كاليانتي وسباجليا باجا.

في موشو كاليانتي نحصل على تنويعةٍ صوتية مميزة، فالطلياني لا يعتمد على الأوتوتيون بشكل حصري لكنه ينتقل بين طبقات الصوت المعدنية المعدلة وجفاف خامته الأصلية. مرة أخرى تظهر الفوارق الكبيرة في قدرة الطلياني الأوتوتيونية مقارنة بالبقية. تصل ذروة استعمال الأوتوتيون مع أغنية سباجليا باجا التي يمكن اعتبارها الأكثر نضجًا في مسيرة الطلياني وفي ساحة البوب المغاربي بصفة عامة. تظهر كل انفعالات الطلياني بشكل غير مسبوق، متنقلًا بين الحزن والغضب والخيبة.

استشف الطلياني كلمات الأغنية من وحي تجربته الخاصة في الغربة، وهي تكاد تكون قصة وجع نموذجية للمهاجرين المغاربة في أوروبا، واستخدم نبرة الأوتوتيون المعدنية ليبرز مشاعر الغربة والشوق وعذابات المدن البعيدة، وأثر السقوط في هاوية الجريمة لمكافحة ضنك الحياة بتلك المدن التي يهرع إليها المهاجرون. نجح الطلياني في استخدام الأوتوتيون للتعبير عن مشاعره وانفعالاته، دون أن يجعل ذلك منه أحد “الروبوتات الباكية” على حد تعبير الموسيقي الكندي شيلي جونزاليس في هجومه على الأوتوتيون ومستخدميه. كما وصل تفوقه إلى مستوى مبهر عند اللازمة، التي حملت كل عواطف التحسر والندم. كان الأوتوتيون آلة مرافقة في هذه الأغنية، أثْرت المزج وساهمت في تماسكه الجمالي.

يمكن القول إن تعاونات الطلياني المتعددة جعلت من الكثيرين يدفعون استخدامهم الأوتوتيون نحو مستوى جمالي مغاير، ما جعل بصمته حاضرة في أغلب إنتاجات الراي والبوب المغاربي. على سبيل المثال، نرى ذلك في أعمال دالي الطلياني والشاب خلاص، ففي أغنيتهم المشتركة ميا أموري نلاحظ توزيعًا صوتيًا بين درجات مختلفة وعلى مساحات متباينة، ونلمس نفس الارتعاشات الأوتوتيونية الحاضرة في البصمة الخاصة برضا الطلياني. حتى الشاب بشير الذي عرف بقوة صوته وأدائه، ظهر في أغنيتي الصبابة وتونس لاكازا مع دالي الطلياني، ونسخ طريقة الطلياني من خلال تلوين صوته القوي بطبقة معدنية منتقلًا بين الدفء وتردد الأوتوتيون، محملًا انفعالاته ومشاعر الغربة.

لم يستعمل رضا الطلياني الأوتوتيون كفوتوشوب للصوت، بل كأداة لتجميل بصمته وتنويع طبقاته. كما حوّل الفرضية السائدة التي تحد استخدام الأوتوتيون إلى مجرد غطاء للصوت الوهن إلى تصور جمالي مغاير، وجعله بذلك مكونًا آخر من مكونات المزج الأساسية في الأغاني. باستخدامه الجريء والأصلي للأوتوتيون، أثّر الطلياني على جيل كامل من المغنين في ساحة البوب المغاربي، لينصب نفسه عرّاب الأوتوتيون بلا منازع.